استطاعت الحكومة العراقية بعد مرور أسابيع على الاستفتاء الذي أجراه الاقليم على الاستقلال بمبادرة من مسعود بارزاني، تغير موازين القوى في البلاد بعد استعادتها لمدينة كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها، حيث يمثل تقدم القوات العراقية كما نقلت بعض المصادر نقطة تحول في العملية التي بدأتها الحكومة المركزية وسجلت العديد من الانتصارات ذات الرمزية المهمة والكبيرة. ومثل إنزال العلم الكردي ورفع العلم العراقي بدلا عنه في مبنى محافظة كركوك، رمزا لعودة المحافظة الى سيطرة الحكومة الاتحادية، وانتكاسة كبيرة لمسعود بارزاني. الذي يتعرض اليوم لانتقادات كبيرة حتى من أطراف موالية له في اربيل، بسبب تعنته وعدم قبوله طريق الحوار.
وخسارة كركوك بالنسبة للأكراد تعيد الوضع الذي كان قائما قبل سيطرتهم عليها في 2014 عندما ازدهر إقليمهم الذي يتمتع بحكم ذاتي في ظل دستور عراقي ضمن لهم نسبة ثابتة من إيرادات النفط العراقي الإجمالية. وكانت السيطرة على كركوك وحقولها النفطية تجعل الانفصال أفضل بالنسبة لهم على ما يبدو. لكن بدون ذلك يكون الاستقلال أكثر صعوبة نظرا لأن وضعهم المالي سيكون أضعف منه داخل العراق. وقد دعا رئيس برلمان إقليم كردستان، يوسف محمد رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني إلى التنحي عن السلطة، مضيفاً أن بارزاني سيقدم خدمة كبيرة لشعب كردستان عند استقالته من منصبه. وقال رئيس البرلمان الكردي، في كلمة خاصة بشأن الأوضاع في كركوك، إن الشعب الكردي جميعاً أسير لنخبة سياسية تعمل للسيطرة على ثروات الوطن من أجل توسيع سلطتها.
ولفت إلى أن هذه النخبة السياسية تتاجر بتضحيات الشعب ودماء شهدائه حسب تعبيره. وكان بارزاني قد تعهد، بالحفاظ على إنجازات الأكراد على الرغم من انتكاسة كركوك. وفي أول كلمة له بعد أن سيطرت قوات الحكومة العراقية، على مدينة كركوك الغنية بالنفط، قال بارزاني إن "الشعب الكردي دافع عن هويته وتعرض لمجزرة". وأوضح بارزاني أن "ما حدث في كركوك كان بسبب قرارات فردية من سياسيين كرد"، مضيفاً: "نطمئن الأكراد أننا سنحافظ على مكتسباتهم". وشدد رئيس إقليم كردستان على أن "القوات الكردية ستعيد انتشارها إلى المناطق التي كانت فيها قبل أكتوبر/تشرين الأول 2016". كما اعتبر أن الاستفتاء على انفصال كردستان هو السبب وراء سيطرة القوات العراقية على كركوك، مضيفاً أن "استفتاء الاستقلال لن يضيع هباء".
وتعارض إيران وتركيا المجاورتان مساعي أكراد العراق للاستقلال. وناشدت واشنطن، لكن دون جدوى، الأكراد الذين تحالفوا معها على مدى عشرات السنين ألا يجروا الاستفتاء قائلة إنه قد يؤدي إلى حرب وإلى تفكك العراق. وكانت هناك دلالات على صراع داخلي بين الأكراد الذين انقسموا لعقود إلى فصيلين رئيسيين، هما الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة برزاني رئيس حكومة الإقليم والاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتزعمه منافسه جلال طالباني الذي شغل منصب رئيس العراق من 2003 إلى 2014. ويسيطر كل من الحزبين على وحدات من البشمركة خاصة به. ويؤيد الحزب الديمقراطي الكردستاني بقوة استفتاء الاستقلال بينما كانت بعض شخصيات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أكثر حذرا. واتهم بيان البشمركة مجموعة داخل الاتحاد الوطني الكردستاني بالخيانة لمساعدتها تقدم قوات الحكومة المركزية.
انسحاب الأكراد
وفي هذا الشأن استردت الحكومة المركزية العراقية السيطرة على أراض في مختلف أنحاء شمال البلاد من الأكراد موسعة نطاق حملة مفاجئة ومؤثرة أدت لتغير ميزان القوى في البلاد بين عشية وضحاها. وفي حملة خاطفة نفذتها الحكومة لاستعادة مدن وقرى من القوات التابعة لإقليم كردستان العراق انسحبت قوات البشمركة الكردية من منطقة خانقين المتنازع عليها منذ فترة طويلة والقريبة من الحدود مع إيران.
وسيطرت القوات الحكومية على آخر حقلين للنفط في محيط كركوك، المدينة التي يقطنها مليون نسمة والتي انسحبت منها قوات البشمركة مع تقدم القوات الحكومية. وسيطرت جماعة يزيدية موالية لبغداد على بلدة سنجار. وقلصت العملية الحكومية مكاسب الأكراد الذين أثاروا حفيظة بغداد في الشهر الماضي بإجراء استفتاء على الاستقلال. وقال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يوم إن استفتاء استقلال إقليم كردستان ”انتهى وأصبح من الماضي“.
وفي مؤتمر صحفي في بغداد دعا العبادي إلى حوار مع القيادة الكردية ”تحت سقف الدستور“. ويحكم الأكراد ثلاثة أقاليم جبلية في شمال العراق في منطقة تحظى بالحكم الذاتي وسيطروا على المزيد من الأراضي في الشمال معظمها بعدما ساعدوا في طرد تنظيم داعش منذ عام 2014. وأصدر العبادي أمرا لقواته برفع العلم العراقي على جميع المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد خارج إقليم كردستان نفسه. وحققت القوات نصرا سريعا في كركوك ووصلت إلى قلب المدينة خلال أقل من يوم.
وخلق تقدم القوات العراقية معضلة لواشنطن الحليف الوثيق لكل من بغداد والأكراد والتي سلحت الجانبين ودربتهما في إطار حملتها الناجحة لطرد مقاتلي داعش من العراق. وقال الرئيس دونالد ترامب ”لا نحب فكرة اشتباكهم. نحن لا نتحيز لأي جانب. كانت علاقاتنا جيدة للغاية على مدار أعوام مع الأكراد كما تعلمون وكنا أيضا في جانب العراق“. وحتى الآن يبدو أن معظم تقدم القوات يتم دون مقاومة حيث ينسحب الأكراد قبل وصول القوات الحكومية. ووردت تقارير بشأن اشتباك كبير واحد فقط عند مشارف كركوك.
وقال الجيش الأمريكي إنه تلقى روايات متباينة تفيد بمقتل ما بين ثلاثة و11 مقاتلا في ذلك الاشتباك. وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن انتقال السيطرة حدث على ما يبدو بعد معارك قليلة وإن عدد المصابين لا يتجاوز العشرات. وقال باتريك هاميلتون نائب المدير الإقليمي للصليب الأحمر إنه قلق بسب إغلاق الطرق لاسيما المؤدية إلى الموصل المعقل السابق لتنظيم داعش حيث لا يزال مئات الآلاف يعتمدون على المساعدات.
وعادت بعض الأسر الكردية التي رحلت عن المدينة لمنازلها. وقالت إن آلافا من المقاتلين الأكراد في قوافل مصطفة في طابور طويل تحاول التوجه من كركوك صوب أربيل عاصمة إقليم كردستان الأمر الذي أصاب الحركة على الطريق بالشلل وجعل من الصعب على المدنيين المغادرة. وبالنسبة للأكراد تعد خسارة أرض، خاصة كركوك التي يعتبرونها قلب وطنهم، ضربة قوية بعد أسابيع من تصويتهم على إعلان دولة مستقلة وهو هدفهم منذ عقود.
وقال ملا بختيار وهو معلم متقاعد في كركوك ”زعماؤنا تخلوا عنا وتركونا وحدنا. مستقبلنا مظلم“. وذكر أنه حاول الهرب لكنه عاد مع زوجته وأبنائه بعد أن اتصل به جار عربي وتوسل إليه ألا يرحل وطمأنه بأن المدينة آمنة. وألقى الأستاذ الجامعي سالار عثمان أمين باللوم على السلطات الكردية لدعوتها للاستفتاء على الاستقلال بشكل متعجل. وقال “نشعر بأننا منكسرون الآن. كان الاستفتاء قرارا كارثيا... كان ينبغي أن تفكر قيادتنا الكردية في العواقب قبل المضي قدما في التصويت على الاستقلال. الآن خسرنا كل ما حققناه على مدى ثلاثة عقود.
وأدت هذه الانتكاسات لاتهامات حادة متبادلة بين أكبر حزبين سياسيين كرديين يسيطر كل منهما على وحدات منفصلة من مقاتلي البشمركة. واتهم مسؤولون في الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي ينتمي له زعيم الإقليم مسعود برزاني منافسه التاريخي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يرأسه الزعيم الكردي والرئيس الراحل جلال طالباني ”بالخيانة“ لتخليه عن الأكراد. ونفت أرملة طالباني الذي تولى منصب الرئيس العراقي الشرفي بين عامي 2003 و2014 هذا الاتهام.
وقالت هيرو طالباني إن حزبها حاول لكنه فشل في إقناع الحكومة العراقية بالعدول عن ”خطة الهجوم“ على كركوك عبر اتصالات مع ممثلين للحكومتين الأمريكية والعراقية. وقال إن استفتاء الأكراد على الاستقلال ”لن يهدر“. وأضاف أن منافسين سياسيين أمروا بانسحاب القوات الكردية من المدينة التي سيطروا عليها منذ 2014. بحسب رويترز.
ويعطي تقدم القوات الحكومية دعما سياسيا كبيرا لرئيس الوزراء العراقي الذي واجه تهديدات من الجماعات الشيعية بالتحرك من تلقاء نفسها ما لم يتحرك سريعا لردع الأكراد. وقال عادل عبد الكريم وهو محام من بغداد إنه لو أجريت الانتخابات فسيصوت بالتأكيد للعبادي مضيفا ”لقد نجح في أن يبقي العراق دولة واحدة“. وأضاف ”عندما كان قادة الأكراد يهددون بغداد كان العبادي دوما مبتسما. لم نتوقع أنه كان يخفي إعصارا خلف هذه الابتسامة. أثبت أنه زعيم ذكي وبحكمته تفوق على مسعود (برزاني) بضربة قاضية في الجولة الثانية“.
حرب مفتوحة
الى جانب ذلك دخل أبرز حزبين كرديين في حرب مفتوحة اثر تقدم القوات العراقية في مواجهة مقاتلي البشمركة في كركوك، واتهم مسؤولون في الاتحاد الوطني الكردستاني، رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني ب"سرقة" النفط من أجل تعزيز نفوذه. والعداء بين الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه الرئيس الراحل جلال طالباني، قديم، حتى انهما خاضا مواجهات مسلحة في التسعينات. لكن ما أجج الخلاف هو الاستفتاء حول الاستقلال الذي نظم في 25 ايلول/سبتمبر في اقليم كردستان.
وتقول النائبة من الاتحاد الوطني الكردستاني في البرلمان العراقي ألا طالباني ان الاستفتاء "فرض بالقوة" من جانب رئيس رفض الاستماع الى حلفائه الذين اقترحوا إرجاء لااستفتاء الى حين إجراء مفاوضات مع بغداد بإشراف الامم المتحدة، والى اقتراحات الوساطة التي عرضها الرئيس العراقي الكردي فؤاد معصوم. وقال لاهور شيخ جنكي، المسؤول العام للجهاز الكردي لمكافحة الارهاب في منطقة السليمانية، معقل الاتحاد الوطني الكردستاني، "فيما كنا نقوم بحماية الشعب الكردي، كان مسعود بارزاني يسرق النفط ويعزز نفوذه". واضاف في بيان "اعتبارا من الان، لن نضحي بابنائنا من أجل عرش مسعود بارزاني".
وانتخب بارزاني، رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي أسسه والده، رئيسا لاقليم كردستان في 2009. ومدد البرلمان ولايته التي كانت من اربع سنوات، لسنتين في العام 2013. وأمام المعارضة القوية من خصومه، قال انه لن يترشح للرئاسة. لكنه بعد الاستفتاء انشأ "المجلس السياسي الاعلى لكردستان" برئاسته، على ان تكون مهمته "إدارة نتائج الاستفتاء والعلاقات مع بغداد والدول المجاورة".
وبشكل أعمق، يشعر قادة الاتحاد الوطني الكردستاني ان بارزاني كان يتخذ القرارات بمفرده، لا سيما بسبب مرض خصمه جلال طالباني الذي توفي في مطلع تشرين الاول/اكتوبر. وفي ظل رفضه إعادة النظر في الاستفتاء وتسليم بغداد البنى التحتية والقواعد العسكرية التي سيطر عليها البشمركة خلال الفوضى التي سادت بعد هجوم تنظيم داعش عام 2014، اجرى الاتحاد الوطني الكردستاني مفاوضات سرية مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. وقال مسؤول كبير في الاتحاد الوطني الكردستاني في كركوك "بعض قادتنا تعاونوا في اعادة انتشار القوات الحكومية في كركوك"، مضيفا "سهلوا دخول القوات بدون مواجهات".
واضاف "لقد اعلن العبادي عشية الاستفتاء انه سيصدر الامر بالدخول الى كركوك وسيقيل مجلس المحافظة وسيطبق القانون، لكن القادة الاكراد تجاهلوا هذه الدعوات". وتابع "من جانب آخر، لم يكن الحزب الديموقراطي الكردستاني ووزارة البشمركة يهتمان بشؤون البشمركة (التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني) في جنوب كركوك، كما لم يقدما لهم الاسلحة اللازمة". بحسب فرانس برس.
وتسيطر قوات البشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني على جنوب محافظة كركوك، في حين ان الحزب الديموقراطي الكردستاني يسيطر على شمال وشرق هذه المحافظة التي تتبع بغداد، لكن يطالب الاكراد بضممها الى اقليمهم. ونددت قيادة البشمركة في اربيل في بيان "ببعض مسؤولي الاتحاد الوطني الكردستاني"، متهمة إياهم بأنهم "خانوا وساعدوا في المؤامرة" على الاكراد. وقالت ألا طالباني "ان اعلام مسعود بارزاني يتهمنا بالخيانة"، لكن "لا أحد يعلم أين هي اموال آبار النفط وانتاجها في وقت يسيطر فيه حزب بارزاني عليها منذ حزيران/يونيو 2014".
حقول النفط
من جانب اخر قال ضابط كبير بالجيش العراقي إن قوات الجيش أتمت عملية للسيطرة على جميع حقول النفط التي تديرها شركة نفط الشمال الحكومية في كركوك. وأضاف أن القوات العراقية سيطرت على حقلي باي حسن وأفانا النفطيين شمال غربي كركوك بعد السيطرة على حقول بابا كركر وجمبور وخباز. وقال مسؤولون نفطيون في بغداد إن جميع الحقول تعمل بشكل طبيعي.
وكانت قوات الأمن الكردية المعروفة باسم البشمركة تسيطر من قبل على الحقول إلا أنها انسحبت من المنطقة مع تقدم قوات الحكومة المركزية العراقية. ويأتي تقدم القوات الحكومية العراقية في منطقة الدبس الغنية بالنفط حيث يقع حقلا باي حسن وأفانا في إطار عملية أمر بتنفيذها رئيس الوزراء حيدر العبادي لاستعادة السيطرة على مناطق خاضعة لسيطرة الأكراد خارج المحافظات الثلاث التي تمثل المنطقة الكردية العراقية شبه المستقلة.
وقال العقيد احمد مودي من الشرطة الاتحادية ان "عودة القوات العراقية الى حقول النفط قضية عادلة"، مؤكدا ان "النفط ثروة وطنية، والثروة الطبيعية في كل مناطق هي ملك للعراق". ويبلغ معدل انتاج الحقلين اللذين اوقف الضخ منهما الاثنين، 250 الف برميل يوميا، وهو جزء من النفط الذي يصدره الاقليم رغم معارضة بغداد، وتشكل عائداته ايرادات مهمة. بحسب فرانس برس.
ويقول الجغرافي الفرنسي سيريل روسل "بفقدان هذه الحقول، محفظة (نقود) الاكراد انقسمت الى اثنين"، مضيفا "انها نهاية للاستقلال الاقتصادي لكردستان ولحلم الاستقلال". ويشير روسل الخبير في الشأن الكردستاني الى ان "الرئيس الكردي مسعودي بارزاني بدأ الحديث عن الاستقلال بعد ضم حقلي كركوك في تموز/يوليو 2014، سابقا كان يتحدث عن حكم ذاتي فقط". وتسيطر القوات الحكومية حاليا على ثلاثة من الحقول الستة في محافظة كركوك المتنازع عليها والتابعة لشركة نفط الشمال، اضافة الى عدد كبير من البنى التحتية للنفط والغاز.
اضف تعليق