في شهر رمضان: السلامة في الدين والقلب

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

يحاول الناس في كثير من أيام وشهور السنة أن ينظفوا قلوبهم، وينقّوا أنفسهم من الشوائب، عبر سبل عبادية وتثقيفية وأخلاقية مختلفة، إلا أن مثل هذه الأهداف تكون في شهر رمضان أقرب إلى التحقّق من بقية الشهور، لأسباب معروفة أهمها أن هذا الشهر هو شهر الله، شهر العفو والمغفرة...

(ما ينفع الإنسان في آخرته هو قلبه الطاهر الذي يقدّم فيه العفو على العقاب)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

يحاول الناس في كثير من أيام وشهور السنة أن ينظفوا قلوبهم، وينقّوا أنفسهم من الشوائب، عبر سبل عبادية وتثقيفية وأخلاقية مختلفة، إلا أن مثل هذه الأهداف تكون في شهر رمضان أقرب إلى التحقّق من بقية الشهور، لأسباب معروفة أهمها أن هذا الشهر هو شهر الله، شهر العفو والمغفرة، وهو الشهر الذي تتضاعف فيه الفرص العبادية لتمنح القلوب والأنفس نوافذ كثيرة للتوبة والإصلاح.

من هنا فإن سلامة الدين يمكن أن يسعى إليها الإنسان، ويستطيع أن يجدها، لاسيما في الشهر الفضيل، فهي إذن قضية إيجاد وعثور يمكن للشخص إذا سعى يجدها بعد أن يبذل ما تستدعيه من سعي وإرادة، وفي نفس الوقت هي قضية تكوينية لها وجودها في كينونة الفرد منذ ولادته، وأخيرا هي قضية اختيارية، بحيث يمكن أن يختارها الإنسان عن قناعة تامة، وبالتالي تجتمع في سلامة الدين ثلاثة سبل هي (الإيجاد، والتكوين، والاختيار).

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (نفحات الهداية):  

(إن بلوغ السلامة في الدين أمر ايجادي وتكويني واختياري. آمل أن يكون كلّ منا قادراً على أن يوجد في نفسه السلامة في الدين، في هذا الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك).

ويتمنى سماحة المرجع الشيرازي لعموم العباد أن يحققوا في هذا الشهر الكريم غايتهم في إيجاد السلامة اللازمة في الدين، كونها تكمّل شخصية الإنسان وعقليته، وتزيده استقرارا وتماسكا، كما أنها تجعل منه مقبولا من الناس الآخرين، لأن سلامة الدين تجعل من قلب الإنسان مشعًّا ومؤثرا في عملية إصلاح الآخرين والتأثير في عقولهم باعتباره أسوة لهم.

ولهذا فإن الإنسان الذي يلتزم في تأدية الالتزامات العبادية، بالنسبة للفرائض كالصوم والصلاة فإن هذه الأعمال وسواها تُقبَل منه، لأنه (سليم القلب)، ويسعى جاهدا لكي يبلغ مرحلة (سلامة الدين)، وشهر رمضان يهب له الفرصة التي تقوده إلى غايته، لأن دعاء هذا الإنسان سوف يجعله فائزا بالمراتب العليا التي يستحقها، لذلك نجد في صفحات التاريخ الموثَّق أعلامًا بلغوا أعلى المراتب في سلامة الدين والقلب.

الحصول على المراتب العليا 

وصار هؤلاء نماذج يُقتدى بها، ويعتمد عليهم الآخرون لبلوغ ثلاثية (الإيجاد، التكوين، الاختيار)، كونهم تمكنوا من تحقيق ما يربون إليه في قضية سلامة الدين والقلب، ومعظم هؤلاء كانوا قد انتهزوا الفرصة الذهبية في شهر رمضان لكي يبْلغوا المراحل والدرجات العليا من سلامة الدين والقلب، وهذا ما يعرضه علينا تاريخ العلماء ماضيا وحاضرا.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:  

إن (الشخص الذي يصلي ويصوم ومن تكون أعماله مقبولة، إذا كان قلبه سليماً وطاهراً، سينال بدعائه وتوسله مراتب عُليا من سلامة القلب وسلامة الدين، وهذا موجود في تأريخ الكثير من العلماء الماضين).

بالطبع نحن جميعا نحتاج إلى سلامة الدين والقلب، كونه يحقق حالة الإيمان والتوازن والاستقرار النفسي لكل إنسان، ولكن صفوة القوم وقادته من النخب المختلفة، يجب أن يتحلوا بسلامة الدين والقلب، لسبب بسيط يوضحه القول المعروف بأن (الناس على دين ملوكهم)، والمعني هنا علْيَة القوم وقادته، فالمجتمع بشكل عام ينظر ماذا يفعل قادته.

وبعد ذلك يتأثر المجتمع في نماذجه القيادية، في السلوك، والتصرف، والتفكير، وحتى في طريقة العيش والتعامل، ويذهب بعضهم أكثر حتى الزيّ الذي يرتديه المسؤول الأعلى يمكن أن يؤثر في عامة الناسـ إلى هذه الدرجة يكون تأثير نخب المجتمع وقياداته، لذا عليهم أن يتمسكوا بسلامة الدين والقلب ويقدموا النموذج الصالح للآخرين.

ولا تختلف النتائج هنا بين مجتمع صغير أو كبير، فالجميع يكون لديهم الاستعداد للتأثر بمن يقودهم، فكرا وعقيدة وسلوكا، وهذا بالضبط ما يضع القادة في المجتمع في موقع مساءلة آنية وتاريخية لاسيما عندما تكون نتائج الاصلاح في المجتمع ليست مقبولة.

سامة المرجع الشيرازي دام ظله يشير إلى هذه النقطة فيقول: 

(إن أهم ما يقودُ إلى الصلاح بالمجتمع هي سيرة من يقودون المجتمع، سواء كانت قيادتهم لمجتمع صغير أو لوطن كبير مترامي الأطراف).

القلب وعاء للنقيضين الخير والشر

أحيانا يتساءل بعض الناس، ما هو المقصود بالقلب السليم، وهذا السؤال يأتي في محله، ولغرض الإجابة عنه، لابد أولا أن نعرف شيئا عن القلب، فكما يوصف هذا الجهاز الهام والأساسي من أجهزة القلب، بانه الوعاء الذي يستقبل جميع ما يراه الإنسان في حياته من أفعال وسلوكيات وأقوال وأمثلة مختلفة، وهو غالبا يستقبل الجيد والسيّئ فيكون وعاءً للنقيضين، ولكن يجب على صاحب القلب أن يتخلص بسرعة من الأشياء السيئة.

حتى تبقى في قلبه الأشياء الجيدة فقط، وبالتالي تتحقق درجة عالية من النموذجية في شخصية الإنسان ذي القلب السليم، فهذا النوع من القلوب إذا كان سليما سوف ينقذ صاحبه في أصعب الأيام قاطبة ونعني به يوم القيامة.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(القلب السليم هو القلب الذي يقول عنه القرآن الكريم: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

ولهذا فإن للقلب منزلة عظيمة عند الله تعالى، فإذا كان المال غير مفيد والبنون لا يفيدون آباءهم، والقلب يمكنه أن يقدم لهم الفائدة الأكبر، فهذا دليل على مكانة القلب السليم عند الله تعالى، وفي شهر رمضان يمكن لكل إنسان أن يجعل من قلبه في قمة النظافة والنقاء.

بينما المال بأنواعه، النقدية والعينية، كلها تذهب إلى التراب وتنعدم قيمتها تماما بعد رحيل الإنسان، وكذلك لا يمكن للأبناء مساعدة آبائهم، المعين والمفيد الوحيد للبشر هو قلبه، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على مستوى سلامته وطهارته، وهذا النوع من القلوب يتميز بتفضيله وتقديمه للعفو على العقاب، وهذه أعظم المزايا التي تتميز بها القلوب الطاهرة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: 

(لا ينتفع الإنسان بالمال في الآخرة، فالمال حاله حال التراب، لا نفع فيه!، وكذا لا نفع في البنون في الآخرة، لأنّ ما ينفع الإنسان في آخرته هو قلبه الطاهر الذي يقدّم فيه العفو على العقاب).

في الحقيقة هي مساعٍ فردية بالدرجة الأولى، يقوم بها كل فرد، حتى يضمن سلامة قلبه، ويحفظ دينه، فمثل هذه الحياة التي نعيشها اليوم فيها من المزالق ما لا يعد ولا يُحصى، وهنالك مغريات وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان، لذا مطلوب من الشخص الصالح أن يدعوا ويستغفر ويستجير بربه حتى يساعده على إيجاد سلامة الدين والقلب.

وهذا أيضا ما يدعوه لنا جميعا سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في هذا الدعاء الكريم:

(أسأل الله تعالى أن يجعل كلاً منا قادراً على أن يوجد في نفسه السلامة في الدين، في هذا الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك).

ونحن جميعا نسأل الله تعالى لنا ولنخبة القوم ولعامة الناس، أن يحققوا جميعا سلامة الدين، وحفظ وعاء القلب من دخول الانحرافات والأعمال السيئة فيه، حتى يمكننا العيش في وسط اجتماعي سليم الدين والقلب، لاسيما ونحن نعيش اليوم شهر رمضان الكريم الذي يفتح لنا أبواب الفرص العظيمة لتحقيق هذا الهدف الكبير.

اضف تعليق