q
يعتقد كثير من المستثمرين أن العمل الثقافي لا يمكن أن يتحول إلى سلعة اقتصادية، لذا فإن هذا النوع من الأعمال لا ينفع المستثمرين الباحثين عن المال من خلال الدخول في المنتوجات الثقافية والفنية، وهناك من لا يدرك القيمة المعنوية العالية لرأس المال الثقافي...

يعتقد كثير من المستثمرين أن العمل الثقافي لا يمكن أن يتحول إلى سلعة اقتصادية، لذا فإن هذا النوع من الأعمال لا ينفع المستثمرين الباحثين عن المال من خلال الدخول في المنتوجات الثقافية والفنية، وهناك من لا يدرك القيمة المعنوية العالية لرأس المال الثقافي، وإمكانية حصد الكثير من المنافع المادية عبر العمل في القطاع الثقافي والفني، لكن الأمر يحتاج إلى تقدير أفضل وفهم أكبر للقيمة المعنوية للفكر والثقافة.

كذلك لا يعي المتهربون من الاستثمار في المجالات الثقافية، ما يتسبب به هروبهم هذا من ضعف في الثقافة وتدنٍّ بالوعي، وضمور بالفكر، وبالتالي خلخلة وهشاشة في البنية الاقتصادية، إذ لا يمكن بناء اقتصاد قوي في ظل ثقافة ضامرة أو ضعيفة، هذه النظرة المتخوفة من زج رأس المال الفعلي في تنشيط رأس المال الثقافي، تقود بالنتيجة إلى دولة ضعيفة ومجتمع ناقص الوعي.

وحين تضعف ثقافة الناس، وتندر بينهم الأفكار الفعالة، ويتراجع الوعي، يتم تعويض الحاضر الثقافي بالماضي، من خلال استحضاره كبديل، تُرى ما الذي يدفع مجتمع ما، نحو استحضار الماضي وتغييب الحاضر؟، هذا السؤال يدخل ضمن المشكلات التي يتسبب بها حدوث الفراغ الثقافي، أي أن الثقافة إذا غابت أو انحسرت، وقلّ تأثيرها، فإن المجتمع سوف يلجأ إلى التغنّي بماضيه التليد، ولهذا نلاحظ في العراق أن أبسط الناس ثقافة وتفكيرا، وأغناهم فكرا وثقافة يتغنون بماضيهم في مناسبة أو من دونها.

لماذا تنتشر قيم التخلّف؟

هكذا يطيب لكل عراقي (حتى البسطاء منهم) أن يذكروا دائما بأنهم أبناء حضارة الرافدين التي تمتد إلى سبعة آلاف سنة في عمق التاريخ، وأنهم بلد الكتابة الأول، وأنهم علموا البشرية ما لم يعلموا، وهكذا فإن الجميع يكررون مثل هذه الأقوال، فالبسيط فكرا وثقافة والغني فكرا وثقافة، يستعيد ويستحضر الماضي الثقافي، مهمِلا للحاضر الذي ينوء تحت أطنان من التخلف والفوضى والضياع.

من المشكلات الأخرى للفراغ الثقافي، موت رأس المال الثقافي، وانتشار قيم التخلف بين الناس بشكل مريع، وسرعان ما تقفز القيم الساقطة لتحتل أمكنة القيم الأصيلة الصالحة، فيحتل الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والرشوة مكان الضمير والاستقامة، والبناء بالغش مكان البناء القويم، فتحدث الخلخلة الخطيرة في البناء الاجتماعي، وتتعرض القيم لزلزال الإزاحة من التعاملات بكل مجالاتها ومسمياتها، سواء في العلاقات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرها.

هنالك قول معروف مستخلَص من تجارب الأمم يؤكد على أن (الثقافة إذا هَزَلتْ، هَزَلتْ الأمة)، وأية أهداف او مدخلات لا تضع هذه المعادلة في الحسبان فإنها لن تكون مؤثرة في التقدم والنهضة والاصلاح. فلا يمكن بناء مجتمع ما بصورة سليمة من دون وجود ثقافة سليمة تنطلق من الماضي الرصين والحاضر المؤمَّن إلى بناء المستقبل الزاهر، عبر منتج ثقافي عميق قادر على تحسين التفكير وإنتاج الإبداع وابتكار الأفكار، وتحسين جودة الحياة والارتقاء بأنماط السلوك الفردي والاجتماعي.

خطوات لتنشيط المنتجات الثقافية

لذا من الأهمية بمكان رصد النواقص الثقافية، من قبل جميع المعنيين بها، وعلينا الشروع بوضع الحلول اللازمة والصحيحة، في مبادرات متواصلة وتوصيات ومقترحات، تضع أمام صانع القرار خطوات فعالة وسهلة التنفيذ لصنع الآفاق الثقافية القادرة على ملء الفراغ الثقافي في المجتمع، من المقترحات المهمة والقابلة للتطبيق ما يلي:

- يجب التركيز على فهم الناس جميعا بأن الثقافة ليست (كتابة جميلة) وإنما هي سلوك جميل، والثقافة ليست شهادة علمية مرموقة وإنما سلوك إنساني مرموق.

- كثير من المثقفين والدارسين من الذين يعلنون انتماءهم إلى هذه الطبقة لا زالوا لا يؤمنون بأن الثقافة عبارة عن سلوك جيد وأمين وحافظ لحقوق الآخرين والذات. لذا يتوجب التركيز على هذه النقطة وتوضيحها بشكل دائم.

- يجب التنبّه إلى أن استعادة الماضي يجب أن تدعم الحاضر ولا تكون بديلا له، وهذا يكون ممكنا عندما نأخذ من الماضي أفضله وأرقاه، لندفع به الحاضر إلى أمام.

- يجب أن نعلن بوضوح عن موت القيم الصالحة، أو على الأقل ضعفها، في مقابل نهوض قيم التخلف والاستحواذ والتسلط وانتهاك الحدود المحرّمة للإنسان.

- وهذا يقودنا إلى مرحلة ما بعد الاعتراف، وهي مرحلة التصحيح، وهي تتطلب الدفع بالقيم الصالحة بقوة لكي تزيح القيم المسيئة التي هشّمت البنى الأخلاقية والاجتماعية.

- تحتاج عملية إزاحة القيم المسيئة إلى عمل كبير وجاد ومنظَّم ومدروس، وهو عمل تشاركي يقوم به الجميع، يبدأ من الأسرة (الحاضنة الاجتماعية الأصغر) ليضم أعلى وأضخم الجهود الرسمية والمدنية، في خطط مرسومة بدقة من حيث المحتوى والتنفيذ.

هذه رؤى مختصرة عن الفراغ الثقافي، أسبابه ومشكلاته، وكيف نتصدى له، والموضوع بحاجة إلى آراء كثيرة لإغنائه، ومن المهم أن يؤمن الجميع، لاسيما أولئك القادرون على تحويل المقترحات إلى منجزات، بدور الثقافة وأهمية رأس المال الثقافي التي تفوق جميع رؤوس الأموال حضورا وقوة في المجتمعات المتقدمة.

اضف تعليق