حق فطري للإنسان، يعزز من خلالها عزيمته، ويحرر إرادته ليعيش حياة مليئة بالاختيارات المسؤولة، فالعمل للحياة لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم تكن حرية لم يكن عمل للحياة، علينا ان نترك افراد المجتمع احراراً في كل شيء الا في الجرائم، وبعدها فلننظر كيف تتقدم الحياة وتتنفس الشعوب الصعداء...

تعتبر الحرية من القيم العليا التي شغلت الفكر الإنساني قديماً وحديثاً، وقد شكلت محوراً مركزياً في فلسفات الأنظمة السياسية والدينية والاجتماعية، وفي سياقها الإسلامي، تنوعت الرؤى حول هذا المفهوم ايضاً، ليطرح المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي، رؤية متكاملة ومتميزة تجمع بين الأصالة والاجتهاد، وتوازن بين الحرية الفردية والضوابط الشرعية والأخلاقية لمفهوم الحرية وتطبيقاتها الفردية والاجتماعية.

مفهوم الحرية عند الشيرازي

الحرية عند السيد الشيرازي ليست مجرد شعارا أو ترفا فكريا، بل هي حق أساسي منحه الله تعالى للإنسان، وشرط من شروط كماله وتكليفه، حيث يرى أن الإنسان خلق حراً وله أن يختار في إطار القيم التي تحفظ توازنه الداخلي والاجتماعي. 

وشدد على أن الإسلام جاء لتحرير الإنسان من قيود الجهل والاستعباد والتبعية او الصنمية، وليس لفرض المزيد من القيود الجديدة عليه، ففي هذا السياق يقول: "إن الإسلام دين الحرية بجميع معنى الكلمة، فالإنسان حر في مزاولة كل ما يشاء، ما لم يضر نفسه أو غيره، أو يتعدى على حدود الله". 

ويشير الشيرازي في تفسيره للحرية بأنها حق فطري للإنسان، يعزز من خلالها عزيمته، ويحرر إرادته ليعيش حياة مليئة بالاختيارات المسؤولة، وهذا ينسجم مع قوله: "إن العمل للحياة لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم تكن حرية لم يكن عمل للحياة"، وكان الشيرازي يقدس الحرية ويرفض القيود التي تفرضها الانظمة لحجج واهية بقوله: "علينا ان نترك افراد المجتمع احراراً في كل شيء الا في الجرائم، وبعدها فلننظر كيف تتقدم الحياة وتتنفس الشعوب الصعداء". 

إن هذه الكلمات تبرز ارتباط الحرية بجوهر الإنسان، حيث يزدهر الإنسان عندما تكون خياراته مفتوحة ومبنية على اختياره الحر، مع الحفاظ على المبدأ الأساسي الذي يتضمنه الدين الإسلامي، وهو حماية حقوق الآخرين وحرمتهم.

الحرية المسؤولة

رغم إعلاء السيد الامام الشيرازي لقيمة الحرية، إلا أنه لا ينادي بحرية مطلقة، بل بحرية مسؤولة. هو يؤمن بأن الحرية التي تنفلت من القيم والمبادئ تتحول إلى فوضى، فتؤدي إلى تفكك المجتمع وخراب النفوس، ومن هنا، يضع مجموعة من الضوابط التي تؤطر ممارسة الحرية:

1. ضوابط شرعية: يجب أن تكون الحرية منسجمة مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تهدف إلى حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فلا حرية تبرر انتهاك حقوق الآخرين أو الإخلال بالنظام العام.

2. ضوابط اخلاقية: الربط بين الحرية والأخلاق أمر أساسي في فكره حيث يرى أن الأخلاق هي صمام الأمان للحفاظ على التوازن بين الحرية والمسؤولية، حيث يشير السيد الشيرازي الى ان:

"الإسلام يضرب بشدة على يد الظالم ومن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، وبعد ذلك فأنت حر في كل شيء". 

3. ضوابط المصلحة العامة: يشدد على أن الحرية يجب أن تمارس بما يخدم مصلحة الأمة والمجتمع، لا بما يضر بوحدته أو يهدد أمنه واستقراره.

الحرية والأنظمة الاستبدادية:

لم يكن فكر الامام محمد الشيرازي مجرد نظريات مسطرة في الكتب، بل كانت مبادئ راسخة في ضميره ووجدانه، وقد اتخذ طوال مسيرته في الحياة موقف واضحة وشجاعة من الأنظمة الاستبدادية التي تصادر الحريات او تقمعها، سواء كانت أنظمة دينية أو علمانية، وقد دعا إلى الشورى كبديل عن الاستبداد، واعتبر أن السلطة التي تقصي الشعب وتتحكم بمصيره دون مشورته هي سلطة غير شرعية، كما في قوله: "إن الإسلام دين الحرية والشورى، ولم يأت للاستبداد والاستئثار بالرأي والقرار". 

الاستبداد بنظر السيد الشيرازي هو أصل كل فساد، وما تلبث الحرية أن تتحول إلى فوضى إذا فقدت الضوابط، بينما تفتح الحرية المتوازنة آفاق التطور والتجديد، وهو يشدد على أن كل سلطة تسلب الشعب حقه في اتخاذ القرار يجب أن تعتبر غير شرعية، ويجب أن تبقى الحريات مصونة في إطار العدل والشورى.

الحرية والحياة

ينطلق الامام الراحل من رؤية شمولية للحرية تشمل مختلف نواحي الحياة، وفي مقدمتها:

ا. حرية التعبير: يؤمن بحرية الكلمة والرأي، ويرى أن إبداء الرأي حتى في الأمور الدينية والسياسية هو حق لكل إنسان، ما دام في حدود الأدب والموضوعية.

ب. حرية المعتقد: يؤمن بحرية الأديان والطوائف والمذاهب، ويدعو إلى التعايش والتسامح، ويدين التكفير والعنف المذهبي، ويدعو إلى أن تكون العلاقات بين المذاهب مبنية على الحوار والاحترام.

ج. حرية المرأة: يرى أن للمرأة حقاً مساوياً للرجل في المشاركة في الحياة العامة، والتعليم، والعمل، واتخاذ القرار، في إطار الالتزام بالأحكام الشرعية.

د. حرية التعليم والتعلم: يشدد على أن لا تقيد حرية الإنسان في طلب العلم، وأن الأنظمة الشمولية التي تحتكر المعرفة أو تفرض مناهج معينة تقمع الإبداع وتحارب التنوير.

لقد وضع المرجع الراحل تصوراً متكاملاً للحرية، يوازن بين الحق الفردي في التحرر وضرورة الالتزام بالقيم والضوابط الشرعية والأخلاقية، ان مشروعه الفكري في هذا المجال يعد دعوة واقعية لتأسيس مجتمع يؤمن بحرية الإنسان، ويرفض الاستبداد، ويحتكم إلى الشورى والعدالة. 

وهنا نطرح جملة من التوصيات الختامية المستمدة من فكر الامام الشيرازي حول الحرية:

1. تعزيز ثقافة الحرية المسؤولة: يجب نشر الوعي بأن الحرية ليست مقيدة او مصادرة في الإسلام وانما هي حرية مقترنة بالمسؤولية، وأنها تمارس ضمن إطار القيم والمبادئ الإسلامية والاخلاقية.

2. رفض الاستبداد بجميع أشكاله: ينبغي الوقوف ضد كل أشكال الاستبداد السياسي والديني، والعمل على إقامة أنظمة تقوم على الشورى والعدالة، لأنها تمثل القواعد الاساسية لبناء الحرية وتعزيزها داخل المجتمع. 

3. دعم حرية التعبير والمعتقد: تشجيع الحوار المفتوح بين مختلف المذاهب والأديان، واحترام حرية المعتقد كحق إنساني أصيل.

4. ضمان حقوق المرأة: ضمان حقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة العامة، بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية في حفظ كرامتها وخصوصيتها.

5. إصلاح المناهج التعليمية: تطوير المناهج لتشمل مفاهيم الحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان ونبذ العنف والاستبداد، وتربية الأجيال على هذه القيم وغيرها.

6. طباعة الكتب: من اجل زيادة الوعي بثقافة الحرية والعمل على ترجمة ونشر وتوزيع الكتب الخاصة بقيم الحرية بين افراد المجتمع، خصوصاً كتبه (رحمه الله) لتعميم فكره الوسطي والمعتدل في العالم الإسلامي.

7. إقامة الندوات والمؤتمرات العامة: تنظيم فعاليات علمية وثقافية عامة تسلط الضوء على مفاهيم الحرية في الإسلام وضوابطها الاخلاقية ومسؤولية الافراد والمجتمع في الحفاظ عليها.

9. تعزيز الإعلام الهادف: إنتاج برامج إعلامية توعوية تبرز أهمية الحرية والعدالة في بناء المجتمعات الإسلامية.

10. مؤسسات المجتمع المدني: دعم إنشاء مؤسسات تهدف إلى حماية الحقوق والحريات، وتعزز المشاركة المجتمعية الفعالة.

إن العودة إلى فكر السيد محمد الشيرازي في وقتنا الراهن، يمثل فرصة حقيقية لتجديد الخطاب الإسلامي والانساني من اجل انتشال الانسان من بؤس الاستعباد وقيود التبعية، وبناء عالم أكثر إنسانية وتسامحاً، يؤمن بالحرية والدفاع عنها، ويرفض العبودية وسياسية الاستبداد وفرض القيود.

* مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق