في زمن تكثر فيه الأسباب التي تدعو للعنف، يقدم السيد محمد الشيرازي اللاعنف، كمنهاج عالمي شامل، يمكن أن ينقذ البشرية من الدمار، ويقودها نحو السعادة والسلام، هذه الرؤية لا تنتمي إلى دين أو مذهب أو قومية، بل تنتمي إلى الإنسان، إلى ضميره، وإلى حلمه بعالم أكثر أمنا وطمأنينة...
في عالم اليوم يتصارع الجميع من اجل مصالح آنية وان كانت نتائجها مدمرة، في عالم اليوم الحروب لا تتوقف، وصوت الدمار والقنابل والتحريض اعلى من صوت العقل والحوار والسلام، حيث العنف أصبح لغة مألوفة لدى الجميع، الدول والشعوب والمجتمعات، وبين السلطات والأفراد، الجميع يمارس العنف والقسوة بعيداً عن السلام والرحمة.
هنا تظهر الحاجة الماسة للبحث عن بديل إنساني، حضاري، وأخلاقي، يمكن أن ينقذ البشرية من دوامة العنف والتدمير الذاتي، هذا البديل، كما يؤمن به الكثير من المصلحين والمفكرين والعقلاء، الى حيث "اللاعنف"، لا بوصفه موقفا سلبيا أو ضعفا، بل كقيمة حضارية انسانية عالمية متسامية، تتجاوز الانتماءات الشكلية وتستند إلى المبادئ الإنسانية الكبرى، وفطرة الانسان التي خلقها ميالة للجنوح نحو السلم والسلام والتسالم.
ان اهم الأصوات المعاصرة التي دعت إلى تبني هذا المنهج، يبرز المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي، المرجع والمجدد الذي خاض في مختلف ميادين المعرفة، ومنها الفكر السياسي والاجتماعي برؤية تتسم بالرحمة والعقلانية والواقعية وفق منظور اسلامي يتماشى مع فطرة الانسان السليمة.
وقد قدم مشروعا متكاملا لللاعنف بوصفه ضرورة حضارية لإنقاذ البشرية من ظلمات العنف والاستبداد، حيث يرى أن اللاعنف ليس مجرد أداة مؤقتة لتحقيق غاية، بل هو أسلوب حياة ونهج إنساني متكامل يمكن أن يعيد ترتيب العلاقة بين البشر على أسس من الرحمة والتعاون، بدلا من الصراع والتناحر، معتبرا: "ان العنف من المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوة الخيرة".
مفهوم اللاعنف
اللاعنف لا يعني الاستسلام مطلقاً، كما لا يعني التخاذل أمام الظلم او التنازل عن الحقوق كما يفهم البعض، اللاعنف هو موقف أخلاقي وفلسفي وفكري يرفض استخدام القوة في نسج العلاقات الإنسانية، او محاولة فرضها بالقوة، بل يفضل الحوار، والإقناع، والتفاهم، كأدوات لحل النزاعات مهما كانت اشكالها، هذا المفهوم تطور عبر العصور، وتبنته بصورة عملية شخصيات كبرى عبر التاريخ امثال غاندي في الهند، وقد اشار السيد الشيرازي الى هذا المعنى بقوله: "إن الجانحين إلى السلام بقوا أعلاماً في بلادهم، وفي غير بلادهم بينما الجانحون إلى العنف والخشونة والشدة والغلظة ذهبوا ولم يبق لهم أثر إلا آثار النفرة والابتعاد"، ولكن أضاف إليه بعدا أعمق، حين جعله جزءا من مشروع نهضوي عالمي.
يرى السيد الشيرازي أن اللاعنف هو قاعدة من قواعد العقل الجمعي، وإنه يمثل أقصر الطرق للوصول إلى التغيير الحقيقي دون تكلفة باهظة، فالتاريخ يعلمنا أن كل ثورة قامت على العنف أفرزت في النهاية عنفا مضادا، (كما هو الحال في الثورة الفرنسية قديماً او الربيع العربي في الوقت المعاصر مثالاً)، في دوامة عنف لا تنتهي بين الطرفين، بينما الحركات التي اتبعت أسلوب اللاعنف تركت أثرا وارثاً حضاريا ممتدا الى وقتنا الراهن.
إنقاذ البشرية
العالم اليوم يقف على حافة هاوية، الحروب لا تزال تندلع هنا وهناك، من النزاعات الإقليمية الصغيرة إلى الصراعات الكبرى التي تهدد الأمن العالمي، ملايين البشر يهجرون من اوطانهم، مشردون بلا طعام او مأوى، وآلاف الأطفال يحرمون من التعليم، والبيئة تدمر كل يوم بسبب السياسات العدوانية والسباقات التسليحية التي تقودها انظمة مستبدة، بل ان العنف وصل مراحل تجاوز فيها الانسان الى الطبيعة والارض التي دمرت بسبب العنف المفرط في استنزاف مواردها من دون مراعاة، حيث اشار الشيرازي (رحمه الله) الى ان: "الحرب من أبرز مظاهر العنف خصوصاً الحروب الحديثة، فاللازم الحيلولة بكل صلابة وقوة دون وقوعها، بل لحيلولة دون وقوع مقدماتها".
وقد طرح الشيرازي اللاعنف ليس كخيار أخلاقي فقط، بل كـ"خطة استراتيجية للنجاة"، حيث يدعو إلى إنشاء منظومات سياسية واجتماعية تقوم على أساس الحوار بدل الإقصاء، وعلى التسامح بدل الانتقام، وهو يرى أن الدولة، إن أرادت البقاء، يجب أن تؤسس على العدالة لا على القهر، وعلى احترام الإنسان لا على كسر إرادته، كل ذلك لا يتحقق بالعنف، وإنما بالاقتناع الداخلي والمشاركة الحرة بين افراد المجتمع، ولا يستثني في ذلك اي شكل من اشكال الحكم او المجتمعات الاسلامي، العلماني، الديمقراطي، الاستبدادي، في ممارسة العنف التي ستؤدي به الى الهاوية، ففي حديثه عن بلاد المسلمين يقول: "من يتصور أنه يمكن إنقاذ بلاد الإسلام بالعنف، سوف يبرهن له الزمان عكس ذلك".
الحرب ليست فقط صراعا مسلحا بين طرفين، إنها آلة تحطم كل ما هو جميل في الحياة، في كل حرب، هناك أشياء لا تحصى تموت: (الأفكار، الكتب، الحياة، الأحلام، البيئة..الخ)، الحرب تدمر البنى التحتية، وتعيد المجتمعات إلى عصور الظلام، وتزرع الكراهية بين الافراد والمجتمعات لسنوات وعقود.
يرى السيد الشيرازي أن الحضارة هي تراكم جهود إنسانية مشتركة، وإنها تتطلب الأمن والاستقرار لكي تزهر، ولهذا، فإن الحروب تعتبر العدو الأول للحضارة والانسانية ايضاً، لذلك فإن كل قنبلة تسقط، تسقط معها فرصة تعليم، ومشروع زراعة، وخطة تنمية، فاللاعنف ليس فقط من أجل الإنسان المعاصر، بل من أجل الأجيال القادمة.
نظام عالمي جديد
من التغير المناخي إلى الفقر، ومن الهجرة القسرية إلى الأوبئة، تعاني الإنسانية من تحديات كبرى لا يمكن حلها عبر العنف أو عبر صراعات المصالح، السيد الشيرازي يحث على أن التعاون الدولي، واحترام كرامة الإنسان، وتغليب المصلحة الإنسانية العامة ويعتبرها هي المفاتيح الاساسية لأي حل يمكن ان يخدم الانسانية من الانجراف نحو هاوية العنف.
واللاعنف، كما يطرحه، يمكن أن يكون أساسا لبناء نظام عالمي جديد، تكون فيه الإنسانية والسلام وبناء الحضارة محور السياسات، وتكون فيه المعرفة والرحمة والعفو والتسامح أدوات العمل، لا السلاح والقوة والعنف، فالسياسات اللاعنفية تفتح الباب أمام توجيه الموارد نحو الصحة والتعليم والبحث، بدل الجيوش والمعدات الحربية.
ثقافة اللاعنف
لكي يصبح اللاعنف واقعا، لا بد من بناء ثقافة تدعمه، هذا يبدأ من التربية في المدارس، ومن الإعلام، ومن خطاب النخب الفكرية، السيد الشيرازي دعا إلى تحويل اللاعنف إلى "نمط حياة"، يتمثل في طريقة التعامل داخل الأسرة (باعتبارها اللبنة الاولى والاساسية لبناء المجتمعات الانسانية)، وفي المدارس، وفي أماكن العمل، وليس فقط ضمن سياقات شكلية تتبنها الدولة ومؤسساتها.
الثقافة التي تقوم على الاحترام المتبادل، على حق الاختلاف، على الحوار وابداء الرأي، قادرة على تفكيك جذور العنف المتراكمة في النفس البشرية نتيجة لسياسات خاطئة سابقة، ولذلك، فإن مشروع اللاعنف، كما يراه، ليس فقط مشروعا سياسيا أو دينياً، بل مشروعا ثقافيا وإنسانيا متكاملا.
في منطقة الشرق الأوسط، على سبيل المثال، حيث تراكمت الصراعات وتوالت الحروب وتصلبت الأنظمة، أصبح العنف جزءا من الحياة التي تعيشها معظم المجتمعات هناك، ومع ذلك، فإن هذه المنطقة، التي شهدت مهد الحضارات، واول الاديان السماوية هي الأَولى بأن تتبنى اللاعنف كخيار استراتيجي ومبدئي للخروج من الأزمات التي تعيشها اليوم بسبب العنف وتبعاته.
يشير السيد محمد الشيرازي إلى أن تطبيق مبادئ اللاعنف في المجتمعات الشرق اوسطية، يمكن أن يحدث تحولا جذريا في طبيعة الأنظمة والعلاقات الاجتماعية والسياسية، فاللاعنف لا يعني التخلي عن الحقوق، بل هو وسيلة حضارية لاستعادتها من دون تدمير.
إن بناء ثقافة اللاعنف في الشرق الأوسط يتطلب إعادة النظر في مفاهيم الحكم، الأمن، السلطة، وحقوق الإنسان، فالدول التي تحكمها القوة، لا تبني إنسانا حرا، والدول التي تؤمن بالشورى والتشاورية والعدالة الاجتماعية والكرامة ونبذ الاستبداد والتفرد في السلطة والقرار، هي وحدها القادرة على أن تنتج استقرارا وازدهار وسلام دائم.
ومن هنا يمكن التأسيس للمجتمعات الاستشارية في الشرق الاوسط والتي اشار اليها السيد الشيرازي: " المجتمع الاستشاري هو الذي تربط أفراده علاقات روحية متبادلة، سواء العلاقات بين أعضاء الحكومة، أو بين الحكومة والشعب، أو بين الشعب والحكومة، في إطار الواقعية والعقلانية، وبذلك سيكون الحكام على مستوى راق من الشعور بالمسؤولية، وبالمقابل سيدعم الشعب الحكام باستمرار دون الالتجاء إلى العنف".
توصيات
في ضوء ما تقدم، يمكن تلخيص التوصيات المستلهمة من رؤية السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) للاعنف فيما يلي:
1. إدماج مبادئ اللاعنف في المناهج التربوية والتعليمية منذ السنوات الأولى، لبناء جيل يؤمن بالحوار والتسامح بدل العدوان والتعصب.
2. تبني خطاب إعلامي مسؤول يعزز قيم السلام، ويرفض العنف والتمييز، ويبرز قصص النجاح التي تحققت عبر التعاون والتفاهم.
3. إعادة صياغة الأنظمة السياسية في المنطقة على أسس من العدالة والشورى واحترام الإنسان، ونبذ الاستبداد والتفرد في السلطة والقرار كمنهج حاكم.
4. إشراك مؤسسات المجتمع المدني في نشر ثقافة اللاعنف، من خلال حملات مجتمعية، برامج توعية، وورش عمل تفاعلية.
5. إنشاء مراكز بحثية واستشارية متخصصة في دراسات السلام واللاعنف، تعمل على تقديم حلول عملية قابلة للتنفيذ.
6. تشجيع العمل الجماعي الدولي والإقليمي لمعالجة أسباب العنف، كالظلم الاقتصادي والتمييز الاجتماعي والتهميش السياسي.
7. إعطاء أولوية قصوى للعدالة الاجتماعية في السياسات الوطنية، باعتبارها الضمانة الأساسية للسلام والاستقرار.
8. تعزيز ثقافة الاعتراف بالآخر والاحترام المتبادل، ونشر قيم الرحمة والتسامح كمرتكزات للتعايش المشترك.
في زمن تكثر فيه الأسباب التي تدعو للعنف، يقدم السيد محمد الشيرازي بديلا فكريا وروحيا قائما على اللاعنف، كمنهاج عالمي شامل، يمكن أن ينقذ البشرية من الدمار، ويقودها نحو السعادة والسلام، هذه الرؤية لا تنتمي إلى دين أو مذهب أو قومية، بل تنتمي إلى الإنسان، إلى ضميره، وإلى حلمه بعالم أكثر أمنا وطمأنينة.
اللاعنف ليس ضعفا، بل هو ذروة القوة الأخلاقية، صرخة الحكمة امام الجنون، ودعوة الحياة في وجه الموت، وهو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ضرورة لا خيارا، ومسؤولية مشتركة على عاتق الجميع، من صناع القرار إلى أبسط إنسان يسعى ليعيش بكرامة.
إن السير على طريق اللاعنف، لا يعني تجاهل الواقع، بل يعني تغييره من جذوره، لبناء عالم جديد، تسوده الرحمة بدل القسوة، والعقل بدل التهور، والحياة بدل الخراب، وقد اشار السيد الشيرازي في ذلك الى سيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه واله) واهل بيته الكرام (عليهم السلام) الى إن: "المتتبع لسيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه واله) وال بيته الاطهار (عليهم السلام) يلاحظ بوضوح أن منهجهم بعيد كل البعد عن العنف والعصبية ميالين إلى السلم والتفاهم".
اضف تعليق