الوضع في العراق يتطلب التحول من دائرة العنف والتصعيد إلى ثقافة الحوار والتفاهم، اذ ان ما عاشه العراق من تجارب طائفية وقومية مريره تستدعي ضرورة تجنب اللجوء إلى العنف في حل هذه النزاعات، والبحث عن حلول سلمية تعتمد على المشاركة والتعاون بين جميع الأطراف، إن تحويل العنف إلى سلم...

يعد المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي من أهم العلماء والمفكرين الإسلاميين الذين دعوا إلى تبني منهج اللاعنف كوسيلة للتغيير والإصلاح في المجتمع، وقد كرس (رحمه الله) في سبيل ذلك الكثير من مؤلفاته ومحاضراته لدعوة المسلمين، بل والانسانية، إلى تبني السلم واللاعنف والعفو والصفح واللين كأدوات قوية للتحقق من العدالة والإصلاح المجتمعي، وكان يؤمن ايمان مطلقاً بأن اللاعنف ليس مجرد تكتيك مرحلي أو رد فعل مؤقت على العنف، بل هو أسلوب حياة شامل يجب أن يتبناه الفرد والمجتمع لتحقيق التقدم والازدهار في ظل مناخ من التسامح والسلام الدائم.

مفهوم اللاعنف

اللاعنف في اللغة يعني "الامتناع عن استخدام القوة أو العنف"، وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى سياسة أو نهج يتجنب اللجوء إلى العنف في مواجهة التحديات، اصطلاحا، يعرف اللاعنف بأنه أسلوب سلمي يعتمد على الحوار، والتفاهم المتبادل لحل النزاعات وتحقيق الأهداف دون الحاجة إلى استخدام القوة أو الإكراه.

مع الاخذ بالاعتبار ان اللاعنف لا يعني الضعف أو الاستسلام، بل هو قوة حقيقية، اللاعنف يتطلب شجاعة عظيمة من اجل تطبيقه، إذ أن التسامح والحوار لا يأتيان دائمًا بسهولة، بل يتطلبان التحلي بالحكمة والصبر في التعامل مع النزاعات والمواقف الصعبة، يقول الإمام الشيرازي: "إن العنف لا يبني مجتمعا، بل يهدم كل ما بناه الإنسان من أجل تطور حضاري، بينما اللجوء إلى الأساليب السلمية يضمن النجاح ويحقق السلام"، هذه الرؤية العميقة تبرز أهمية تبني منهج اللاعنف كجزء من النسيج المجتمعي والسياسي.

اللاعنف في الإسلام

اللاعنف في الإسلام ليس فكرة مستحدثة، بل هو مبدأ تأسس في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال أهل البيت عليهم السلام، فقد جاء القرآن الكريم يحث على السلام والتعايش السلمي بين البشر، ويوجه المسلمين للابتعاد عن العنف، يقول تعالى في كتابه الكريم: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت: 34)، هذه الآية تدعو إلى دفع السيئات بالحسنات، وتحث على تجنب العنف في حل النزاعات، أما الأحاديث النبوية، فقد جاءت مؤكدة على مبدأ السلم واللاعنف، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده"، وهذا يعكس دعوته إلى الابتعاد عن العنف والضرر بالآخرين.

لكن، عندما نتحدث عن مفهوم اللاعنف في الفكر الإسلامي، لا بد من الإشارة إلى دور أهل البيت عليهم السلام في نشر هذا المبدأ، الإمام علي (عليه السلام) كان من أبرز الشخصيات الاسلامية والانسانية التي جسدت هذا المبدأ في حياته وسيرته، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: "لا تكن عونا للظالم على ظلم الناس"، كما قال (عليه السلام): "الرفق رأس الحكمة"، وهو تأكيد على أهمية التعامل برفق وصبر في مواجهة الصعوبات والتحديات بدلاً من اللجوء إلى العنف.

ومن أبرز المواقف التي تظهر التزام امير المؤمنين (عليه السلام) بمبادئ اللاعنف، هي وصيته الشهيرة إلى مالك الأشتر (رض) حينما ولاه على مصر، حيث قال (عليه السلام) في وصيته: " (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ). 

هذه الوصية تمثل نموذجا عمليا لفلسفة الإمام علي (عليه السلام) في التعامل مع الناس بغير عنف، بل بالرفق والحكمة في كل مواقف الحياة.

اللاعنف في نهج الإمام الحسن عليه السلام

في مثال اخر يعتبر الإمام الحسن (عليه السلام) السائر على خطى جده وابيه على منهاج اللاعنف في أحلك الظروف، ففي الوقت الذي كان فيه الصراع السياسي والدموي يعصف بالأمة الإسلامية ويحاول الطامحون الى السلطة شق عصا المسلمون وزرع الفتنه والخلاف داخل الامة الاسلامية، اختار الإمام الحسن (عليه السلام) الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، رغم ما كان يعلمه من التحديات التي قد تواجه هذا القرار، ورغم أن كثيرين كانوا يتوقعون أن يلجأ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الحرب لاستعادة حقوق الأمة الاسلامية التي اغتصبها المستبدون، إلا أنه رأى أن "الصلح خير" وكان الخيار الأفضل للحفاظ على الامة وحقن دماء المسلمين وتجنب الوقوع في المزيد من الفتن واتون الحرب.

هذه الخطوة لم تكن تعبيرا عن ضعف، بل كانت تجسيدًا للفهم العميق للإمام الحسن (عليه السلام) لأهمية الحفاظ على السلام الداخلي وتجنب العنف، خاصة في ظل الظروف التي كانت تمر بها الأمة الاسلامية، من خلال هذا القرار، أظهر الإمام الحسن (عليه السلام) قدرة على التحلي بالحكمة والتعقل في مواجهة المواقف الصعبة، واختار التأسيس لمنهاج اللاعنف والسير في طريق السلام لتحقيق مصلحة الأمة، بدلاً من اللجوء إلى الحرب والعنف، إن هذا الخيار يعكس بشكل واضح فهمه لجوهر السلام واللاعنف، إذ لم يكن في سعيه نحو السلام استسلاما، بل كان موقفا نابعا من إيمانه بأن اللاعنف هو السبيل لتحقيق الاستقرار والوحدة في المجتمع.

اللاعنف في فكر الشيرازي

كان الشيرازي يؤمن بأن الطريقة الأكثر فاعلية لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي هي من خلال منهج اللاعنف، معتبراً أن المجتمعات التي تلجأ إلى العنف لا يمكنها تحقيق السلام الحقيقي أو الاستقرار المستدام، ومثال على ذلك قوله: "لا يحق لأحد أن يقتحم حقوق الآخرين، بل يجب أن يتحلى بالصبر والتفاهم، فالعنف لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخراب"، هذه الكلمات توضح بشكل جلي فلسفته التي لا تؤمن بالعنف كوسيلة لتحقيق الأهداف، بل تؤكد على أن القوة الحقيقية تكمن في التفاهم السلمي.

ويضيف ايضاً في أحد كتبه: "إن الأسلوب الأمثل للوصول إلى قلوب الناس هو الدعوة بالحسنى، لا بالقوة، إن نية التغيير السلمي تستدعي العمل برفق، وحسن الاستماع، والقدرة على التأثير بالكلمة الطيبة"، لقد رفض الإمام الشيرازي أن تكون القوة هي الوسيلة الأولى في مواجهة الأزمات، إذ كان يرى أن الحوار والاحترام المتبادل يفتحان أبواب التغيير الحقيقي.

وهو لم يكن يتحدث عن اللاعنف من منطلق نظري فقط، بل كان يشير إلى أن هذا النهج هو أكثر الوسائل فاعلية لبناء مجتمع متسامح ومزدهر، كما ذكر في خطبه بأن: "الحروب والنزاعات لن تجلب إلا مزيدًا من الألم، أما السلم فبناء دائم"، وقد طبق بنفسه اسلوب اللاعنف والدعوة للسلام والمحبة والصفح والتسامح والتعامل باللين وحسن القول، وقد لمس كل من عاصره هذا التفرد في التعامل حتى مع من نصب له العداء.

المجتمع العراقي وأسلوب اللاعنف

عانى المجتمع العراقي على مدار العقود الماضية من الحروب الخارجية والازمات الاقتصادية والصراعات الداخلية، ادت بعضها الى هزات عنيفة احدثت خللاً في بنية المجتمع العراقي، مما جعل العنف جزءا من الواقع اليومي للمواطن. 

كما شهد العراق العديد من التحديات السياسية والاجتماعية، التي أدت إلى تدمير النسيج الاجتماعي وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وفي ظل هذه الظروف، أصبحت الحاجة ملحة لاعتماد أسلوب اللاعنف كحل للتحديات التي يواجهها المجتمع العراقي.

لقد كان الإمام الشيرازي حريصا على تطبيق هذا المفهوم على الواقع العراقي، حيث أشار إلى ذلك بالقول أن "العراق يحتاج إلى السلام الداخلي، ولا يمكن للبلد أن يتقدم أو يزدهر دون أن يتبنى منهج اللاعنف في التعامل مع قضاياه"، حيث كان الشيرازي يؤمن بأن العراق قادر على الخروج من أزماته بالاعتماد على قيم السلم والتعايش بين مكوناته المختلفة.

إن الوضع في العراق يتطلب التحول من دائرة العنف والتصعيد إلى ثقافة الحوار والتفاهم، اذ ان ما عاشه العراق من تجارب طائفية وقومية مريره تستدعي ضرورة تجنب اللجوء إلى العنف في حل هذه النزاعات، والبحث عن حلول سلمية تعتمد على المشاركة والتعاون بين جميع الأطراف، يقول الإمام الشيرازي: "إن تحويل العنف إلى سلم هو الطريق الذي يضمن للبلد تطورًا دائمًا، وتماسكًا اجتماعيًا".

التوصيات

لتنفيذ منهج الإمام محمد الحسيني الشيرازي في اللاعنف وتحقيق أهدافه في المجتمع العراقي وغيره من المجتمعات التي تحاول الخروج من دوامة العنف، ينبغي اتخاذ خطوات عملية تشمل كافة الجوانب الاجتماعية والتعليمية والسياسية، ومن أهمها:

1- تعزيز المناهج الدراسية بقيم اللاعنف: يجب إدخال مفاهيم التسامح والحوار في المناهج التعليمية لتنشئة جيل من الشباب يتبنى اللاعنف في التعامل مع الآخرين وحل النزاعات.

2- إطلاق حملات توعوية حول اللاعنف: تنظيم حملات توعية للمجتمع العراقي تركز على أهمية منهج اللاعنف وتفسير كيف يمكن أن تساهم في بناء مجتمع مستقر وآمن.

3- دعم المبادرات الشبابية السلمية: تشجيع الشباب على المبادرة بالمشاركة في الأنشطة التي تروج للأعنف وتحث على المشاركة في حوار مجتمعي سلمي.

4- إنشاء مراكز لحل النزاعات سلمياً: تأسيس مراكز للوساطة وتحكيم النزاعات، تعمل على حل المشكلات عبر الحوار والوسائل السلمية بدلاً من العنف.

5- سن قوانين تحارب العنف المجتمعي: العمل على إصدار قوانين تحظر العنف في جميع أشكاله وتوفر الحماية للضحايا.

6- تشجيع البحوث والدراسات حول اللاعنف: تشجيع الجامعات والمراكز البحثية على دراسة تطبيقات اللاعنف في المجتمعات الإسلامية وكيفية استخدامها في بناء السلام.

يؤكد الشيرازي (رحمه الله) على أن تبني منهج اللاعنف ليس مجرد خيار بل هو ضرورة ملحة لتحقق السلام الدائم والاستقرار في المجتمعات، من خلال التزام المجتمعات الانسانية بهذه المبادئ، يمكن تجاوز الأزمات الداخلية والوصول إلى التعايش السلمي بين جميع فئاته.

إن الأفكار التي طرحها المرجع الراحل حول اللاعنف توفر خارطة طريق للمجتمع العراقي وغيره من المجتمعات، الذي بحاجة ماسة إلى حلول سلمية تحقق العدالة الاجتماعية وتساهم في بناء المستقبل المشرق، فقط من خلال تجنب العنف والعمل المشترك في تحقيق التسامح، يمكن للعراق أن يتخطى تحدياته ويحقق التنمية المستدامة.

* مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق