الناس الأذكياء هم أولئك الذين يدركون سُبل الصواب قبل غيرهم، والاهتمام بالروح قضية واجبة ومهمة للإنسان الذي يريد أن يعيش حياة متوازنة، وطالما أن شهر رمضان يوفر مثل هذه الفرص المهمة، فلماذا لا نستثمر هذه الفرص، التي تخلّصنا من مشكلة الظمأ الروحي، في عصر يريد أن يجعل من المادة مسيطرة على كل شيء؟...
الإنسان كائن ثنائي التكوين منذ أن يغادر رحم الأم، ومع كل مرحلة عمرية جديدة يتّضح هذا التكوين أكثر، فالجسد وهو القطب الأول للكينونة ينمو ويكبر مع مرور الزمن، لكن القطب الثاني للكينونة ينمو أيضا ونقصد به (الروح)، الثنائيان لكينونة الإنسان هما الجسد والروح، ولهذا فإن الحفاظ على هذه الكينونة واستقرارها ونموّها السليم يتحقق من خلال التعامل السليم للإنسان مع جسده وروحه.
فهو مثلا يهرع إلى الطبيب إذا تعرّض عضو من أعضاء جسمه لمشكلة مرضيّة، فمثلا إذا حدث انسداد في شرايين القلب، قد يضطر إلى إجراء عملية جراحية كبرى (خطيرة) تسمّى (فتح قلب)، ويُصاب الإنسان بالخوف والقلق، ويحاول بكل ما يستطيع أن يعثر على فريق طبي متميّز، وغالبا ما يفضّل الكادر الأجنبي على المحلي، ويسأل ويتحرى ويبحث عمّن أجروا عمليات مماثلة كي يستفسر منهم عن جودة الفريق الطبي.
الروح تمرض مثل الجسد
هكذا ينشغل الإنسان بجسده، وهو القطب المادي أو النصف المادي الذي تتشكل منه الكينونة والخَلْق، فهو لا يتردد لحظة في معالجة أي عضو من أعضاء جسده يتعرض لطارئ، وعليه في نفس الوقت أن يُبدي نفس الاهتمام بالقطب الثاني ونعني به الروح، فهي وإن كانت ليست مرئية ولا ملموسة مثل الجسد، إلا أنها تمرض أيضا مثل الجسد.
وعلى الإنسان كما يهرع لمعالجة قطب الكينونة المادي، أن يهرع بنفس السرعة لمعالجة قطب الكينونة الروحي، بمعنى عليه أن يعالج روحه إذا شعر بأنها تعاني من مشكلة مرضية.
وأي إهمال لمعالجة الروح أو الجسد، تعني تفريط بالصحة، وبالتالي يعيش الإنسان في دوامة من الألم والقلق وعدم الاستقرار، كما أن قضية تفضيل أحدهما على الآخر ليست صحيحة، بمعنى إذا اهتم الإنسان بتطبيب جسده وأهمل روحه فإنه يكون قد ارتكب مشكلة بحق نفسه، وأنه من المحال على أن يفوز بحالة صحية مستقرة إلا إذا حقَّق حالة التوازن في المعالجة بين قطبيّ كينونته.
هناك حالة يعاني منها الكثر من الناس، لاسيما في عصرنا المادي المهووس بالجسد على حساب الروح، تلك الحالة هي (الظمأ الروحي)، أو حالة العطش القاهرة التي تستبيح روح الإنسان لأنه غاطس من قمة رأسه حتى أخمص قدميه في مستنقع المادية التي تكاد تخنقه، الظمأ الروحي يجعل روح الإنسان عليلة، وبالتالي فإن النجاح المادي لا يساوي أي شيء للإنسان المريض نفسيا.
احتمالية فقدان العقل
هذا الظمأ الروحي إذا استمر من دون معالجة ومكافحة صارمة، فإن الإنسان سوف يكون في طريقه إلى (فقدان العقل)، وهذه هي أخطر النتائج التي يمكن أن يتسبب بها الظمأ الروحي، وحين يفقد الإنسان عقله، فلن تفيده نجاحاته المادية وأرباحه الكبيرة وتفوقه في العمل أو في المشاريع التي يجني من ورائها الأموال.
باختصار يجب معالجة الظمأ الروحي على الفور، ويُعدّ شهر رمضان فرصة ذهبية لهذا النوع من التطبيب، حيث الأجواء الروحية تنتشر في مكان وتسود كل شيء، ويشعر الإنسان في هذا الشهر بأنه محاط بهالة من الإيمان والسمو الروحي المضاعَف.
كما أن فرص المشاركات الروحية في هذا الشهر ميسورة وممكنة مثل الزيارات الجماعية للمراقد المقدسة، فعندما يشارك الشخص الذي أهمل الجانب الروحي وتركه عليلا في مثل هذه الأجواء، ويتعمّق فيها، فإن الظمأ الروحي يتراجع شيئا فشيئا.
ويتيح شهر رمضان للأشخاص الذين يعانون من الظمأ الروحي فرصا منتظمة ومبرمجة لمعالجة هذا الخلل الصحي، فهناك تجمعات كبيرة في شهر رمضان، توفر أجواءً روحية عميقة، يتشبّع بها الإنسان، ويمكنه القيام بها بشكل يومي ومنتظم.
كما أنه يستطيع معالجة الظمأ الروحي بشكل فردي، حيث يتيح شهر رمضان لكل الناس أجواءً مسالمة، تتميز باللطف والرحمة والتماسك والاستقرار النفسي الذي يدعم الروح بقوة.
لهذا يُنصَح أن لا يفوّت الإنسان فرصة شهر رمضان، كونه يقدم معالجة ومكافحة مجانية للظمأ الروحي، لاسيما أن معظم الناس يعانون من هذا الظمأ بسبب ما تفرضه وسائل العولمة وطبيعة حياة الإنسان المعاصر، حيث تسعى أجواء ما بعد بعد الحداثة أن تُقصي الروحي بقوة، حتى يمكنها السيطرة على جسد الإنسان وتستغله كما تريد وتشاء.
الخلاصة الناس الأذكياء هم أولئك الذين يدركون سُبل الصواب قبل غيرهم، والاهتمام بالروح قضية واجبة ومهمة للإنسان الذي يريد أن يعيش حياة متوازنة، وطالما أن شهر رمضان يوفر مثل هذه الفرص المهمة، فلماذا لا نستثمر هذه الفرص، التي تخلّصنا من مشكلة الظمأ الروحي، في عصر يريد أن يجعل من المادة مسيطرة على كل شيء؟
هذا السؤال مطروح للجميع للإجابة في حلقات كتابية أخرى في نفس هذا المجال....
اضف تعليق