هل أخطأ ترامب في جملته حول العراق، بعضهم يرى أن النبرة الاستعمارية لا تزال موجودة في فحوى خطاب ترامب، وحتى لو صحَّ ذلك، هل يدير العراقيون ثرواتهم النفطية بشكل صحيح، بالطبع الجواب يأتي بالنفي، وهذا الشيء هو بمثابة جرس إنذار للساسة العراقيين...
لو وُضِعتَ أمام مقارنة قد تكون غريبة من نوعها، أيهما أكثر خطرا على الناس الإسراف أم الفقر؟، يقول أحد الذين تم توجيه هذا السؤال إليهم، لا أظن هنالك فرق كبير في الخطر الذي يتسبب به الإسراف والفقر، والسبب يكمن في أنهما يتشابهان في آخر المطاف، فالإسراف يؤدي بالنتيجة يقود إلى الفقر، وفي حال التخلص من الفقر بصورة مفاجئة فإنه سوف يقودنا إلى الإسراف أيضا.
يمكن أن نثبت صحة هذا الرأي من خلال المثال الذي نضربه عن العراق، فقبل أن يحدث التغيير في العراق سنة 2003، كان الفقر علامة واضحة من العلامات التي تميز العراق والعراقيين، والأسباب معروفة للمهتمين، لكن حين حدث التغيير الكبير بعد نيسان 2003، وتوفرت ثروات طائلة للعراقيين، وانتهى الحصار والفقر، قفزت إلى الواجهة ظاهرة الإسراف بقوة هائلة، فصار الإقبال على الاستهلاك غير معقول، لدرجة هنالك الكثير من الأُسَر تشتري أكثر مما تحتاج من الطعام مثلا بحيث ترمي الكثير منه في حاوية النفايات.
ينطبق هذا الشيء على شراء السلع الأخرى، فحدثت فوضى الاستهلاك الذي يعبر عن حالة تمرد على الفقر الذي لاصق العراقيين لعقدين من الزمن تقريبا، وهكذا فإن من يعاني من حالة الإسراف المادي سوف يُحشَر في زاوية الفقر، ومن يتخلص من فقره بصدمات مفاجئة ينتهي إلى الإسراف غير المعقول ولا المقبول أيضا.
دائرة الفقر المغلقة
هذه التوطئة تقودنا إلى هذه الجملة المقتطعة من خطاب ترامب حول العراق في مؤتمر السلام الذي عُقد في شرم الشيخ، فقد قال عن العراق بأنه يمتك خزينا استراتيجيا هائلا من النفط، لكن قادته وسياسيه لا يعلمون كيف يتصرفون بهذا المال، ويبدو أن الفقر القديم الذي عانى منه العراقيون ومن بينهم الطبقة السياسية هي التي جعلت قادته عاجزين عن تقديم الرفاهية لكل العراقيين، بحيث لا تزال علامات ومؤشرات الفقر ظاهرة عليه.
ورغم الثروات الطبيعية الهائلة الموجودة في العراق، لا يزال الفقر موجودا في نسبٍ متفاوتة صعودا وانخفاضا، ولو قيّض لقادة العراق أن يديروا الاقتصاد بعلمية وتدبير عال، لعاش العراقيون جميعا في بحبوحة تعيشها أغنى بلدان العالم، فهل جاءت إشارة ترامب في خطابه المذكور في محلّها حول العراق؟
تشير الأدلة في واقعنا الاقتصادي والمعيشي إلى صحة ما ذهب له ترامب، والدليل هناك دول عديدة شعوبها أكثر عددا من نفوس العراق ومواردها أقل من موارد العراق، لكنها تدير شؤونها الاقتصادية بميزانية سنوية تعال 10% من ميزانية العراق، والسبب في ذلك أن حكومات تلك الدول تمتلك خبرات اقتصادية وعقلية تدبيرية تمكنها من أن تستثمر ثرواتها الأقل من العراق بطرق وأساليب اقتصادية تفوق قدرات العراق الإدارية.
إن المعني في هذا السؤال أولا هم ساسة العراق، أو صناع القرار، وخاصة في مجال إدارة ثروات واقتصاد العراق، فمن الواضح غياب الرؤية الاقتصادية التي تدير موارد هذا البلد الغني، مع وجود واضح أيضا لغياب الإرادة السياسية التي بإمكانها التحكم والتدبّر بإدارة الاقتصاد، وبسبب غياب الرؤية الاقتصادية وغياب الإرادة السياسية لا يزال العراق على الرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على هزّة التغيير الكبرى، يغوص في دائرة مغلقة من الفوضى الاقتصادية، وسياسة إسراف لا مثيل لها.
ما المطلوب من العراقيين؟
هناك مثلا سيارات تدخل العراق أثمانها قياسية بحيث يبلغ سعر السيارة عشرات الآلاف من الدولارات، بل هناك ساعات يد تصل قيمتها عشرات الالاف أيضا، بالمقابل هناك قلة مخيفة في فرص العمل، وهنالك شباب اصابهم اليأس لأنهم يقتلون أوقاتهم في المقاهي تمتد إليهم أيدي المخدرات ويقتلهم الكسل والملل، وهذه كلها مؤشرات تدل على انتشار الفقر في العراق، وتدل على استمرار غياب الرؤية الاقتصادية والتدبير الصحيح للثروات.
فهل أخطأ ترامب في جملته حول العراق، بعضهم يرى أن النبرة الاستعمارية لا تزال موجودة في فحوى خطاب ترامب، وحتى لو صحَّ ذلك، هل يدير العراقيون ثرواتهم النفطية بشكل صحيح، بالطبع الجواب يأتي بالنفي، وهذا الشيء هو بمثابة جرس إنذار للساسة العراقيين، فالأمور لن تبقى سائبة إلى الأبد، كما أن ثروة النفط نفسها لن تبقى إلى الأبد بل هي قابلة للنضوب، بالإضافة إلى أن العراقيين لا يبقون يتفرجون على ساستهم وهم يسرفون ويتخبطون في إدارة ثرواتهم، وفي نفس الوقت آفة الفقر تفتك بهم.
بعض الساسة عندما تحاصره الأسئلة حول سبب وجود الفقر في العراق رغم ثرواته، يذهب سريعا إلى مقارنة مان عليه العراقيون قبل 2003 وما أصبحوا بعد هذا التاريخ، ويذكر فيما يشبه (المنّة) بأن السيارات غصَّت بها الشوارع، والكهرباء مجانية والماء كذلك والأسعار واطئة، ولا يتطرق إلى الفوضى الاقتصادية وتضييع ثروات العراقيين في الحاضر والمستقبل. ما المطلوب إذًا؟
لم يعد هناك الكثير من الوقت أمام المتصدين لإدارة شؤون وثروات العراقيين، يجب سد الثغرات الكبيرة التي تعاني منها أساليب القيادة والإدارة والتدبير، فهناك توجّه (كأنه مقصود) لإشاعة أنماط استهلاكية قاتلة بين الناس، وهناك لامبالاة بالمخاطر الهائلة التي تحيق بالعراقيين، لابد من المسارعة لمعالجتها وفق الحلول العلمية التي تجعل القدة يعلمون ويعرفون الكيفية العلمية التي يدرون بها ثروات هذا البلد وهذا الشعب الذي لا يزال يأمل بالتغيير من الخطأ إلى الصحيح.
اضف تعليق