ماذا ينتظر من لا يعرف قيمة عمره ويبادر إلى اصلاح أمر آخرته قبل فوات الأوان، ونراه يسوّف في ذلك؟ أينتظر أن يكون غنيّاً للقيام بذلك، والحال أنّ الثروة تأتي بالطغيان؟ أم ينتظر الفقر بدعوى أنّه حين الغنى لا مجال له للعبادة والعمل بينما الفقر يتسبّب عادة بالنسيان ومنه نسيان أو نكران النعم الأخرى...
«يا أبا ذر، كن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك.
يا أبا ذر، هل ينتظر أحدٌ إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً(1)، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجّال(2)؛ فإنّه شرُّ غائب ينتظر، أو الساعة.. فالساعة أدهى وأمرُّ»؟!
في هذه الفقرة تمّ الانتقال من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب؛ وذلك لأنّ أبا ذر رضوان الله تعالى عليه ليس مصداقاً للمقطع الثاني.
يتساءل النبي صلى الله عليه وآله من أبي ذر: ماذا ينتظر من لا يعرف قيمة عمره ويبادر إلى اصلاح أمر آخرته قبل فوات الأوان، ونراه يسوّف في ذلك؟ أينتظر أن يكون غنيّاً للقيام بذلك، والحال أنّ الثروة تأتي بالطغيان؟ أم ينتظر الفقر ـ بدعوى أنّه حين الغنى لا مجال له للعبادة والعمل ـ بينما الفقر يتسبّب عادة بالنسيان ومنه نسيان أو نكران النعم الأخرى؟ أم ينتظر المرض، والمرض بطبعه يتسبّب بفساد البدن؟ أم ينتظر الشيخوخة، وهي تنتهي بابن آدم إلى الضعف والعجز؟ أم ينتظر الموت الذي يقضي عليه؟ أم ينتظر ظهور الدجّال وقيام القيامة؟
كنّى النبي صلى الله عليه وآله بما سبق للإشارة إلى بطلان التسويف وأنّ الإنسان لا ينبغي له أن ينتظر حتى حصول حوادث كهذه، بل عليه المبادرة إلى إصلاح أمر الآخرة، بما يتضمّن ذلك اقتناص فرصة العمر التي لا تقدّر بثمن، وأن لا يؤجّل عمل اليوم إلى غد، ولا يقول مسوّفاً: إن أصبحت ثريّاً سوف أستخدم ثرائي في سبيل الله، لأنّ من طبيعة الغنى الطغيان. كما لا ينبغي أن يؤجّل التوبة وذكر الله تعالى إلى وقت المرض بدعوى أنّ الحاجة إذ ذاك ملحّة، لأنّ المريض بالأصل يكسل أو يضعف عن ذلك. كما أنّ الغنيّ بدوره لا يصحّ منه القول بأن لا فرصة لديه لعمل الخير والمستحبّات، وأنّه إذا ما افتقر، التفت إلى العبادة وإيتاء المستحبّات، وأنّ المرحلة مرحلة بيع وشراء وتدوين وحساب، دون أعمال الخير والمستحبّات.
فالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله يؤكّد في هذه الفقرة من وصيّته المباركة على بطلان انتظار إعمار الآخرة، ويتساءل عمّا ينتظره الشخص المسوِّف، أينتظر أن يتبدّل فقره غنىً؟ بينما الغنى يوجب الطغيان عادةً، أم ينتظر أن يتبدّل غناه فقراً؟ والفقر(3) يُنسي صاحبه؛ وعليه لا يصحّ تأجيل العمل الصالح.
فمن كان في ذمّته حقّ من حقوق العباد، فعليه صناعة الفرصة، أو اقتناص أوّل فرصة لأدائه والتوبة عن ذنبه والتصميم على جبران ما فاته.
ومن كان قادراً على مساعدة الآخرين، فليهجر التقاعس، وهكذا الحال بالنسبة للشخص القادر على التأليف والنشر والتوزيع؛ لينهض بالمستوى الحضاري والثقافي للناس، ومن كان قادراً على العبادة فعليه أن يعبد.
وبكلمة أوضح: من أتيحت له الفرصة في إعمار آخرته، فليس له التأخّر والتكاسل عن ذلك، فقد لا تؤاتيه الفرصة مرّة أخرى.
البخل بالعمر
الفقرة الثانية من العبارة توضيح وتفصيل للفقرة الأولى.
ففي الأولى قال النبي صلى الله عليه وآله:
«يا أبا ذر، كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك»
وفي الثانية تمّ التطرّق إلى أضرار عدم اغتنام فرصة العمر، إذ لا ضمانة في جبران خسائر الأمس. ويبدو أنّ هذا هو المورد الوحيد في الروايات الشريفة، تمّ فيه التوصية بالشحّ(4).
إنّ البخل بالمال صفة معيبة، ذمّتها النصوص الدينيّة وعدّتها سلوكاً قبيحاً، ولكن البخل بالعمر صفة ممدوحة، وقد أوصى بها النبي صلّى الله عليه وآله صاحبه أبا ذر الغفاري.
وما يلفت الانتباه هنا، هو أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله قد استخدم مفردة (شحّ) باعتبار أنّ الشخص المبتلى بالشحّ ليس مبتلىً بالبخل بأمواله فحسب، بل هو بخيل بأموال غيره أيضاً، حيث يحول دون إنفاق الآخرين أموالهم في سبيل الله تعالى خدمةً ومساعدة لمن حولهم. فإذا رأى شخصاً يتصدّق على فقير، أو عزم على إنجاز عمل الخير، سعى حثيثاً لمنعه وتحذيره من الفقر والفاقة، تحت طائلة أهميّة التفكير بتغيّر الأحوال، بدلاً من أن يغبطه على كرمه والتصميم على أن ينافسه في أداء أعمال الخير.
مع ملاحظة ذلك، تبدو ضرورة أن يحرص المرء على عدم التفريط بعمره، لئلا يذهب به سدى ويضيّعه بالباطل. فالشحيح في العمر ـ عمره وعمر الآخرين ـ يستولي عليه الانزعاج إذا رأى غيره يفرّط بعمره. وطبعاً هذه حالة أرقى وأكثر تقدّماً من مجرد الشحّ بالعمر الشخصي، فترى صاحبها لا يتخلف عن توجيه النصح للآخرين بالحرص على أعمارهم.
روي أنّ الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه أورد في يوم عاشوراء خطبةً بكى لها أعداؤه القتلة، وهم الذين كانوا يصكّون أسماعهم أو يتظاهرون بعدم الالتفات إليه، أو كانوا يجيبونه بقبيح الردّ في أوائل الخطبة ذاتها، وقد قيل في سبب هذا التحوّل أنّ قلب الإمام الحسين سلام الله عليه كان يحترق على ما يرى في الأعداء من تفريط بأعمارهم؛ أعمار كان بمقدورهم أن يجعلوها كأعمار حبيب بن مظاهر أو زهير بن القين، أو الحرّ الرياحي، ولكنّهم أضاعوها، فتأسّف لهم سيّد الشهداء، ولذلك توجّه لهم بالنصح والموعظة.
نبيُّ الرحمة
تبدو العبارة أعلاه غايةً في الصحّة والمصداقيّة، ذلك لأنّ تاريخ المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم مفعم بالرحمة والشفقة، ففي ذلك اليوم الذي تكالب فيه المشركون على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله لإيذائه وثنيه عمّا أعلنه من أمر النبوّة والرسالة، وحيث عمد فيه أطفال المشركين ونساؤهم على رجم النبي المصطفى بالحجارة في أزقّة مكّة وشوارعها وإيذائه بشدّة حتى قال:
«ما أوذي نبـيّ مثلما أوذيتُ»(5).
وكان بدنه كلّه يتصبّب دماً وألماً... فأنزل الله عزّ اسمه ملائكة من السماء ليعرضوا عليه مساعدتهم، وهو آنذاك بين الموت والحياة بعد شوط من الملاحقة والتنكيل و... ذرفت الدموع منه صلى الله عليه وآله، فقال له ملك من الملائكة عظيم: لو شئت يا رسول الله أضرب بجبال مكّة لتخرّ على أعدائك، بينما قال آخر: لو أذنتَ لي لزلزت الأرض من تحتهم وأفنيتهم عن آخرهم، ولكن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وبشفقة متناهية رفض هذه العروض، وتوجّه إلى ربّه الذي زرع فيه الرحمة وعلّمه الشفقة داعياً بالقول:
«اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(6).
بلى، رغم أنّهم كانوا ينصبون أغلظ العداء والضغينة لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وكانوا يرمونه بالحجارة حتى فضخوا رأسه الشريف أكثر من مرّة، إلاّ أنّه كان يشفق عليهم ويطلب لهم الرحمة والمغفرة، وهذا نموذج غاية في الوضوح من شحّه حيال أعمار أعدائه الألدّاء، وحرصه على هدايتهم وإرشادهم.
العضّ بالنواجذ على لحظات العمر
قبل أربعين سنة مضت، كان رجل يعيش في مدينة كربلاء المقدّسة، وكان له بستان كبير خارج المدينة، فقرّر أن يبيعه، فعرض عليه شخص مبلغ ثلاثة آلاف دينار ثمناً لها ـ وكان هذا المبلغ يومذاك من الأهميّة بحيث يمكن أن يشتري به عشر كيلو غرامات من الذهب ـ.
وبعد أن تمّت الصفقة، وحيث كان البائع يسير في الطريق، رآه أحد أقربائه، فسأله عن بستانه، فأخبره أنّه قد باعه بثلاثة آلاف دينار، فتعجّب السائل وقال له: لقد بعتَه بثمن بخس، ولو أنّك أخبرتني من قبل لعرضت عليك ستّة آلاف دينار! فلم يجبه الرجل وتوجّه إلى بيته، وهناك جلس يفكّر متحسّراً على ما فرّط في بستانه وكبير الخسارة التي مُنيَ بها، وفي غد ذلك اليوم أصيب بالسكتة القلبية وقضى نحبه، وكان خبر وفاته قد فاجأ وأفجع معارفه، لاسيّما وأنّ موت الفجأة (السكتة القلبية) لم يكن كثيراً في تلك الأيام.
هنا لابدّ من القول بأنّ عمر الإنسان أغلى وأكثر قيمة من البستان وسائر الممتلكات، ولعلّ الأقسى فجيعة أن يتنبه المرء على حين غرة أنّه قد باع أغلى ما يملك ـ وهو العمر ـ بأبخس الأثمان، والفجيعة والندم والحسرة تتجلّى لصاحبها بوضوح شديد وإن لم يكن من أهل الذنوب والمعاصي، لأنّ إضاعة العمر وحدها تجعل الإنسان يعاني أشد العذاب وأقسى أنواع تأنيب الضمير.
إنّ عمر كل فرد من أفراد الناس تماماً كعمر سلمان وأبي ذرّ وحبيب بن مظاهر وميثم التمار ومسلم بن عوسجة ورشيد الهجري وزرارة ومحمد بن مسلم الطحّان. فالساعات والأيام نفس تلك الساعات والأيام الخاصّة بأعمار هؤلاء العظماء.
لذلك ينبغي التفكير مليّاً في مدى ما نقضيه من أيّامنا على طريق التقدّم والرقيّ، فذاك الذي باع بستانه بثمن قليل عجز عن المقاومة حتى أصيب بالسكتة القلبية واستسلم، ولكن من قصرت يده عن الدنيا ويمّم وجهه شطر الدار الآخرة، مهما اغتمّ للتفريط بعمره، فإنّه لن يصاب بالسكتة وستكون حسرته حسرة أزليّة!!
لقد ذكرت الروايات، وقبل ذلك الآيات القرآنية الكريمة، أنّ الكافرين والمنافقين والفاسقين سيتحسرون في يوم القيامة على أنّهم لم يكونوا مؤمنين، والمؤمن المقصّر سيتحّسر على أنّه فرّط بعمره بنوع من التفريط، وأنّه لم يفد منه حقّ الاستفادة ومنتهاها، لاسيّما وأنّه سيرى باليقين أنّ أموراً من قبيل سوء الخلق وممارسة الكذب والخوض في مزيد من اللعب واللهو هي من مصاديق التفريط بالعمر، وفي المقابل أن ممارسة العبادة الخالصة والاستماع إلى الموعظة والقول الأحسن واتباعهما، والتعلّم كلّها تعدّ من مصاديق الاستفادة الحقّة من فرصة العمر.
إنّ من يجعل للعمر قيمةً باهظة، لن يتساهل في التفريط به، ولن يضيعه دون حساب، فتراه لا ينام أكثر من الحدّ المطلوب، ولا يقضي وقته في الراحة والترفيه إلا ما اقتضت الضرورة القصوى.
ترى كيف نعتقد أنّ من يبيع البضائع بأقلّ من ثمن شرائها مجنوناً، في حين لا نعتقد الاعتقاد ذاته بمن يضيع رأس ماله الوحيد في الحياة ووسيلته إلى حيازة الجنّة والرضوان الإلهي الأبدي، بثمن هو عبارة عن اللهو واللعب؟!
اضف تعليق