الإنسان يعبر من هذا الممرّ الزماني وجميع أعماله تحفظ وتسجّل في صفحة مصيره بشكل لا يفوت على حافظها شيء منها، ولا هو من أهل الغفلة فتغادره. إنّ أعمال ابن آدم؛ الكبير منها والصغير، ورغم أنّه قد ينساها أو تمحى من ذاكرته، لكنّها لن تمحى من كتابه الخاصّ...
«يا أبا ذر، إنّكم في ممرّ الليل والنهار في آجالٍ منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتةً، ومَنْ يزرع خيراً يوشك أنْ يحصد خيراً، ومن يزرع شرّاً يوشك أنْ يحصد ندامةً، ولكلّ زارع مثل ما زرع».
من الواضح هنا أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في هذا المقطع المبارك من وصيّته الشريفة يصوّر لأبي ذر رضي الله عنه الإنسان بكونه عبارة عن كائن موجود في ممرّ الليل والنهار، أي أنّه محكوم بحكومة الزمن، ومثل هذا التعبير لم يرد في الروايات والآيات والأشعار والأمثال إلا هنا وفي بعض أقوال أمير المؤمنين سلام الله عليه. فكان وصف الليل والنهار بكلمة (ممرّ) ابتكاراً نبويّاً رائعاً على الصعيد البلاغي.
وفي هذا التعبير البلاغي نقطتان مهمّتان على المستوى الأدبي والمعنوي.
فمن الناحية الأدبية، يمكن تصوّر كلمة (ممرّ) على اعتباره مكاناً، وكذلك يمكن تصوّره زماناً، أي أنّ محل حضور الإنسان مكان مرور الزمان، وهو في الوقت ذاته ظرف زمنيّ لطيّ لحظات الزمن.
أما الناحية المعنويّة؛ فهي أنّ الليل والنهار بمثابة السيل الذي يدفع ابن آدم ضمن تيّاره الهادر، وقد وضع المرء في هذا الحيّز وضعاً جبريّاً، وكذلك هو حال وجوده في هذا المعبر والممرّ.
آجال منقوصة
للأجل معنيان: فطول العمر ومدّة حياة الإنسان في هذه الدنيا تعتبر أجلاً. وكذلك نهاية العمر حيث ينقطع عن الحياة تسمّى (أجلاً)؛ وعليه فإنّ شأن تواجد ابن آدم في (ممرّ) الليل والنهار كشأن بعض الأشياء المحدودة التاريخ والصلاحيّة.
كما تستعمل كلمة (النقص) في اللغة العربية على ثلاث طرق؛ فهي تستعمل فعلاً لازماً، ومتعدّياً لمفعول واحد، ومتعدّياً لمفعولين.
و(النقصان) في هذا الحديث الشريف استعمل بمعنى اللازم والمتعدّي.
فهو من ناحية يرى أنّ عمر الإنسان ـ وفقاً لشرائط الخلقة ـ أمر محدود وزمنيّ، فكان نقصان الآجال لازماً محتوماً.
ومن الجانب الثاني، ثمّة يد وإرادة ملؤها القوّة والقدرة تتحكّم بطبيعة عمر الفرد وحدوده، قلّة وكثرة، وطبقاً لنوع حياة الفرد ذاته. فالنقصان فعل مباشر من جانب الله الحقّ تعالى، ومفعول نفس العمر.
إنّ يد الله القادرة المقتدرة تنقص في عمر الإنسان، وتغيّر مقداره، أيّ أنّ هذا العمر ناقص؛ وهناك منقِّص قادر مستولٍ عليه، تماماً كثروة التاجر التي تزداد حين يستثمرها بنجاح، وتنقص حين يتّخذ منها موقفاً دون ذلك، أو عمد إلى تجميدها وصرفها في أمور غير تجارية.
وكذلك شأن قابليات وإمكانات الإنسان، ففي يوم تكون قدرته على الإدراك في مستوىً سامٍ، وفي اليوم التالي يعتورها النقص والضعف.
ورغم أنّ انقضاء عمر الإنسان وزواله عادة ما يكون في غفلة منه، إلا أنّه يتقدّم في كلّ لحظة ويطوي مسيرته في سرعة بالغة، وبين هذا وذلك هناك مجموعة عوامل ومقدّمات توجب للعمر البركة والإزدياد، مثل صلة الرحم، أو العفو عند المقدرة، وغير ذلك مما تناولتها الأحاديث والروايات الشريفة.
أعمال محفوظة
يواصل النبي المصطفى صلى الله عليه وآله حديثه الشريف ليؤكّد أنّ الإنسان يعبر من هذا الممرّ الزماني وجميع أعماله تحفظ وتسجّل في صفحة مصيره بشكل لا يفوت على حافظها شيء منها، ولا هو من أهل الغفلة فتغادره.
إنّ أعمال ابن آدم؛ الكبير منها والصغير، ورغم أنّه قد ينساها أو تمحى من ذاكرته، لكنّها لن تمحى من كتابه الخاصّ، لاسيّما وأنّها ستكون مادّة وموضوع محكمة العدل الإلهي الكبرى في يوم القيامة.
وتستمرّ حركة الحياة في جوهر الإنسان وبدنه، حتى تستولي عليه قبضة الموت الهائلة «الموت يأتي بغتةً»، فيُستدعى ابن آدم إلى ساحة المحكمة الموعودة بواسطة الموت، فيواجهه هناك بجميع أفعاله وأقواله وأفكاره بعد أن تجمع كلّها في ملفّ خاصّ يحمل اسمه هو دون غيره، أمّا قاضي هذه المحكمة فلا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا غفلة عن أيّة قضيّة من القضايا، وهو الذي لا تخفى عليه خافيه.
أقول: إذا كان من المقرّر أن يحاسب شخص ما في الدنيا ويحاكم على أعماله ونواياه؛ فإنّه لاشك سيتعرّض لأزمة نتيجة الخوف والترقّب والاضطراب ويستولي ذلك على كلّ وجوده، حيث تقدح في زوايا مخيّلته صورة تلك المحاكمة، ولعلّه يفقد السيطرة على حواسّه، فهو يتوقّع حلول وقتها في كلّ لحظة، فإذا كان نائماً ثم استيقظ فكّر من فوره بالمحاكمة، بل إنّ مستوى قلقه المتزايد يسأله باستمرار عن موعد انعقادها المرتقب، ومتى يسوقه حرسها إلى ساحتها وبأيّة حالة سيساق، حتى يصل به الأمر إلى أنّه قد يفقد معه لذّة الطعام والنوم والاستراحة والتركيز الذهني، فتراه إذا ضحك، ضحك ضحكة ملؤها المرارة، وأصبحت أفراحه أفراحاً ظاهرية....
مثل هذه الحالات تستولي على من اضطرّ للمثول أمام محكمة دنيويّة، فكيف بمن سيرغم على الحضور في محكمة الآخرة، فهل ستظهر عليه ملامح الراحة والاستقرار النفسي؟ أوليس ما يبدو على الإنسان ـ الناقص العمر، المحفوظة أعماله ـ من السعادة والفرح إلا نتيجة غفلته وجهله ولا مبالاته؟! لاشك أنّ جميع الناس مصابون بداء الغفلة عن حقيقة ما يسيرون باتجاهه، ولا شك أيضاً أنّ درجات إصابتهم بهذا الداء متفاوتة.
ضحكة النبي الأخيرة
ذكرت الروايات الكريمة أنّ النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وفي ليلة المعراج حيث كان مع جبرائيل رأى جهنم وما فيها من العذاب، وبعد ذلك لم يُرَ ضاحكاً أبداً(1).
ولكن هناك كثير من الناس يحشرون أنفسهم في مستنقعات الغفلة والجهل، فيظهرون بملامح الفرح والضحك، ولو أنّ الناس عرفوا أنّهم سيستدعون إلى محكمة الآخرة، لسُلب منهم الفرح، ولترقّبوا الموت في كلّ آن ومناسبة وحالة.
فتارة يفاجئ الموتُ الإنسان في منتصف الليل وهو نائم، وتارة يباغته وهو يتعبّد ساجداً، وأخرى ويداه منغمستان في المعصية، فأين هذا النوع من الموت، من النوع الآخر، حيث تقبض روح الإنسان وهو غارق في التعبّد ليلة القدر يذكر ربّه ويردّد قوله: «بك يا الله»؟
إنّه ليس ثمّة إنسان يعلم متى وأين سيموت. «والموت يأتي بغتةً».
الآخرة وظاهرة النسيان
من القضايا الأخرى الخاصّة بيوم القيامة، هي أنّ ابن آدم وبداعي نسيانه، تراه لا يتذكّر كثيراً من أعماله الصالحة أو الطالحة، ولذلك فهو لا يتفهّم في بادئ الأمر العديد من موارد اتّهامه، ولكن للمحكمة الأخرويّة قاضٍ لا يضلّ ولا ينسى ولا يحيد عن الحقّ مقدار أنملة، إنّه سوف تحضر أمام الملك الحقّ ملفّات الصالحات والسيّئات التي نسيها الإنسان.
ولعلّ المرء قد غفل عن بعض الممارسات الدنيويّة ومُسحت من أمام عينيه، ولكنّها متكدّسة في ضميره، وبمجرّد إحضاره ووجوده في ساحة المحاكمة وانفصاله عن الجاذبيات المادّية والدنيويّة، سيلاحظ تلكم الأعمال والممارسات ماثلة في وجوده بحيث لن تكلّف المحكمة نفسها للضغط عليه من أجل كسب اعترافه بما اقترفت يداه، وإنّما سيكون مجرّد وقوفه في تلك الساحة إقراراً واعترافاً مطلقاً، حتى أنّك لا تسمع إذ ذاك إلا همساً.
إذا تمكّن الإنسان من تكريس هذه الحقائق في نفسه وتسجيلها في ضميره بصورة حيوية بحيث يفعّلها متى يريد وكيف يريد، فإنّه حينذاك سيكون هدفه الأكبر في الحياة إنجاز أعمال الخير وتسجيل الصالحات في ملفّ أعماله، وإذا نحّى المرء حجب الغفلة جانباً، واستثمر ذكاءه، ولم يتصوّر المستقبل (الموت والآخرة) حقيقة بعيدة بل رآه قريباً، فإنّه سيتأكّد من شديد حاجته للأعمال والنوايا الصالحة. «ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً».
الاستعداد للموت
كان رجل ثريّ يعيش في مدينة كربلاء المقدّسة، وقد حدّث قريب له قال: مرض الرجل ذات يوم مرضاً شديداً، نُقل على أثره إلى المستشفى، فبقي فيها مدة، وكنّا نذهب إلى عيادته، فنصحه بعض منّا بضرورة أن يكتب وصيّته، لاسيّما وأنّه رجل غنيّ ولابدّ له من تخصيص جزء من أمواله لصرفها في سبل الخير والبرّ لتكون له ذخيرة طيّبة لآخرته، ولكنّه كان يرجئ ذلك إلى وقت آخر أو بعد شفائه وخروجه من المشفى، بينما كان المحيطون به يشجّعونه على كتابة الوصيّة مؤكّدين له قدرته على كتابة ما يريد، وإذا ما رغب في تعديلها أمكنه ذلك(2)، وبعد إصرار متواصل منهم تنازل واستعدّ أن يبدأ بكتابة الوصيّة، فجيء له بقلم وورقة، وكتب قسماً من وصيّته، ولكنه تراجع بعد ذلك وترك الكتابة! مؤكّداً مع نفسه أنّه سيعاود كتابة الوصيّة بعد نيله الشفاء، ولكن الأجل لم يمهله، ولم يُرَ إلا ميّتاً في صباح اليوم التالي....
إنّ على المرء أن يكون مستعدّاً على الدوام لهذه المواجهة الحتميّة، ذلك لأنّ الاستعداد للموت له تأثير كبير جداً على سلوكه. فمن كان كذلك في حياته، كان سلوكه بصورة عامّة يتّسم بنوع من الحذر والاحتياط، ومثل هذا الإنسان لا يجرؤ أبداً على الخوض في المعاصي والرذائل الأخلاقيّة؛ ولذلك فهو حذر في كلّ لحظة من شطحات لسانه وبطش يده، وزيغ عينيه وطيش أذنيه، وانسياب أمواله في طريق الذمّ.
إنّ مراد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من قوله المبارك: «الموت يأتي بغتةً» توضيح قاعدة وقانون يستوعبان الناس جميعاً، وهو أنّ الموت أمر حتميّ ومباغت، وكون الجميع عاجزين عن مواجهته. ولا نجد إنساناً ـ مسلماً أو غير مسلم ـ له القدرة على مواجهة هذه الحقيقة والقانون الثابت، بل يستسلم له بصورة مطلقة، وبعدما تزاح عن قوة إدراكه حجب الجهل والغفلة، تستولي عليه الحسرة وتبدأ مسيرة الندم في انطلاقته باتجاه الآخرة، وعندها سيفهم ماذا فرّط طيلة حياته، وماذا حمل من أثقال لا نفع لها على ظهره، وكم أضاع من حسنات كان بإمكانه جمعها، وهو إذ ذاك بمسيس الحاجة لها.
قيل في سبب أن بعض الناس يموت وعيناه مفتوحتان، بينما بعض يموت مغمض العينين: أنّ الموت لا يسمح لهذا أو لذاك بأن يغيّر وضعيّة عينيه أبداً.
وقد قيل إنّ شخصاً أصيب بالسكتة القلبية ومات وهو يؤدّي صلاة الفجر، فرآه أحد ذويه في منامه، فسأله عن طبيعة موته، فأجابه قائلاً: كنت منشغلاً بقراءة كلمة من إحدى الآيات، فتفوّهت بحرف من تلك الكلمة في الدنيا، وبحرفها الآخر في عالم ما بعد الدنيا.
نعم إنّ قانون مباغتة الموت لا يمهل ابن آدم حتى لمجرّد التفوّه بحرف واحد فقط، فلماذا التجاهل، ولماذا الغفلة، ونحن نعلم بمحدوديّة أعمارنا وتناقصها؟!
أسباب ضحالة الفكر
إنّ ما يعيق الإنسان دون استثمار عقله أو أن يفكّر في عاقبته أمران؛ الأوّل: الجهل. والثاني: الشيطان. فهذان العاملان غالباً ما يتسبّبان في ضحالة الفكر وعيب السلوك.
فالشيطان من ناحيته خبير بكيفيّة تحقيق أهدافه المشؤومة، دون أن تتضاءل رغبته في التسلّط على الإنسان والتحكّم به أبداً، ولكنّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل له سلطاناً أو سبيلاً على ابن آدم يجبرانه على الخنوع له. كما أنّ إرادة الكائن البشريّ وعلمه كفيلان بأن يستطيع وفقهما مواجهة الوساوس الشيطانية والتحصّن دون أذاه ومؤامراته المتعدّدة الأشكال والألوان.
إنّ الله جل ثناؤه قد جعل في داخل الإنسان (مصباحاً) يضيء له الظلمات التي قد تحيط به، فيعرف ويتحسّس به طريقه القويم من الطرق الملتوية، وجعل مفتاح هذا المصباح بيد الإنسان دون سواه، وهو الذي ينبغي له أن يفعّل هذا المصباح بإرادته، فيستطيع أن يوقده أو يطفئه، وهذا المصباح هو (العقل) القادر على هداية الإنسان، ومن ثم يمكن القول بأن العقل هو جناح ابن آدم، بينما الشهوة جناح الشيطان.
لقد سئل أمير المؤمنين سلام الله عليه عن خير خلق الله بعد أئمّة الهدى ومصابيح الدجى، فقال صلوات الله عليه:
«العلماء إذا صلحوا».
قيل: ومن شرّ خلقٍ بعد إبليس وفرعون ونمرود وبعد المتسمّين بأسمائكم وبعد المتلقّبين بألقابكم والآخذين لأمكنتكم والمتأمّرين في ممالككم؟ قال:
العلماء إذا فسدوا، هُمُ المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق...»(3).
لم يقل الإمام سلام الله عليه ـ وفق هذا النصّ الشريف ـ بأنّ أفضل الناس من يؤدّي صلاة الليل، أو يعطي الخمس من أمواله، وغير ذلك ممّن يقومون بالأعمال الصالحة، رغم فضلها وعظمتها، ولكنّه أكّد أنّ أفضل عباد الله تعالى هم العلماء إذا فعّلوا عقولهم وأطاعوا مولاهم وأصبحوا صالحين.
العالم الصالح والعالم الطالح
الحسين بن روح(4) والشلمغاني(5) هما من علماء الإسلام. وكانا يتمتّعان بمستوى من العلم الرفيع، إلا أنّ جوهر الصلاح نما في الحسين بن روح فقط، على عكس شخصيّة الشلمغاني الذي أخذ يبتعد تدريجياً عن الصلاح، رغم أنّه كان أكثر شهرة من ابن روح، كما كان الناس يرجعون إليه في المسائل الشرعية، ولكننا نرى في نهاية المطاف أنّ الحسين بن روح أصبح النائب الخاصّ الثالث للإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
لقد كان هذان الشخصان وفي سنين مديدة متصدّين لحلّ مشاكل الناس ويفتونهم بمسائلهم الشرعية، ولكن كلّما مرّ الوقت كان الحسين بن روح يقترب من الخير والصلاح درجاتٍ، بينما الشلمغاني يبتعد عن الحقّ وتضيع عليه الحقائق وتلتبس، إلى أن بلغ الأمر أن خرج التوقيع الشريف من الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف يقضي بلعن الشلمغاني والتبرّؤ منه.
هنا لا ينبغي التصوّر بأنّ الحديث المتقدّم عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قد ورد بحقّ المراجع وعلماء الطراز الأوّل فقط، بل هو حديث يشمل جميع الذين يكتسبون العلم، كلٌّ بمستواه؛ ما يعني أنّ على طلاب العلوم المختلفة ـ من جامعيين وحوزويين وغيرهم ـ أن يطبّقوا هذا الحديث الوارد عن أمير المؤمنين سلام الله عليه على أنفسهم ويجعلوا منه نبراساً وضياءً ملهماً لهم.
لا ننسى أنّ موضوع «العالم» أمر نسبيّ، أي أنّه مع وجود تفاوت كبير بين درجات العلماء، فإنّهم يجتمعون في تسميتهم علماء. فالطالب المبتدئ يجب عليه أن يحذر ويتّقي الابتعاد عن الصلاح والنزاهة، بنفس المقدار الذي يتوجّب على أكبر العلماء وأشهرهم. فالجميع ينبغي لهم أن يسعوا إلى الجمع بين العلم والصلاح، وبين التربية والتعليم في أنفسهم.
ولإنجاز هذه الفريضة لا تكفي مجرّد النيّة والقرار، وإنّما لابدّ من السعي المتواصل وبذل الجهود الحثيثة اللازمة في عمليّة التطبيق.
إنّ الدعاء بمنزلة التصميم، وهو من ضرورات إنجاح العمل، ولكنّه لا يكفي وحده، كما لا يصحّ الاكتفاء بالدعاء في تنفيذ أيّة مهمّة.
يتحتّم على الإنسان أن يخوض صراعاً مريراً مع الشيطان ومع نفسه الأمّارة وشهواته طيلة عمره.
إنّ الجميع يتمتّع بوجود المؤهّلات الذاتيّة لبلوغ منزلة الحسين بن روح، بل أعلى منها أيضاً، لاسيّما إنّ هذا النائب العظيم لم يتلقَّ أيّة ضمانة في عدم بلوغ شخص مّا درجة أسمى من درجته، ولكنّ مفتاح الوصول منوط بالإنسان ذاته.
ففي الحديث المتقدّم المرويّ عن الإمام، أمير المؤمنين سلام الله عليه تمّت الإشارة إلى أنّ شرّ الناس عند الله هم «العلماء إذا فسدوا»؛ ومن ثمّ فإنّ تحديد واقع العالِم ومصيره مرتهن به ومتعلّق بإرادته، فإذا سعى وجاهد ونجح في مهمّة الجمع بين العلم والصلاح، أصبح من أفضل الناس، أمّا إذا فشل في جمع الصلاح والخير إلى علمه، وسقط في الصراع مع النفس الأمّارة بالسوء والشيطان، فإنّه لاشكّ سيصبح الكائن الأسوأ في المجتمع البشري برمّته.
وهاتان العبارتان ـ خير الناس، وشرّ الناس ـ دليلان واضحان على ما لإرادة الإنسان من دور أساسيّ مهمّ ومؤثّر في تحديد مصيره. ولابدّ من الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والتربويّة في صياغة الشخصيّة وتحديد نوعها، لأنّ لكلّ منهما تأثيره ودوره في تنمية الإنسان، ولكنّهما ـ مع ذلك ـ ليسا العاملين الأكبرين.
مثال ذلك: إنّ شهر رمضان المبارك فرصة رائعة من حيث الزمان لكي يستفيد منها الإنسان لتسهيل المهمّة القاضية بتربية نفسه وتهذيبها، مع ملاحظة ما ورد في الروايات المأثورة عن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين والقائلة بأنّ الله عزّ وجلّ سيحبس الشياطين بالحديد(6) عن أن توسوس لبني آدم في هذا الشهر الفضيل، ولكن هل تكفي فرصة شهر رمضان في استغلال هذا الاستثناء الرائع لكي ينجز الإنسان مهمّته الكبرى، والتي من أجلها قد خُلق؟!
الشيطان في شهر رمضان
بين أيدي المسلمين خطبة شريفة متواترة عن النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله، جاء فيها أنّ الله تعالى يحبس الشياطين في شهر رمضان، ثمّ خاطب المسلمين قائلاً: «فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم»(7).
وبناءً على إشارات وتعابير كثير من العلماء، فإنّ الشياطين بمثابة أشياء تتحرّك باتجاه الإنسان بواسطة جاذبيّتها الذاتيّة وجاذبيّة النفس الأمّارة بالسوء لها، إلا أنّ مانعاً كبيراً يصدر من قبل الله تعالى في شهر رمضان المبارك يحول دون إتمام عملية التجاذب، ولهذا المانع قدرة أكبر من قوّة الجاذبة الشيطانيّة، ولكن تبقى جاذبة الشهوات والنفس الأمّارة بالسوء قادرة على الاقتراب من الشيطان في شهر رمضان، ولولا وجود جاذبيّة الشهوات والنفس الأمّارة، لما كان هناك من يقترف ذنباً طيلة هذا الشهر.
ولنا أن نفهم من خلال روايات أخرى، حقيقة الوسائل والأسباب التي تحطّم أغلال الشياطين، التي هي مظهر من مظاهر العناية الإلهيّة.
روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّه قال:
الفتن ثلاث: حبّ النساء، وهو سيف الشيطان. وشرب الخمر، وهو فخّ الشيطان. وحبّ الدينار والدرهم، وهو سهم الشيطان(8).
كما أنّ لبعض أصحاب المعصومين سلام الله عليهم تفاسير وتحاليل وآراء في روايات المعصومين بصورة عامّة.
ومثال ذلك: أنّ علي بن إبراهيم القمّي رضوان الله عليه(9) وهو من أصحاب الإمام الرضا والجواد سلام الله عليهما، ولعلّ له صحبة للإمام الهادي سلام الله عليه، وكذلك يعتبر أستاذاً للعالم المحدّث الشيخ الكليني(10)، أورد أن من جملة الأسباب التي تفكّ القيود عن الشيطان وتمنحه القدرة على النفوذ مرّة أخرى. الرياء والعجب وعدم إخراج الخمس والزكاة، فما يستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ شهر رمضان المبارك هو شهر خاصّ واستثنائيّ.
ولعل سائلاً يسأل قائلاً: اذا كان هذا فعل الشيطان، فلماذا أنظره الله تعالى وأطلقه ثم يحبسه في شهر رمضان؟
وفي معرض الإجابة نقول: إن الله عزّ وجلّ قد أطلق الشيطان ليبتلي به الإنسان ويمتحنه، ولكن الإنسان قد عفي عن هذا الابتلاء والامتحان في شهر رمضان المبارك خاصّة، فهو يتلقّى البركات بلا جهد بذله أو عمل قدّمه.
قصة حبال الشيطان
قيل إنّ شخصاً جاء إلى الشيخ الأنصاري وقال: لقد رأيت الشيطان في عالم الرؤيا وكان معه مزيد من الحبال والسلاسل بأحجام مختلفة، فسألته عنها، فقال: إنّها وسائل عملي حيث أجذب الناس بها وأجرّهم إليّ، فبعض منهم بالحبال أسحبهم، وآخرون بما دقّ منها، ومنهم بالسلاسل الغليظة، أيّ أنه يستخدم وسائله بما يناسب كل إنسان حسب مستوى إيمانه ومقاومته.
قال: ثم رأيت سلسلة محطّمة متناثرة قطعاً صغيرة، فسألته عنها؟ فقال: لقد ألقيت هذه السلسلة الكبيرة على عنق الشيخ الأنصاري(11) لأقيّده بها، ولكنه قاوم حتى تحطّمت وتناثرت.
ثمّ إنّ هذا الرجل صاحب الرؤيا قال: فسألت الشيطان في المنام نفسه عن أيّ الحبال قد خصصّها لجذبي نحوه، فأجابه الشيطان بأنّك لا تحتاج إلى واحد منها، لأنّك تستجيب لي بإشارة بسيطة منّي!!
أقول: إنّ أمام الإنسان فرصة مواجهة النفس الأمارة بالسوء والشيطان ـ ما دام على قيد الحياة ـ ليحفظ نفسه ويصونها دون الاضطرار إلى الانحراف، حيث لا يجد لنفسه فرصة الندم عند الموت، ولات حين مناص.
اضف تعليق