الأخلاق تمثل روح الحضارة، والبناء المادي والتقدم العلمي والتطور التقني، والبناء المدني ما هو إلا جسد وجسم للحضارة سنتتبع محاضرات المرجع الشيرازي باحثين عن غذاء للروح المعذبة لشابنا، ودواء للحضارة الإنسانية لحياتنا لعلنا نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ونبلغ عن رسولنا وأئمتنا ولو كلمة، ونأخذ بيد شبابنا وأجيالنا...
مقدمة أخلاقية
الباحث في الواقع الذي يعيشه العالم من حولنا في هذا العصر الذي تفجَّرت فيه ثورة المعلومات وصارت الكرة الأرضية قرية إلكترونية، يتحكمون فيها بالأزرار من خلف مكاتبهم، أو في أيديهم بهواتفهم الذكية، فالحضارة الرقمية حوَّلت الدنيا إلى قرية كبيرة وهذا ما جعل فيها أزمات كبيرة ومتفاقمة لأنها صارت على مستوى العالم أجمع والشعوب المختلفة في دول العالم.
ومن أعظم وأكبر تلك الأزمات هي الأزمة الأخلاقية، والفضيلة والقيمة إذ أن الحضارة الرقمية داست على ذلك كله، ولم يبقَ منها اسم ولا رسم حيث تعملقت المادة وطغت على كل شيء في هذه الحضارة، ولذا تراها خاوية على عروشها من الفضيلة، والذين يتحكمون ويسيطرون على مقاليد الأمور فيها هم ربما لا يعرفون معنى للقيمة، والفضيلة، والأخلاق، فالدنيا عندهم مادة والحياة أرقام إما في البنوك، أو في الصناعات الدقيقة الرقمية، ولا شيء وراء ذلك عندهم.
فالحضارة الرقمية خَلَت بل تخلَّت عن الإنسانية، فصار الإنسان فيها بلا قيمة، وقيمته كقيمة أي برغي في ماكينة الحضارة، وهذا ما ظهر جلياً في الأزمة الصحية التي سببها فايروس (كوفيد 19) أو ما يُسمونه (الكورونا)، حيث أظهرت الدول والحكومات المتحضِّرة على حقيقتها، وأنها نفعية تبحث عن الرِّبح، والمال، ولو داست على كل الأعراف والقيم والفضائل الإنسانية.
فالمشكلة الحقيقة، والأزمة الواقعية التي يعاني منها العالم في ظل الحضارة الرقمية اليوم هي مشكلة الأخلاق، والنظام القيمي الذي تُبنى عليه المجتمعات البشرية والحضارات الإنسانية، وذلك لأن الحضارة تنطلق من حضور المنظومة الأخلاقية في البناء القيمي لها، ولا حضارة إلا بهذا المعنى، لأنه القيمة والأخلاق تمثل روح الحضارة، والبناء المادي والتقدم العلمي والتطور التقني، والبناء المدني ما هو إلا جسد وجسم للحضارة وإذا فقدت الروح فقد فقدت الحياة كما نرى بأم العين في هذا الزمن، حضارة وتقدم كبير جداً ولكن لا روح فيه، ولا قيمة له، وتلك هي المشكلة المستعصية على أهل الفكر، والعقل، والرأي فيها، ولذا احتاجت إلى هذا الفيروس المنحوس ليوقفها على حقيقتها، ويوقظ أهلها من سكرتهم التي يعيشون فيها.
فما هي الأخلاق، وكيف لنا أن نرجع إلى منظومتها لنبعث الروح في هذه الحضارة المتهالكة؟
هذا البحث طويل وشيِّق وجميل ولكنه يأتي في زمن قد يكون ذلك آخر ما يفكر فيه أرباب وأصحاب الحضارة الرقمية لأنهم قتلوا الإنسان منذ أن إدَّعى ذلك ميشيل فوكو من بداية القرن الماضي، حيث قال: "بقتل الإنسان"، تبعا لفكرة "قتل الإله وأنهم قتلوه"، عند أستاذه "نيتشه"، الذي كان يعيش تحت جلده كما كان يقول، وما الإنسان عنده إلا كلوحة رُسمت على رمال الشاطئ تُمحى تماماً بمجرد وصول الموج إليها، فلا معنى للإنسان ولا للإنسانية في فكر الحضارة الغربية اليوم.
فالمتأمل في تاريخ الفلسفات ونشأتها عندهم كانت ما بين إفراط وتفريط، فبعضهم جعله (الإنسان) محوراً للكون، فهو بمثابة الإله، فكل شيء منه وإليه يعود، وأما المجانين فجعلوه شيءً من الأشياء، ولا قيمة حقيقية وواقعية له، فالقسم الأول أفرطوا به، والآخر فرَّطوا فيه إذ جعلوا قيمته بما يُقدِّمه من خدمات مادية لأسياده، ولذا تراهم هجروا الإنسان وراحوا يعطفوا على الحيوانات وهذا من أعجب العجب في هذه الحضارة، التي تقتل الإنسان وترفع وتأوي الحيوان.
تعريف الأخلاق
قالوا في اللغة: "الخُلُق؛ الطَّبع والسَّجية، وفي اصطلاح العلماء: هي عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية". (أبو حامد الغزالي)
والأخلاق: هي مجموعة من الصفات الراسخة والمستقرة في النفس، تصدر عنها الأفعال والأحكام الحسنة دونما تكلُّف، لأنها مطبوعة، ومعجونة، بطينته وطبيعته.
والأخلاق: علمٌ وقواعد عملية واجبة الالتزام؛ حتّى يكون الإنسان أخلاقياً في حياته، وإنسانياً في معاملاته.
وعلم الأخلاق: هو العلم الذي يبعث الكمال في النفس البشرية، وينمِّي القوّة والاستقلال في العقل البشري؛ وهو العلم الذي يساير الإنسانيّة في اتجاهاتها، ويوجّهها عند حيرتها، ويأخذ بيد العقل عند اضطرابه، ويمدُّه بالقوّة عند ضعفه". (الإمام الحسين والوهابية؛ الشيخ جلال معاش: ص29)
وعلم الأخلاق: هو الرسالة العامّة التي يلزم على كلّ حيّ مدرك أن يبلِّغها إلى كلّ حيّ مدرك، وهو الأمانة الكبيرة التي يجب على كلّ كائن عاقل أن يؤدّيها إلى كلّ كائن عاقل. (الأخلاق عند الإمام الصادق (ع): ص 6)
أهمية الأخلاق
الحياة هي الأخلاق، ولا حياة بلا قيم أخلاقية تحكمها وتضبطها، فلها أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك البشر والإنسان وما يصدر عنه، لأن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في قلبه ونفسه من معان وصفات، كما يقول الغزالي: "فإن كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة"، وهذا من القضايا المتعارفة اجتماعياً.
فأفعال الإنسان موصولة بما في نفسه من معان وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها وجذورها، فإصلاح أفعال الإنسان لا تكون إلا بصلاح أخلاقه، وقيمه، لأن الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح الفرع، وإذا فسد الأصل فسد الفرع، قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (الأعراف: 58)
ولهذا كان النهج الصحيح في إصلاح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها وغرس معاني الفضيلة والأخلاق الجيدة فيها، وهي لبُّ رسالات السماء إلى أهل الأرض كلها، لأن كل الأديان والكتب السماوية لها صبغة اجتماعية وهي نزلت على الأنبياء والمرسلين، لتقويم السلوك العام، وتعليم أصول الحياة الكريمة للبشر.
وهذا ما أكده رسول الإسلام العظيم (ص) الذي حصر دينه ورسالته الخاتمة بهذه المسألة حين قال: (إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاقِ)، فالبعثة الشريفة حصرها صلوات الله عليه بإتمام مكارم الأخلاق، وتحسينها، وتأكيدها، وترسيخها في المجتمع الإنساني، لأن أي تغيير في المجتمع يجب أن يبدأ من إصلاح النفوس، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، فالتغيير يبدأ من النفوس، ولا يمكن لمصلح أن يؤدي رسالته في التغيير إلا بالعلم والتعلم، والتزكية والتطهير للنفوس الآدمية، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164)، وتكررت بنفس المعنى في سورة الجمعة المباركة، وهي كانت دعوة أبونا إبراهيم الخليل (ع) أيضاً.
دور الأخلاق في الإسلام
للأخلاق في الدِّين الإسلام مكانة عظيمة جداً، وذلك من وجوه كثيرة، تُظهر أهمية ودور السلوك الأخلاقي، والفضيلة في المجتمع الإسلامي، ليكون القاعدة التي يبني عليها الحضارة الإنسانية التي يطمح إليها هذا الدِّين العظيم في حياة البشرية كلها، ومن تلك الوجوه الأخلاقية نذكر:
أولاً: تعليل الرسالة والبعثة وحصرها بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارم الأخلاق، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاقِ).
ثانياً: تعريف الدِّين الإسلامي بـ(حُسن الخُلق) كما جاء في حديث عن رسول الله (ص).
ثالثاً: هو ما يرجِّح كفَّة الحسنات يوم الحسنات يوم الحساب حسن الخلق، ففي الحديث الشريف قال (ص): (أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق).
رابعاً: هو معيار التفاضل بين المؤمنين يتفاضلون وفي الحديث: قيل يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال: (أحسنهم خلقاً).
خامساً: وأهل الفضائل والقيم الأخلاقية أحب الخلق وأقربهم إلى رسول الله (ص)، وكفى بها فخراً قال (ص): (أن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً).
صاحب الخُلق العظيم (ص)
كم كان عظيماً رسول الإنسانية، ومنقذها من الضياع والضلال، وكان من أعظم مزاياه وسجاياه أخلاقه، التي مدحه الله تعالى عليها بقوله تعالى واصفاً أخلاقه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، والله تعالى لا يمدح رسوله إلا بالحق وبالشيء العظيم فعلاً، ولذا قالوا عنه: (كان خُلقه القرآن)، فالقرآن كلام الخالق إلى المخلوق، وهو أعلم بخلقه وما يؤلفهم به حيث أشار إلى ذلك بقوله لحبيبه (ص) في قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)
فالنبي الأعظم (ص) الذي أدَّبه الله وأحسن تأديبه، وصُنع على عينه، وكان كما وصفه أديبه وربيبه أمير المؤمنين فقال: (وَلَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ)، إلا أنه كان يدعو ربه بأن يحسّن خلقه – وهو الإنسان الكامل فيها - وأن يهديه لأحسنها، فقد كان يقول في دعائه (ص): (اللهم حسَّنتَ خَلقي فحسِّن خُلقي)، هذا درس عظيم لنا في أن نطلب من الله مكارم الأخلاق.
الأخلاق علم وعمل
الأخلاق في الدِّين والشريعة الإسلامية ليست مجرد علم نظري، وقواعد علمية جامدة بل هو سلوك اجتماعي، وعمل واقعي بكل تلك القواعد الأخلاقية، ولا قيمة للعلم بلا عمل، وهذا ما دأب عليه علماؤنا الأعلام ومراجعنا الكرام، الذين استقوا من معين الإسلام الصافي، وشربوا من سلسل آل محمد (ص) العذب، فصاروا قدة للمقتدين وأسوة للمتأسين في العالمين.
وهنا نذكر تلك الأسرة العلمية، التي ظهرت، وتفوَّقت على كل الأسر المماثلة بقرنها للعلم بالعمل والنظري بالتطبيق الواقي في المجتمع، وهي أسرة المجدد الشيرازي (رحمه الله) ثم هذه الأسرة الكريمة من آل الشيرازي الذين توارثوا العلم والمرجعية كابراً عن كابر، وقرنوها بالأخلاق فكانوا صورة راقية جداً عن العلماء الأعلام والمراجع الكرام.
فكم سمعنا وقرأنا عن سماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره)، وكم ظهر للناس من ولده الفقيه محمد رضا الشيرازي (رحمه الله)، الذي وصفه أكثر من أخٍ فاضل لي شخصياً بقوله: "كان ملاكاً يمشي على قدمين"، وهذا ما كان يظهر منه في محاضراته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بما احتوته من علم وفضيلة وكان أعجب ما فيها تلك البراءة التي تطفح من وجهه الشريف، والبسمة الطاهرة من محياه، ثم سكونه وهدوءه وكأنه لم يعرف شيء عن مشاكل الدنيا وأزماتها، حتى سمعتُ من أحد السادة الكرام من إخوته، حيث حكى لي أنه دخل على والده السيد المرحوم وكان عنده السيد محمد رضا وكان يظهر من ملامح وجهه الضِّيق، ووالده يبتسم وعندما دخل عليهم قال له والده: "تعالى وانظر السيد محمد رضا لا يعرف كيف يغضب".
ولماذا نذهب بعيداً فهذا وريث تلك الشجرة المباركة الطيبة سماحة المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (حفظه الله)، فلا أحد يراه إلا ويتعجب من لطافته، وطيب أخلاقه، وكل ذلك يظهر من سماحته قولاً وعملاً وسلوكاً إذ أنه يقرن القول بالفعل، والعلم بالأخلاق، لأنه لا فائدة من علم لا تُرافقه الفضيلة، فهو سيتحول إلى كارثة على الإنسانية كما نرى ونسمع اليوم بكل ما يجري في العالم من مآسي بسبب العلم الذي لا يُرافقه فضل وخُلق قويم يهديه للحق.
فالحضارة المعاصرة هي حضارة عملاقة مادياً ولكنها أقل وأصغر من القزم روحياً ومعنوياً، ولهذا هي تسير إلى الفناء، والدَّمار، وتقف على حافَّة الهاوية التي ستنهار بها في جهنم لا قدَّر الله، إلا أن يُدركها الرحمن بمنقذ لها، وما ذلك على الله بعزيز.
ومن هذا المنطلق، وبهذا المنطق القيمي نجد اهتمام سماحة السيد المرجع الشيرازي (دام ظله) بالفضيلة والخُلق الحسن، ولذا تراه في محاضراته الأخلاقية التي صارت كتباً منها؛ (العلم النافع، سبيل النجاة)، و(حلية الصالحين) وهو شرح لدعاء (مكارم الأخلاق) للإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، و(يا أبا ذر، قبسات من وصية النبي الأكرم (ص)، و(السياسة من واقع الحياة)، وغيرها كثير من الكتب والمحاضرات التي تطفح بالأخلاق والفضائل من سماحته كان يُفيضها على الطلاب والروَّاد لمجلسه المبارك لسماع دروسه المفيدة.
ولسماحته كلمة غاية في الدِّقة والرِّقة والجمال في كتابه (يا أبا ذر) يقول فيها سماحته: " صحيح أن نيل المراتب العلمية العالية وبلوغ درجة الاجتهاد بحاجة إلى مزيد من الجهد، ولكن بلوغ الفرد لمرتبة (الإنسانيّة) يحتاج إلى جهد أكبر.. لقد نُقل عن الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بأن قال: "أن يكون المرء عالماً فذاك أمر مشكل، ولكن أن يكون إنساناً فذاك أمر أشكل".
الشيطان وتزكية النفس
في قضيّة تزكية النفس والتحوّل إلى إنسان، ثمّة عدو لدود يسمّى الشيطان، وقد أقسم على عدم السماح لأيّ إنسان بالتقدّم والتطوّر فيما يتعلّق بالأمور المعنويّة، ولا ننسى أنّه لا قيمة للعلم وحياة ابن آدم عموماً دون إحراز التقوى والالتزام بقوانين السماء، ولذا قال أحد الشعراء معبّراً عن هذا المعنى الكبير:
لو كان للعلم من غير التقى شرف *** لكـان أشــرف خــلق الله إبليــس
إنّ علم إبليس أكثر من علم الناس (العاديين)، ولكنّه لا تقوى له، وتلك كانت مشكلته، ولذلك فإنّ من له علم، ولا تقوى له، فإنّه في واقع الأمر لا يحقّق شيئاً في إطار التقدّم والتطوّر الإنساني.
إنّ الشيطان لا يتربّص بالقتلة والسرّاق والمفسدين فحسب، وإنّما سخّر كلّ قواه وأسلحته لصدّ العلماء والصالحين أيضاً، بل إنّ اهتمامه بتخريب شخصيّة العالم أكبر بكثير من اهتمامه بسائر الناس، ذلك لأنّ العالَم برمّته قد يفسد بفساد العالِم. وقد قيل: "صلاح العالِم صلاح العالَم، وفساد العالِم فساد العالَم".
إنّ الدنيا تصلح وتعمر بصلاح العالِم، وفساد العالم يعني خراب الدنيا وما فيها، لأنّ المفترض بأهل العلم أن يكونوا القادة الفعليين للحركة الإنسانيّة، فما بالك إذا فسد قادة المجتمع وأصبحوا يوجّهونه نحو الشرّ والفساد؟! وقد قال الله عزّ اسمه في القرآن المجيد: (لقدْ مَنَّ اللهُ عَلى المؤمِنينَ إذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ يَتلُو عَلَيهِمْ آياتِه وَيُزَكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمْ الكتابَ والحكمةَ) (آل عمران: 164)
فقدّم سبحانه التزكية على التعليم، لأنّ العلم من دون التزكية لا ينفع، وعلى المرء أن يكتسب القدرة لإصلاح نفسه، ومفتاح ذلك بيد الإنسان نفسه". (يا أبا ذر: ص102)
والحضارة اليوم أخذت بالتقدم والعلمي والتطور التقني والتكنولوجي ونست الروح والمعنوية ولذا تراها خاوية على عروشها، فهي رغم كل تقدمها وتطورها إلا أنها فارغة فلا قيمة لها، وحتى الحياة فيها صارت أشبه بجحيم يعيش الناس فيه، فلا بركة، ولا شرف، ولا قيمة، ولا غيرة ولا حميَّة، ولا أي صفة من الصفات، أو القيم الأخلاقية، هذا عندنا وفي مجتمعاتنا الإسلامية أما ما نراه ونسمعه عن الغرب فإن كل الفضائل والقيم صارت رذائل وانقلبت القيم رأساً على عقب فصارت القيمة والفضيلة عندهم رذيلة، وأبشع وأشنع الرذائل كالمثلية الجنسية، والتحلل الخلقي فضيلة، فصاروا أقرب إلى مجتمع البهائم منهم إلى مجتمع البشر.
وبعض أبنائنا –لا سيما الشباب منهم حفظهم الله– منبهرون بهم وراكضون في أثرهم يريدون أن يلحقوا بركب تلك الحضارة التي هي أقرب على البهيمية منها إلى الإنسانية، وكان الجدير بهم أن يبحثوا عن أنفسهم وقيمهم الروحية وما يحقق لهم الإنسانية في تراثهم الإسلامي الراقي، وينهلوا من معين أهل البيت (ع) الصافي، نسأل الله لنا ولهم الهداية والثبات على الولاية.
وهنا سنتتبع بعض محاضرات سماحة السيد المرجع الكبير والمربي القدير السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، باحثين عن غذاء للروح المعذبة لشابنا، ودواء للحضارة الإنسانية لحياتنا لعلنا نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ونبلغ عن رسولنا وأئمتنا ولو كلمة، ونأخذ بيد شبابنا وأجيالنا في طريق العزة والكرامة والفضيلة بإذن الله تعالى.
اضف تعليق