ضاعت الحقيقة لأنهم هم الذين أمروا وطلبوا كتابة التاريخ، فلم يجدوا فيه ذكر لهم فمزَّقوه، وكتابة الأنساب فلم يجدوا أنفسهم إلا لواصق وطوالق فأحرقوه، وراح الوضاعون والكذابون يكتبون لهم ما يُرضيهم ويُرغم أنوف بني هاشم أعداءهم كما يظنون، فملؤوا الدنيا بالكذب والدجل وراحوا يُسوِّقون ذلك في الأمة...
استشهدت السيدة زينب في يوم الأحد 15 رجب الأصب 62ه أو 65ه
مقدمة تاريخية
التاريخ الإسلامي عجيب غريب في الاختلاف حول سادته وقادته من أهل البيت الأطهار (ع) فلماذا كل هذا الاختلاف في تواريخ ولاداتهم، وشهاداتهم، والكثير من تفاصيل أولئك الأبرار والثلة الأطار في أمة تدَّعي الانتساب إليهم وإلى دين جدهم رسول الله محمد بن عبد الله (ص)؟
في الحقيقة لأن التاريخ يُكتب بأقلام أتباع السلطة والدائرين في فلك السلاطين، وهذه الأمة قد ابتُليت منذ البداية بانقلاب على الشَّرعية والحُكام الذين أرادهم الله ونصبهم رسول الله (ص) لهم، فيما يُعرف بسقيفة بني ساعدة المشؤومة التي أعدُّوا لها العدَّة من قبل أن ينتقل الرسول القائد إلى الرفيق الأعلى.
ومن ذلك اليوم منعوا كتابة الحديث الشريف، وأحرقوا ما كتبوا في حياة الرسول الأكرم (ص)، ثم منعوا رواية السيرة، لا سيما فضائل أهل البيت (ع)، وجاؤوا بقصاصين ليحكوا لهم قصص بني إسرائل، وهكذا أقصوا كل مَنْ يرتبط بأهل البيت (ع) عن أي سلطة وولاية صغيرة كانت أو كبيرة، وفرض عليهم الاقامة الجبرية وصادروا أموالهم المنقولة وغير المنقولة، بأحاديث اخترعوها أو حرَّفوها لأجل ذلك، ومن ثم أوصلوها إلى أبناء الشجرة الزقومية الملعونة في القرآن الأموية فحوَّلوا الخلافة والسُّلطة إلى ملك عضوض، مستخدمين شعار أبو سفيان: "لا جنة ولا نار إنما هو الملك، تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الصبيان للكرة"، وعمل خليفتهم كما أمره كبيرهم "الأمر غاصبية واجعلى أوتاد الأرض بني أمية"، وهذا ما مكَّنهم من أموال ومفاصل الدولة الاسلامية حيث حازوا بيوت الأموال وكانت ركيزتهم الأولى وقاعدتهم الأشد في يد معاوية بن هند الهنود في الشام، حيث سلَّطه الخليفة الثاني وأطلق يده في كل شيء فكان يُحاسب الجميع إلا معاوية فكان يقول له: "لا آمرك ولا أنهاك"، وكان يقول عنه مادحاً: "فتى قريش وابن سيدها"، بل يُسميه: "كسرى العرب"، وهذا ما شجَّع معاوية على الإتصال بهرقل الروم ومد حبال الود بينهما، لأنه أصلاً أمية من جواسيس الروم الذين أرسلوهم لاغتيال سيدنا هاشم في مكة فلم يستطع فتتبَّعه فقتله في غزة في رحلة الصيف إلى الشام.
وما أن وصل أمير المؤمنين وسيد الوصيين فتى الإسلام، وابن سيد قريش الإمام علي بن ابي طالب (ع) إلى الحكم حتى قامت قيامة قريش من جديد فكانت أنظار بني أمية جميعاً وأموالهم وقوتهم مركزة على الشام وبعد صفين وما جرى من مهازل تاريخية وظهور الخوارج الأغبياء، مكَّن بني أمية الأشقياء من الحكم فراحوا يسبُّون أهل البيت (ع) وأمير المؤمنين (ع) على المنابر، ومنعوا رواية أي حديث فيهم، بل قتلوا كل مَنْ تسمَّى بأسمائهم، وصادروا أمواله، وهدموا داره، وأسقطوه من الدِّيوان.
وشكَّل معاوية لجنة من الدجالين والفسقة الكذابين لوضع الحديث في الصحابة من قريش، وخاصة بني أمية ممَّنْ ليس لهم شأن مذكور ولا عمل مشكور في الإسلام لأنهم كانوا جرثومة الفسق والفجور والعهر والفساد في قريش، وهنا ضاعت الحقيقة لأنهم هم الذين أمروا وطلبوا كتابة التاريخ، فلم يجدوا فيه ذكر لهم فمزَّقوه، وكتابة الأنساب فلم يجدوا أنفسهم إلا لواصق وطوالق فأحرقوه، وراح الوضاعون والكذابون يكتبون لهم ما يُرضيهم ويُرغم أنوف بني هاشم أعداءهم كما يظنون، فملؤوا الدنيا بالكذب والدجل وراحوا يُسوِّقون ذلك في الأمة فانتشرت فيها تلك الروايات العجيبة الغريبة فكانت إما إسرائيلية فاسقة، أو أموية كاذبة ومنافقة، وهنا ضاعت الحقيقة على الأمة وظهر الاختلاف العجيب في أحوال أهل البيت الأطهار (ع)، وإليك الصورة الكارثية كما يرويها ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة.
روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله: أما "بعد أن برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته"، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة مَنْ بها من شيعة علي (ع) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة، وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (ع) فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل، وطرَّفهم وشرَّدهم عن العراق فلم يبقَ بها معروف منهم.
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: "ألا يُجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة".
وكتب إليهم: "أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته".
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً.
ثم كتب إلى عماله: "أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة، والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إليَّ، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب، وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله".
فقُرئت كتبه على الناس فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وأُلقي إلى معلمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم، ونساءهم، وخدمهم، وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.
(ولك أن تتصوَّر ماذا فعلت تلك الأوامر الأموية في الأمة، وكيف أخذوا الأمة إلى حتفها بأحاديث اختلقوها واخترعوها من عند أنفسهم تُعادي أولياء الله وتوالي بني أمية أعداءه).
ولم يكتفِ بكل ذلك بل عندما وجد أن أوامره مطاعة ولا منازع له فيها، كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: "انظروا مَنْ قامت عليه البيِّنة أنه يحب علياً، وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه، ورزقه"، وشفَّع ذلك بنسخة أخرى: "مَنْ اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكِّلوا به (اقتلوه)، وأهدموا داره".
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي (ع) ليأتيه مَنْ يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يُحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان (الأقسام) الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع وبُهتان منتشر (ثم مجموع فيما يُسمونه بالصِّحاح التي ما صحَّت لأصحابها، ولا صحَّ منها شيء في أهل البيت فأنى لها أن تكون صحيحة؟)، ومضى على ذلك (الكذب والدجل) الفقهاء، والقضاة، والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القرَّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك (الصوفيون)، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الدَّيانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها. (وإلى الآن هؤلاء كارثة من كوارث الأمة).
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات (استشهد) الحسن بن علي (ع) فازداد البلاء والفتنة فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض.
ثم تفاقم الأمر بعد أن وُلي عبد الملك بن مروان فاشتدَّ على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدَّين ببغض علي (الذي حبه إيمان بغضه كفر ونفاق)، وموالاة أعدائه وموالاة مَنْ يدَّعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم، وسوابقهم، ومناقبهم، وأكثروا من الغضِّ من علي (ع)، وعيبه، والطعن فيه، والشنئان له حتى أن إنسانا وقف للحجاج ويقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به: "أيها الأمير إن أهلي عقُّوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج"، فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسَّلت به قد وليتك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال: "إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم". (شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ج11 ص 46)
هل اتضحت الصورة أيها العزيز وعرفت كيف انقلبت رأساً على عقب فصار اللعناء سادة وقادة وأهل البيت يُلعونون على المنابر التي ما رُفعت إلا بسيف علي (ع)، ولهذا تجد كل هذا الاختلاف في كل ما يتعلَّق بأهل البيت الأطهار (ع)، ومنه ما نحن فيه من وفاة وشهادة السيدة زينب الكبرى (ع) التي تكون حفيدة رسول الله (ص) من وحيدته وهي ربما الشخصية الثانية في النساء بعد أمها فاطمة الزهراء (ع) إلا أنها اشتركت في نهضة أخيها الإمام الحسين (ع) ورافقته فيها وحملت رايته بعدها في وجه الأمويين أعداء الله وأعداءه فهل سيتركونها تتحدَّث بمجريات الثورة، وتُخبر الناس بتلك الفجائع التي وقعت في يوم عاشوراء وعلى صعيد كربلاء؟
أبداً بل كانوا يُراقبونها ويعدُّون أنفاسها الطاهرة وأنَّاتها الزافرة على أخيها والشهداء من إخوتها وبنيها، حتى ضاقت بها المدينة المنوَّرة فأخرجوها منها منفيَّة بعد أن أثارت الأمة وأشعلت الأرض تحت حكم يزيد بن ميسون، لأنهم ليس لديهم علمها فهي (عالمة غير معلمة)، ولا فهمها للأمور وهي (فهمة غير مفهَّمة)، وليس لديهم بلاغتها لأنها (تُفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين (ع) الذي علَّم العرب البلاغة والبيان، فبماذا يواجهونها إلا بالطرد من المدينة، والنفي في البلاد، وهنا التاريخ أيضاً ظلمنا حيث أعمى علينا وجهتها الصحيحة والحقيقية، فإلى أين ذهبت السيدة زينب (ع) وهي صاحبة أكثر مواطن ومواقع منسوبة إليها وهي منتشرة في البلاد الإسلامية كلها.
نفي وتهجير السيدة زينب (ع) من المدينة
تنوَّعت المصادر والأقوال في مكان شهادة ودفن السيدة زينب (ع) وأهمها ثلاثة هي:
أولاً: المدينة المنورة وفي بقيع الغرقد
وهذا أعجب الأقوال في المسألة لأنه لا أثر له في الواقع الخارجي في المدينة، فقد قيل: إنها توفيت في المدينة المنورة، ودُفنت في البقيع الغرقد وهذا ما ذهب إليه السيد محسن الأمين العاملي (قدس سره)، في (أعيان الشيعة: ج 7 ص 140)، علماً أنه لا يوجد قبر في البقيع باسم السيدة زينب أصلاً، وذلك لأنه ثبت رجوعها إلى المدينة ولم يثبت خروجها منها فحكم بهذا الحكم بأنها عاشت وتوفيت ودُفنت فيها مستخدما الاستصحاب على ما يبدو، وكأن الأمر حكم فقهي نستخدم فيه القاعدة.
ثانياً: في قاهرة مصر العدية
وقيل: إنها نُفيت من المدينة المنوَّرة إلى مصر العدية، ونزلت في ضواحي القاهرة في مقامها المعروف حالياً (السيدة زينب (ع)، وذهب إلى ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن العبيدلي، في كتابه؛ (أخبار الزينبات)، وابن طولون، والشيخ محمد جواد مغنية وغيرهم، وقبل القبر في مصر هو لزينب بنت يحيى، وليس لزينب الكبرى (ع).
ومما روى العُبيدلي (سنة 214 هـ في المدينة المنوّرة، وتوفّي سنة 277 في مكة المكرمة) وهو من أعلام آل البيت الأعرجي الحسيني في القرن الثالث الهجري، قال: أخبرنا مُصعَب بن عبد الله قال: كانت زينب بنت علي ـ وهي بالمدينة ـ تُؤلّبُ الناس على القيام بأخذ ثار الحسين، (وهنا تكمن الحقيقة)، فلمّا قام عبد الله بن الزبير بمكّة، وحَمَل الناس على الأخذ بثار الحسين، وخلع يزيد، بَلَغ ذلك أهل المدينة، فخطبت فيهم زينب، وصارت تؤلّبهم على القيام للأخذ بالثار، فبَلَغَ ذلك عمرو بن سعيد (الأشدق والي المدينة من قِبل يزيد الشَّر)، فكتب إلى يزيد يُعلِمُه بالخبر.
فكتب [يزيد] إليه: «أن فَرّق بينها وبينهم» فأمر أن يُنادى عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء.
فقالت: «قد علم الله ما صار إلينا، قُتِل خَيرُنا، وانسَقنا كما تُساق الأنعام، وحُمِلنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإن أُهريقَت دماؤنا».
فقالت لها زينب بنت عقيل: «يا ابنة عمّاه! قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوّأُ منها حيث نشاء.. فطيبي نفساً وقَرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين.. أ تُريدين بعد هذا هوانا؟! إرحَلي إلى بلد آمِن».
ثمّ اجتمع عليها نساء بني هاشم، وتَلَطّفنَ معها في الكلام، وواسَينَها.
وبالإسناد المذكور، مرفوعاً إلى عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعتُ محمّداً أبا القاسم بن علي يقول: «لمّا قَدِمَت زينب بنت علي من الشام إلى المدينة مع النساء والصبيان، ثارت فتنةٌ بينها وبين عمرو بن سعيد الأشدَق، فكتب إلى يزيد يُشير عليه بنقلها من المدينة، فكتَبَ له بذلك، فجهّزها: هيَ ومَن أراد السَّفر معها من نساء بني هاشم إلى مصر، فقَدِمتها لأيّام بَقيت من رجب».
وفي رواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، عن أبيه، عن الحسن بن الحسن، قال: «لمّا خرجت عمّتي زينب من المدينة خرج معها مِن نساء بني هاشم: فاطمة إبنة عمّي الحسين، وأُختها سكينة».
ورُويَ عن رقيّة بنت عقبة بن نافع الفهري، قالت: «كنتُ فيمَن استَقبَل زينب بنت علي لَمّا قَدِمَت مصر.. بعد المصيبة (عاشوراء)، فتقدّم إليها مُسلمة بن مُخلّد (والي مصر)، وعبد الله بن حارث، وأبو عميرة المزني، فعَزّاها مسلمة وبكى، فبَكت وبكى الحاضرون وقالت: «هذا ما وَعَد الرحمن وصدق المرسلون».
ثمّ احتملها إلى داره بالحمراء، فأقامت به أحد عَشَرَ شهراً، وخمسة عشر يوماً، وتُوفّيَت، وشَهِدَت جنازتها، وصلّى عليها مسلمة بن مُخلّد في جمع [من الناس] بـ [المسجد] الجامع، ورجعوا بها فدفنوها بالحمراء، بمخدعها من الدار بوصيّتها».
وقالت: «تُوفّيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يوماً مضت من رجب، سنة 62 من الهجرة، وشَهِدتُ جنازتها، ودُفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدّة بالحمراء القصوى، حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. (أخبار الزينبات للعبيدلي: ص 121 ـ 122)
ثالثاً: في ضاحية دمشق الشام
ومنهم مَنْ قال: إنها توفيت في الشام ودفنت في بستان بقرب مدينة دمشق يعود ملكيته لزوجها عبد الله بن جعفر.. حيث مزارها المعروف حالياً، وهذا هو الأظهر وقد اختاره الإمام الشيرازي (دام ظله) في كتبه ك(الدعاء والزيارة) وغيره فيما كتب وألَّف عنها، وكانت قصَّة ذلك كما تروي الكتب أنها بعدما رجعت من كربلاء إلى المدينة حزينة باكية لم تفارقها الدَّمعة ولا الرنَّة ولا الأنَّة على أحداث كربلاء فخافت منها السلطة القرشية الأموية فعلاً لأنها كانت خطيبة مفوَّهة، وبليغة ولبيبة تؤثر بالقلوب أكثر من أثرها في الأسماع خاصة عندما تروي مصائب كربلاء، فضاق بها ذرعاً الأشدق ومروان وصبيان النار الأموية، فكتبوا إلى يزيد بشأنها فأمرهم بإخراجها ونفيها وتفريق الناس عنها، أو إبعادها عن الناس في المدينة، وبعد ذلك التاريخ أضاع الحقيقة، إذ أنه لم يتتبَّع خطواتها الحزينة فهل انطلقت إلى مصر واستقرَّت فيها إلى أن وافاها الأجل في النصف من رجب 62ه؟
أو أنها كانت في محمل آخر مع زوجها عبد الله بن جعفر الذي خاف عليها من الهلاك والموت حزناً وغمَّاً على إخوتها وبنيها من شهداء كربلاء فحملها إلى مزرعة كانت له في ضواحي دمشق الشام للتنزُّه والتسلية عنها ومواساتها ومساعدتها لكي تنسى أحزانها في تلك المنطقة الجميلة التابعة إلى غوطة دمشق الجنوبية، وهي من أجمل وأبهج المناطق في حينها وتُسمى (راوية)، فما أن وصلت إلى أطراف الشام تجدد حزنها وتذكرت تلك الرؤوس المشالة أمامها، لا سيما أبو الفضل العباس، والأكبر، والقاسم، وما جرى عليها في الشام، وفقدها لعزيزتها رقية في الخربة، فكانت نفسها فيها فحفر لها عبد الله بن جعفر ودفنها في ذلك البستان وهو ما عرفناه، وعشنا في ظله، وتلمسنا بركاته العجيبة الغريبة في هذه الأزمة السورية وخلال الحرب الكونية علينا فيها، ففي كل لحظاتها وأصعبها كنَّا نشعر ونحس بوجودها معنا وغطائها لنا فهي التي حمتنا وحمت عيالنا من قطعان التكفير المجرمة فعلاً.
وخلاصة الحديث
أننا نقوِّي رواية وجودها في مصر العدية كقرائن تاريخية، ولكن كوقائع عشتُها وشهدتُها طيلة عقود من الزمن قضيتُها في ظلها وجوارها المبارك الطيب ورأيتُ من الخيرات والبركات ما يؤكد أنها في الشام، كما يذهب الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) والكثير من علمائنا الأعلام ولكن الحقيقة أين؟ تلك التي ستبقى في ضمير الغيب إلى أن يأذن الله بالفرج للعالم من آل محمد فيُخبرنا الحقيقة بلا خفاء ولا عماء.
فالحكام الظالمين، والطغاة الأمويين، والمؤرخون الدجالون من كتبة السلطان، قد حاربوا أهل البيت (ع) في تاريخهم وآثارهم حيث حاولوا أن يمحوهم من التاريخ، وعندما لم يستطيعوا شوَّهوا ذلك التاريخ الناصع بأقلامهم المأجورة للأسف الشديد.
السلام على فخر المخدرات، وعقيلة بني هاشم أينما كانت، فمحلها في قلوبنا أبداً.
اضف تعليق