مربع صغير في أحد الصحف المحلية كان قد اشار الى أن بغداد من اسوء المدن في جودة الحياة، في قائمة تربعت عليها المدن الاوربية بكل جدارة واستحقاق، لم يخض أحد في هذا الموضوع لكونه ليس بجديد على بغداد أو حتى على العراق بأجمعه أن يقبع ساكناً غير قادر على ان يزحزح نفس من هذا القعر المهلك، الفساد، الشفافية، السعادة، جودة الحياة وصعوبتها وأخطر المدن على الحياة.

ولكن علينا بشكل جدي أن نضع هذا الموضوع تحت مجهر النقاش العميق، فكل شيء في بغداد يستحق العناية الفائقة وحسن الادامة والادارة، مدينة جميلة حقاً إذا ما ازلنا من خلال "الفوتوشوب" كل الأجزاء المربكة للنظر عن صورتها المشرقة من النفايات والبرك الآسنة والشوارع المتهالكة والاكشاك المربكة للنظر عند منعطف ونرفع منها الاسلاك العنكبوتية ونحدد مناطق ترفيهية اكبر ونعمل على فك طلاسم الكثافة السكانية في أحد جوانبها عن الجانب الآخر ستكون المدينة بحق جميلة بنهرها الذي يشق ارضها من الشمال الى الجنوب.

فجودة الحياة حسب تعريف منظمة الصحة العالمية هي: " إدراك الفرد لوضعه في الحياة في سياق الثقافة وأنساق القيم التي يعيش فيها ومدى تطابق أو عدم تطابق ذلك مع: أهدافه، توقعاته، قيمه، واهتماماته المتعلقة بصحته البدنية، حالته النفسية، مستوى استقلاليته، علاقاته الاجتماعية، اعتقاداته الشخصية، وعلاقته بالبيئة بصفة عامة، وبالتالي فإن جودة الحياة بهذا المعنى تشير إلى تقييمات الفرد الذاتية لظروف حياته".

لم ندرك بحق مصطلحات كثيرة مهمة في حياة ابناء شعبنا فعلى مدى أكثر من عقد من لم الزمن لم نستطع تحقيق شيء يدفع بمؤشرات جودة الحياة الى الامام قليلاً مع وفرة كافية من المواد المادية تدعمها موارد بشرية كبيرة ؛ في تقديم نمط محدد من اشكال الجودة لأبناء شعبنا نحاول اليوم بعد فوات الأول تقريباً إعادة نسج معنى جديدة لجودة الحياة في بغداد من خلال مشاريع لم تحض اغلبها بدراسة جدوى أو احيلت لفاسدين اطاحوا بالمتبقي من الامل في زيادة المساحة الايجابية في بوصلة مؤشرات الجودة لتضفي واقعاً جديداً على مواطنينا، فالشعور بالرضى الكامل بالبيئة المحيطة وبرفاهية محدودة سوف لن يندفع أحداً للخروج الى الشوارع هاتفاً بمعاناته من الظلم والتهميش والجور ونقص في فرص العمل المتاحة وفي ضعف الامن والامان المجتمعي وارتفاع التكاليف الاقتصادية والاجتماعية للحياة و الفقر وعدم المساواة والتهميش الاجتماعي وعدم الرضا عن البيئة وجودتها والتلوث. وغيرها من متغيرات جودة الحياة المتعثرة.

شكل المدينة اليوم يبعث شعور قوياً بالاسى على حالها في نفوس سكانها يتمثل بالإحباط من إمكانية تحسن وضعها المعيشي وانعكاسه على نفوس ابنائها الذين تكرست لديهم مشاعر جمة : الحرمان، والعزلة، وفقدان التوازن النفسي والعدوانية وحرمان الاشباع الفطري، فضلاً عن الاثار الاجتماعية الكبيرة كلها تساهم في عزل المواطن عن مدينته، كل صباح تشرق فيه الشمس على بغداد تزداد معه اكوام النفايات بشكل كبير جداً ولا يمكن تصوره، كان العام 2012 لوحده قد وفر وفرة مالية تقدر بعشرين مليار دولار لها القدرة الكاملة في احداث تغيير كبيرة إذا ما احسنا بناء مصنعاً لتدوير النفايات والاستفادة منها كأسمدة أو حتى بتوفير الطاقة باستخدام التقنيات الحديثة قادر على استيعاب ملايين الاطنان من النفايات التي ترمى يومياً من 8 ملايين نسمة هم سكان العاصمة.

كثافة سكانية عالية جداً في جانب الرصافة منها، تسببت في تدمير حتى بيئتها، تلك الكثافة تشاهدها في الاسواق والشوارع وفي المناطق السكنية فالمنازل تنشق عن ثلاث واربع بيوت صغير مما يعقد مشهد المدينة الذي عقدته اكثر الانفجارات التي كانت يومية تقريباً تشوه معالمها وتفرض عليها نمطاً قاتماً من صعوبة العيش ورهبته.

جودة الحياة في المدن ترتبط كثيراً بطبيعة الخدمات العامة التي تقدمها المؤسسات الحكومية على اختلاف صنوفها كرفع النفايات التي تعتبر اليوم اكثر المشاهد المؤلمة فيها فالمواطن عوضاً عن مشاهدته مساحات خضراء واسعة في المساحات المتبقية التي زحفت عليها الهياكل الكونكريتية؛ يشاهد كميات هائلة من النفايات التي لم تعد أكواماً بل أصبحت سلاسل تمتد على طول الشوارع في مشهد غريب لما تسببه تلك النفايات من أوبئة ونحن لازلنا نعيش دوامة الكوليرا وانتشار كميات كبيرة من الذباب.

النفايات تنتشر بشكل كبير لايمكن وصفه، في كافة الاماكن لم تستثن مكاناً منها وحتى دور العبادة والمراكز الصحية والمدارس وبين الازقة، كان من الممكن أن يتم العمل على رفعها بين فترة واخرى ولكن تخاذل الجهات المسؤول التي تتحجج دائماً بالتخصيصات التي تمنح لها جعلها أحد المناظر المألوفة التي قد تصبح سمة من سمات مدينة الحضارة ـ

في مثال مؤلم على انحدار مؤشرات الجودة لدينا؛ مدينة الشعب في بغداد كان قد اسماها السيد امين بغداد السابق بابنه المريض، هذا الابن اصبح مرضه مزمناً ولم يستطع احد شفاءه أو حتى انه قد مات منذ زمن طويل مثلما ماتت الكثير من الأحياء تحت الضغط العمراني العشوائي وتراكم النفايات، مشاكل كبيرة في واحدة من أهم مدن العاصمة واكثرها كثافة سكانية، تغلق شوارع كاملة بسبب النفايات ولا يمكن بأي حال من الأحوال ان ترمى المسؤولية على ابناء المدينة، فكم من الوقت يتمكن صاحب منزل ان يحتفظ بنفاياته في بيته.. يوم او يومان أو ثلاثة كأبعد حد وبالتالي ليس لديهم حلول أخرى إلا إخراجها.. الشارع المحاذي لجامعة الامام الكاظم أغلقته النفايات نهائياً امتدت من بداية الشارع وحتى نهايته وهو يقع قرب صرح علمي كبير يحمل اسماً كبيراً ولكن لا أحد يأبه بذلك بدءاً من المؤسسات الخدمية!

لقد زحفت العشوائيات على المدينة بشكل كبير حيث اعلنت وزارة الاعمار والاسكان والبلديات، في ايلول الماضي، ان بغداد تضم 335عشوائية، وقال وكيل الوزارة دارا حسن رشيد يارا في بيان صحفي، ان بغداد بهذا العدد من العشوائيات، تحتل المركز الاول بهذا الجانب بين المحافظات، عدا محافظات اقليم كردستان".

وحدها العشوائيات بحاجة الى إعادة نظر في طرق معالجتها حين أصبح بعضها يهدد مشاريع ستراتيجية مهمة لسكان العاصمة كما في "مشروع الخنساء" وتزيد من مساحة الارض التي يتطلب تقديم الخدمات لها فالبناء تعثر كثيراً في توفير بيئة سكن أمنة ومريحة لسكان المدينة بشكل يتناسب والتزايد السكاني المضطرد الذي توقعته اللجنة الوطنية للسياسات السكانية الذي قد يصل 800 ألف نسمة سنوياً بمعدل فرد واحد كل 40 ثانية، بذلك نكون قد أهملنا أهم مؤشر في مسطرة قياس جودة الحياة في الجانب العمراني المتمثلة في توفير السكن المريح.

جودة الحياة لدينا تعيش تحت مظلة الفساد ايضاً وجميع ما نرنوا تحقيقه مرهون بدقة التهيئة والتحضير للمشاريع التي تساهم في رفاه المجتمع، وايضاً تحت دائرة الارهاب فالسعادة مرهونة بالأمن والعراقيون يجمعون على ان أهم ما فقدوه هو أمنهم وامانهم الشخصي مع تزايد العمليات الارهابية والجرمية التي تستظل دائماً بالإرهاب الذي وفر له بيئة هشة متداعية من السهولة تنفيذ عمليات جرمية مختلفة مع انشغال القوات الأمنية بمعركتها ضد الارهاب، تُشرع الابواب امام عصابات الخطف والتسليب والسرقات والقتل بعدما خرجنا جزئياً من خانق الحرب الطائفية المقيتة التي اطاحت بالكثيرين وفرضت واقعاً نفسياً مأساوياً على مواطنينا، وحدها سرقة رواتب الموظفين تشكل جزءاً مهماً من أضرار المؤشر الاقتصادي للفرد مع انعدام فرص العمل والرعاية الصحية المناسبة وضعف التماسك الاجتماعي

نكون أمام امتحان حقيقي في نجاح علاقة الانسان بجودة الحياة في المدينة، سنكون نحن الخاسرون دائماً فبين الواقع المزري للمدينة وبين الطموح الذي أقعده الفساد والظروف الاقتصادية والأمنية للبلد، لانرى أملاً بتحسن قريب لجودة الحياة في بغداد، أعاننا الله على ذلك.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق