اتحاد أية دولة دائمًا لا يعد دليلًا على قدرتها في إشباع احتياجات مواطنيها وتحقيق أهدافهم. ولا تستثنى هذه القاعدة في أي شيء في مجال التعاون، فعندما تقوم بحرمان شعب من حريته السياسية فمعنى ذلك أنك حرمته من الاستقرار؛ إذ إن الأفراد الذين لا يعرفون ما يتوقعون...

عندما نقول: إن الدولة تعتبر اتحادًا يشمل كل شيء يجب أن نتذكر أن هذا الاتحاد ما هو إلا مثل أعلى مجرد لا حقيقة واقعة؛ إذ إن الذي نفخ فيه هذه الصورة هو التعريف المجرد، ويمكن تحقيقه عندما يهدف الأفراد إلى إيجاده، ثم إننا نستطيع أن نؤكد الشروط التي نُرسي عليها الدعائم لإيجاده، ولا يتسنى ذلك إلا عن طريق الإمعان في عِظات التاريخ ودروسه. 

ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن ذلك لن يتحقق طالما أن مجموعة يعتد بها من المواطنين قد استُبعدت من المشاركة في الخير الذي يمكن للدولة أن تحققه. وسنجد أن الحرمان من السلطة السياسية في أي مجتمع سياسي يعني أيضًا الحرمان من الفائدة التي تعود من ممارستها. وهي كذلك لن تكون حقيقة عندما لا يتاح للمواطن أن يعبر عن رأيه بصراحة في شئون الدولة، فإن السياسة التي تتسم بالحكمة تكون دائمًا نتيجة الصورة المنعكسة عن التجربة.

 فعندما يُحال دون الإفصاح عن التجارب، لا نجد المواد المكوِّنة لهذه السياسة التي تتسم بالحكمة، وفي ذلك يكمن السبب في أن الدكتاتوريين لا يستطيعون تأسيس أسرة حاكمة مستقرة، وهم بسبب قصرهم للتجارب على القدر الذي يسمحون بالإفصاح عنه، والذي يعرب عن الرضا عما بذلوه من مجهود، فإنهم يحرمون أنفسهم من الاتصال بعقول رعاياهم. ونجد أنه في الدولة التي تتاح فيها الفرصة لتوجيه النقد: أن استخدام القوة له ما يبرره في أي مجتمع من المجتمعات.

وليس ذلك هو كل شيء، فإن اتحاد أية دولة دائمًا لا يعد دليلًا على قدرتها في إشباع احتياجات مواطنيها وتحقيق أهدافهم. ولا تستثنى هذه القاعدة في أي شيء في مجال التعاون، فعندما تقوم بحرمان شعب من حريته السياسية -كما حدث في ألمانيا الهتلرية- فمعنى ذلك أنك حرمته من الاستقرار؛ إذ إن الأفراد الذين لا يعرفون ما يتوقعون حدوثه في الغد، سيصبحون نهبًا للخوف والقلق اللذَيْن لا يتمشيان مع الولاء الذي يمنحونه عن طيب خاطر.

 وفضلًا عن ذلك نجد أن هناك عددًا قليلًا من الدول لا تستطيع أن تتحمل انخفاضًا شديدًا في مستوى المعيشة إلا إذا وقفت على الدلائل التي تثبت: (١) هذا الانخفاض ضرورة يتطلبها الموقف الراهن، وأن (٢) جميع طبقات المجتمع في ذلك سواء. ولكن عندما يدرك أفراد الدولة أن ذلك العمل قد شابه التحيز، فإنهم لا ينظرون إلى التزامهم السابق أمام السلطة على أنه التزام له شرعيته. وقد كانت هذه اللحظة دائمًا بداية فترات يوجه فيها النقد، هذه الفترات التي تسبق عهدًا ثوريًّا.

وإن القدرة على إشباع تلك الأماني المصطلح عليها لا تتطلب أي شكل معين من الدستور، ففي الماضي حقق كل نوع من أنواع الدولة -سواء أكان ذلك في النظام الدكتاتوري أم النظام الديمقراطي- حقق الاتحاد الذي تمخض عن هذا الإشباع بطريقة ناجحة، والشيء الجدير بالملاحظة في تاريخ أشكال الدولة وأنواعها هو عدم الاستقرار النسبي لجميع تلك الأشكال.

 وكان من عيوب النظريات الفلسفية السياسية أنها عجزت عن تفسير تلك الظاهرة تفسيرًا يبعث على الرضا، ونرى مثلًا أن النظام البرلماني الذي حاز منذ زمن بعيد ولاءً تامًّا من رعاياه، ونُظر إليه على أنه مثال يقتدي به العالم أجمع، يُنظر إليه اليوم بعين ملؤها الريبة أو الشك أو الكراهية، ونرى في ميدان آخر أنه مما يسترعي الانتباه أن نجد أن استخدام سلطة الدولة لتعزيز الأسس القانونية للرأسمالية (التي لم تقاوم عام ١٩١٤م في أي بلد إلا من شرذمة من المتحمسين) تكون اليوم -أكثر مما كانت في أية فترة من تاريخ سعيها لتحقيق هذا الهدف- مثار جدال شديد على نطاق واسع.

ولكن قبل دراسة أسباب هذه الظاهرة يجدر بنا أن نبدأ بالعموميات، فأفراد الدولة لا يهتمون بالمحافظة على هذا الاتحاد في حد ذاته، بل هم يسعون للمحافظة عليه لما يرونه من نتائج هذا الاتحاد. وتقوم فكرة تخويل الحق في ممارسة سلطة الدولة على رأيهم فيما تتمخض عنه هذه الممارسة، ولقد سقطت الدولة القيصيرية؛ لأن حكامها لم يستطيعوا إشباع احتياجات الجماهير، وذلك من جراء السياسة التي انتهجوها. ولقد سقطت جمهورية فيمار الألمانية؛ لأن جماعة من المواطنين فيها لهم وزن يمكنهم من نزع سيادتها، قد اقتنعوا بعجزها عن أن تكفل لهم ظروف الحياة الخيرة.

ففي كل من هاتين الحالتين نجد أن الأسس التي قامت عليها هذه النظرة ليست بالأمر الهامِّ نسبيًّا. وما من شك في أن المثال الألماني يبدو وهميًّا لأي مراقب محايد، غير أن الأمر الهام في المثالين هو أن اتحاد الدولة قد قضى عليه، وأن اتحادًا جديدًا قد خرج إلى حيز الوجود، على أنه في ظروف جديدة سيكرس لتحقيق أغراض أفضل من سابقتها، وكان فريق من رعايا الدولة التي قُضي عليها لهم من القوة ما يمكنهم من نزع سيادتها يعتبرون أنها عجزت عن تحقيق أمانيهم المشروعة.

إن النظريات القديمة التي وُضعت عن الدولة، ولا سيما النظرية المثالية، لا تفسر تفسيرًا وافيًا تلك المواقف التي ذكرناها من قبل. ويناقش أرسطو في الجزء الخامس من كتاب «علم السياسة» فيشرح علم السياسة لا فن الحكم، وكثيرًا ما يتكرر مثل هذا الموقف، حتى إن بعض المراقبين المحنكين أمثال ميكافيلي أصروا على وجهة النظر عن دورات التاريخ إذ يأخذ طابع الدولة في التدهور؛ وذلك نتيجة حتمية لأنها تأخذ طابعًا آخر. واتحاد الدولة في التاريخ يتدهور دائمًا عندما يكون بعيدًا كل البعد عن مفهوم كلمة الاتحاد. وتفتر حرارة الولاء الذي يفرضه لتحقيق أهدافه على أساس أن هذه الأهداف لم تتحقق بعد، وأن وجه الشبه بين الدولة النظرية والدولة العملية يكاد يكون وقتيًّا، حتى إن أولئك الذين يتأثرون بما تؤديه من أعمال لا يستطيعون الاعتراف بصحتها.

ولا تعتبر هذه الناحية الوقتية عما توجهه الدولة من نقد، ولكنها هاتف ضروري ينادي بأن حكومات بعض الدول لا تؤدي عملها على خير وجه، إلا أن المواطن يستطيع التغلغل في أعماق دولته عن طريق الحكومة. وهو يصر في الأوقات العصيبة على أن هناك تشابهًا بينهما؛ إذ طالما تقوم الحكومة بأداء عملها باسم الدولة؛ فالأهداف تصبح أهدافها وتقوم سلطة السيادة بتحقيقها. ويشير إلى طبيعة الدولة من واقع أعمالها الحكومية دون سواها، وهنا يكمن السبب في قصور أية نظرية عن الدولة، ولا يرجع ما تقوم به الحكومة من عمل إلى التفسير الذي تقدمه، فالدولة هي ما تقوم به الحكومة من أعمال، وإن أية نظرية تطلب من الحكومة تحقيق الأغراض المثالية للدولة تعتبر بمثابة أساس للحكم عليها، وليست مجرد إشارة إلى نواحيها الهامة.

وسأحاول شرح ما يبدو لي أنه تفسير للظاهرة التاريخية التي ذكرتها هنا فيما بعد. أما هنا فسأكتفي بمناقشة علاقة هذه الحقيقة بالنظرية الفلسفية، ولقد أُقيمت دعائم هذه العلاقة على الاتجاه المستمر للحافز الإنساني الذي أخذ يشق طريقه ليكون صفة كبرى تظهر في المجتمع، ويعتبر هذا التأكيد قديمًا قدم الفلسفة السياسية ذاتها، وذلك ما استرعى انتباه أرسطو، ومن الأهمية بمكان أن نعرف العنصر الرئيسي الذي يكمن في معالجة بعض الأفراد لهذا الموضوع - وهم أفراد يختلفون عن روسو وتوكيفيل - وهم يوافقون على وجهة النظر القائلة بأن الاختلافات في الدولة تتطلب ما يبررها، فحرمان بعض الأفراد من بعض الامتيازات الخاصة يؤدي إلى مناوراتهم بإلغائها أو منحهم إياها، وعندئذ سيسود عدم المساواة، غير أنه بمجرد اعتقادهم في وجود حد فاصل بين ما يستحوذون عليه، وبين ما يتوقعونه، نجد أن عدم المساواة راجع إلى أن سلطة سيادة الدولة تسانده، وذلك هو تاريخ التسامح الديني، وتاريخ تدخل الدولة في النواحي الاقتصادية، وتاريخ حق الانتخاب، ويجب أن ندرك: «أنه كلما اتسع أساس حق الانتخاب، تغلغل التدخل وتعمق، وإننا لا نبالغ في القول أن منح حق الانتخاب لطبقة العمال قد جعل من الدولة منظمة قادرة على إشباع احتياجات مواطنيها بالقدر الذي يمكنها أيضًا من تصحيح المقارنات التي يعقدها أي مجتمع اقتصادي لا يقوم على المساواة، ولا تكاد تكون هناك أية ناحية من نواحي نشاط الخدمات الاجتماعية التي تزاولها الحكومات اليوم يعتبر مجهودًا يُبذل لمنح الفقراء بعض الحصانات التي يستطيع الأغنياء الحصول عليها لأنفسهم.»

وتحاول الدولة أن تقنع مواطنيها بأن ما تقوم به من عمل معصوم من الخطأ لا تحيز فيه ولا تحامل، وهي تقوم بذلك عن طريق تنظيم النواحي المادية لهم من أجل حياة خيرة، لا سيما بالنسبة لهؤلاء العاجزين عن الحصول على هذه النواحي لأنفسهم، ولقد جذب نطاق هذا التنظيم الأنظار منذ عام ١٩١٩م، والأمثلة عديدة لهذا النطاق نضرب منها نواحي التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وتحديد ساعات العمل والأجور في ميدان الصناعة، وكذلك تزويد المدارس الفقيرة بالطعام، ونقوم بتفسير ذلك التغيير الذي قد يطرأ على أسس مختلفة، فيمكن إرجاعه إلى أنه نتيجة للضمان الاجتماعي، وندلل على ذلك بقولنا إن ذلك هو الثمن الذي يجب على الأغنياء دفعه للفقراء في نظير أمنهم، وربما نعتقد أن ذلك يعتبر برهانًا لنظرية هيجل التي تقول إن التاريخ هو الكشف عن معالم الحرية التي يتسع نطاقها دائمًا. ومهما كانت وجهة نظرنا في هذا المجال، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها منذ الانقلاب الصناعي على الأقل هو: أن اتجاه التشريع الجديد يرمي -وذلك عن طريق ما تقوم به الحكومة من عمل- إلى تخفيف حدة الموازنة التي بدونها ستعقد حياة الأغنياء وحياة الفقراء. أما عن قدرة الدولة في كسب ولاء مواطنيها، فيعتمد على سلطتها التي تخفف من حدة هذه الموازنة باستمرار، إذ إن تحقيق هدف في مجال ما يستتبعه نشوء حاجة في مجال آخر.

وتظهر أهمية هذه الخبرة بالنسبة للنظرية الفلسفية للدولة. ويجب أن نبدأ بالحقيقة التي تؤمن بوجوب قيام الدولة بعمل ما دون التحيز لفريق أو لآخر وذلك لمصلحة مواطنيها، وهي لا تستطيع أن تحقق هدفها كدولة إذا حاولت التمييز بينهم، ما لم تجز حقًّا يبيح التمييز بينهم على أساس يثبت أن هؤلاء المغبونين سيستفيدون نتيجة لذلك. وليس لدينا أي دليل من التاريخ يثبت لك، اللهم إلا التباين بين الكافر والمسيحي، والغني والفقير، والأبيض والأسود، ولكن ذلك كله يعتبر دليلًا على السعي وراء الخير الذاتي، وليس لتحقيق الخير العام، كما أن استطاعة الناس دائمًا إقناع أنفسهم أن ذلك التمييز له ما يبرره، وليس هناك أي خطأ في العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، هذا الخطأ الذي لم يستطع الناس أن يحملوا أنفسهم على أنه حقيقة؛ إذ كان من مصلحتهم القيام بذلك.

ولذلك وجب على الدولة أن توزع ما تجنيه من فوائد من ممارسة السلطة على المواطنين بالتساوي، ولكن إذا أرادت أن تحقق هذا الهدف فيجب عليها - تمشيًا مع المنطق - أن تتحكم في الإمكانيات التي يتوقف عليها تحقيقه. كما يجب على النظرية الفلسفية أن تصدر حكمها على ما تنتهجه الدول الراهنة من سلوك في نطاق هذه الإمكانيات. ولقد حاولت في الماضي القيام بذلك بطرق مختلفة، وغالبًا ما كانت تستنبط أن هناك حاجة إلى وضع مجموعة من الحقوق يُنظر إليها على أنها مطالب ضرورية لتحقيق حياة خيرة لمواطنيها، كما أنها قد أصدرت حكمها على السلوك الحقيقي لهذه الدول في صيغة علاقتها بتلك الحقوق التي يجب الاعتراف بها، ولكن هناك استثناء لهذا الاتجاه العام، وهناك أدلة كثيرة من تاريخ الفلسفة السياسية عن المحاولات الكثيرة التي تثبت أن بعض الجماعات التي تتكون من أفراد معينين لا تصلح أن تمنح امتيازات الرعوية؛ ولذلك نجد أن استبعادها له ما يبرره، ولكن إذا قمنا بدراسة ما استبعدناه دراسة وافية، نجد أنها تعتمد على رغبة المفكر، وهي رغبة مشوبة بعاطفته، للدفاع عن توازن السلطة الوقتي الذي يريد له البقاء دائمًا، وأن دفاع أرسطو عن العبودية، ودفاع لوك عن إقصاء الكاثوليك، ودفاع هتلر عن إقصاء اليهود وحرمانهم من الرعوية إن هي إلا محاولات لإدخال الحزازات الشخصية في مبادئ عامة تخضع للعقل.

وإذا قمنا بتحليل أية مجموعة من الحقوق وضعها أي مفكر، سنجد، عندما نقوم بدراستها، أن هذا التحليل قد كيَّف وعدل من الناحية التاريخية. وإذا سلمنا بالبيئة التي يعيش فيها، كان مما سيلفت الأنظار عدم قيام أرسطو بتبرير العبودية، وكذلك إذا سلمنا بالبيئة التي عاش فيها لوك، تجد أنه من السهل تفسير حرمان الكاثوليك من الرعوية، وأن أفكار الناس عما يتوقعونه لتصدر عن الخبرة التي يواجهونها والاحتياجات التي يستخلصونها من هذه الخبرة. ونجد أن نظرية السلطة البابوية غير المباشرة لهي نتيجة طبيعية لتفكير يقبل النتائج السياسية لعهد الإصلاح ولكنه في الوقت ذاته يسعى بهذا القول جاهدًا إلى أن ينقذ ما يمكن إنقاذه لروما. ولقد اعترف لوك بأن ما يرمي إليه في «البحثين»: «هو الدفاع عن استحقاق وليم الثالث للعرش، والفارق بين شيوعية مابلي ومورلي وشيوعية ماركس وإنجلز قد حدده تدخل الانقلاب الصناعي بين النواحي الفكرية، ويتمشى العنصر البرجماسي «العملي» دائمًا في الأفكار الفلسفية في ميدان السياسة مع مقدار فهمها.»

وإن أهمية هذه العلاقة بين البيئة النظرية والبيئة التاريخية ذات جوانب عدة، غير أنه يجب في هذا المجال أن نلفت الأنظار إلى عنصر واحد من العناصر الموجودة في هذه العلاقة التي تنطبع على موقف الأفراد بالنسبة للسلوك الذي تنتهجه الدول، وإن حالتهم تؤدي بهم إلى توقع إشباع بعض النواحي نتيجة لما يؤدي من عمل، ويقومون بإصدار أحكامهم على الدولة عن طريق الاستجابة لما يتوقعونه، ومن العبث أن نقول اليوم لعامل إنجليزي: إن مستوى دخله الحقيقي هو أربعة إضعاف دخل العامل الإنجليزي أثناء «الفترة النابليونية»، وذلك إذا قصد منه أن يستخلص الواجب الذي يتمشى مع حالته؛ لأن الافتراض الحيوي الذي يضعه في تقديره لحالته لا يقوم على المقارنة من هذا النوع، ولكن على الحكم الذي يستحقه الآن، ويكاد يوجد العنصر المادي في هذه الحياة التي نحياها، والتي لا تظهر أي تحسين كبير، وذلك على أسس مستويات قرن مضى، ومن الأهمية أن ندرك أن ما نتوقعه من منفعة ذات فائدة جمة، وإن كل تقدم لا نقوم به في الميدان الفني يزيد من إحساسنا بما يجب علينا أن نفعله، والدافع على ذلك هو إنجازه وتحقيقه ولم تثر الأزقة الكئيبة ولا الأحياء القذرة التي كانت موجودة منذ قرن أي اشمئناط أو اشمئزاز بين الأفراد الذين قاموا ببنائها، كما تثيره بيننا الآن. أما الحرمان من فرصة التعليم في العهد الذي عاش فيه بنتام، فكان بمثابة حرمان -ولكن على نطاق أوسع- من حق من الحقوق في الوقت الحاضر.

ولذلك فلن ترضى الفلسفة السياسية بالأخذ بنظرية جامدة، إذ وجب عليها معرفة كيفية تفاعل أسسها وقيامها بالعمل، إذا ما تاقت إلى الحصول على أية سلطة لا تخاف لها وطأة؛ ولذلك فعندما نذهب إلى أن الدولة يجب عليها ضمان تلك الإمكانيات التي في ظلها يستطيع كل مواطن أن يحقق ذاتيته ككائن أخلاقي يجب علينا أن ندرك أن هذه الإمكانيات ليست على حال واحدة، ولكنها نسبية للبيئة التي يطرأ عليها التغيير دائمًا، وأن المستوى الذي تُصان فيه هذه الإمكانيات لوظيفة ثابتة لهذه البيئة. ولا يمكننا أن نقف على أية فترة من الفترات ونجعل من إمكانياتها مقياسًا نقيس به أماني معقولة، فالخبرة الوثابة المتطورة تجتاح مستوياتها التي نحقق بها ما نبتغيه.

ويجب وضع مجموعة من الحقوق للتأكيدات الجديدة التي تخرج إلى حيز الوجود في كل فترة نقوم بتطبيقها عليها. ففي عهد بت الصغير كاد قانون التشهير يسبب بلبلة للرأي العام، غير أن العهد الفيكتوري بما عُرف عنه من أمن وتسامح ألبس مقاييس التعبير الحر ثوبًا جديدًا، وأثار قانون بت موجة من السخط لم تكن لتحدث في عهده أو يقوم بإثارتها معاصروه، وربما أدخل ضمان البطالة بعض الصعوبات التي لا تلين في نظام الأجور الذي يتعارض مع المرونة التي يتطلبها ما يؤديه نظام الأسعار من عمل حر، ولكن عندما يذوق العمال في أية دولة حلاوة المنفعة التي يهبها هذا النظام، فإن رجل السياسة الذي يقترح إلغاءه، يجازف بقيامه بذلك. ولقد اعتقد معظم رجال الاقتصاد منذ نصف قرن أن ذلك النظام يعتبر جزءًا من الحياة الخيرة التي لا يمكن تغييرها، أما اليوم فالدفاع عن عاداتها على هذا الأساس هو استثناء نادر الحدوث لا قاعدة عامة.

ويوضح ما نستخلصه من كل هذا أن الفكرة الفلسفية للدولة تمدنا بمقياس نستطيع أن نقيس به ما تفضح عنه الدول من سلوك، أما صلاحية هذا السلوك فنجعله أمرًا علينا أن نقرره بالرغم من قصوره، وإذا تغاضينا عن الميدان الشكلي المحض فإننا لا نجد هناك أي التزام يقضي بطاعة الدولة الحقيقية. إن الطاعة تعتبر بمثابة حكم تصدره على ما تقوم به من عمل، وعلاوة على ذلك، فإن هذا الحكم لا يعتبر حكمًا يستطيع كل مواطن أن يصدره على نفس الفروض سواء منها المبنية على أساس عقلي أم الفروض المبنية على أساس عاطفي. إن ما يقرره سيكون نتيجة للمكان الذي يشغله في الدولة وعلاقة هذا المكان بالنسبة لنظرته فيما يجب عليه أن يحققه، وربما أخطأ الصواب في اتخاذه هذه النظرة، ولكن ليس هناك بديل لما يتخذه من عمل على أساس يتمشى مع العقل والمنطق على ضوء ما لديه من يقين.

* مقتطف من كتاب (الدولة نظريًّا وعمليًّا) لمؤلفه هارولد ج. لاسكي

اضف تعليق