تستحق بغداد هذا التكريم، وليس كثيرا على هذه المدينة التاريخية العريقة، ان تُمنح لقب (مدينة الابداع الادبي)، فهي التي خرّجت مئات الشعراء والادباء والنقاد على مر التاريخ، وانتجت آلاف الكتب في فنون الابداع المختلفة، لاسيما في مجال الكتابة الابداعية، ولطالما ابدع شعراؤها وكتابها ورساموها وفنانوها، فقدموا للعالم العربي والاسلامي وعموم العالم نماذج راقية من الابداع.
لذا ليس كثيرا على هذه المدينة أن يتم تكريمها بأن تكون مدينة للابداع الأدبي، فقد اشتهرت في القرن الماضي كتابات لادباء وشعراء عمالقة عن عواصم بلدانهم، واطلق بعض النقاد على هذا النوع من الكتابة (أدب العواصم)، وكتب أشهر الشعراء أشهر القصائد عن اشهر العواصم وأجملها، وكان لبغداد حصة من هذه الكتابات، فهذه المدينة تعد من أكثر مدن العالم سحرا وجمالا، لدرجة أنها تنتمي في كتابات كثيرة الى الاسطورة والخيال بسبب جمالها الأخاذ، ولا يتوقف هذا الاحساس او هذه النظرة عند ادباء وشعراء العراق فحسب، إنما كتب عنها أهم الشعراء العرب كما نلاحظ ذلك في قصائد نزار قباني، فضلا عن القصائد المغناة التي تغنب بهذه المدينة العملاقة.
فقد أدَّت فيروز قصيدتها الشهيرة، بغداد والشعراء والصور.. ذهب الزمان وضوعه العطر، وأدت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، قصيدة بغداد يا قلعة الاسود .. يا كعبة المجد والخلود، وهنالك الكثير في هذا المجال، حتى أن التاريخ يضج بكتابات الادباء والشعراء والمؤرخين عن بغداد، حضورا، وابداعا، وعمارة، ومسرحا، وفكرا، وفلكلورا، فهذه المدينة الأم ليس هناك ما يقترب منها في الشبه كونها، كونها ذات شخصية أصيلة لا يمكن تزويرها او نسخها كما يحدث مع المدن التي تتبجح بجمال شكلي سرعان ما ينطفئ بعد اختراق السطح الى العمق.
مدينة الثراء الأدبي
ولعل الأجمل في هذه المبادرة انها جاءت في مرحلة قاسية تمر بها بغداد ومدن العراق عموما، ولكن بغداد هي الاكثر معاناة بسبب استهدافها من الارهاب ومشاريع الفتن الطائفية كونها قلب الشعب العراقي النابض، لهذا يجيء هذا التكريم في وقته، معنويا وماديا ايضا، وهو يساعد على دفع عجلة السلام خطوة الى امام، كما انه استحقاق لهذه المدينة العريقة، التي كانت ولا تزال تمثل نبض الابداع العربي والاسلامي والانساني، اذ فيها تنصهر الكثير من المعاني الانسانية التي تهدف الى التقريب بين الجميع بعيدا عن الاحقاد والضغائن.
مما تقدم من كلام، يتشرف الابداع عندما ينتسب الى بغداد، ويزهو الادب للسبب نفسه، فهذه المدينة الصانعة للشعر والمنتجة للشعراء والادباء على مر التاريخ، ليس كثيرا عليها ان نمنحها تسمية من هذا النوع (بغداد مدينة للابداع الادبي)، فمضمون هذه الجملة ليس جديدا على بغداد، وهي مدينة الثراء الشعري على مر الأزمان، كما أنها مصنع الادباء الأفذاذ، فلا جديد في أن نقول نحن أو غيرنا، بأن بغداد مدينة للابداع الأدبي، ومع ذلك يمكن ان تكون فعاليات من هذا النوع، خطوة جيدة لمسح غبار الألم عن جبين هذه الحبيبة التي ارهقها أهلها والغرباء معا!.
ولو أننا سألنا الشعراء والمبدعين العراقيين على وجه الخصوص وغيرهم من خارج العراق، عن تأثير هذه المدينة العملاقة في ادبهم وحياتهم، فسوف لا يتردد كبار الادباء من الاعتراف بفضل بغداد عليهم، حتى أكاد أجزم أنه لا يوجد احد من الادباء لا يرتبط بعلاقة خاصة مع بغداد، فالذاكرة تضج بجمالها، وحنانها، وحضورها الباذخ ومسارحها على قلتها ودور عرض السينما التي انطفأت في الوقت الحاضر، وقاعات عرض الفن التشكيلي، فهناك المسرح الوطني الذي نرتبط به في اعمال خالدة قدم فيها كبار فناني العراق اعمالا لا تمحى من ذاكرة الابداع، وثمة مسرح الستين كرسي، ومن ينسى هذه التجربة الخالدة، ومن ينسى نشاطات معهد الفنون الجميلة في هذا المجال، أما الفن التشكيلي فالشاهد لدينا قاعة حوار المتميزة، وقاعة الاورفلي وقاعات صغيرة وكبيرة قدمت مئات المعارض التي تضج بها ذاكرة بغداد محبة وجمالا، أما ما يتعلق بالابداع الشعري والادبي فالأمر سوف يكون متميزا حقا.
ماذا قال عنها الأديب المغترب
وهنا نقتطف ما قاله عن بغداد الروائي العراقي المغترب (عبد الرحمن مجيد الربيعي) وهو يزور عاصمة الابداع بعد عقود من الغياب، حيث قال الربيعي في محاضرة له بمناسبة (بغداد مدينة الابداع الادبي) وقد اختار لها عنونا حميما وهو « بغداد وانا»، (لينطلق في سياحة شاملة في مجمل ظواهر الحياة البغدادية في العقد الستيني ايام كان طالبا في معهد الفنون الجميلة حيث قدم من مدينته الجنوبية الناصرية. قسم الربيعي محاضرته المرتجلة الى عدة اقسام حفلت بالعديد من المحطات والاستطرادات التي اثرت كل موضوعة او حقبة تناولها في حديثه الاستذكاري الذي كان يميل فيه ايضا نحو جعله حفرا في اسرار مدينة وغموضها بعين راء وسارد بارع. فكان يتناول معنى ذلك الحلم الذي يراود فتى جنوبي بالقدوم والدراسة والاقامة في مدينة هي الف ليلة وليلة، وهي التاريخ، والسحر، والشخصيات النادرة والعظيمة التي مثلت ولا تزال رموزا فنية وثقافية منحت بغداد كما منحتها الاخيرة عظمة واسرار روح ومظاهر الرقي والتميز من بين كل الاماكن والمدن الاخرى. سحر بغداد من جوانب اخرى ايضا، كانت محور احاديث ممتعة تناولتها محاضرة الربيعي، وتجربته الشخصية في الانتقال من دراسة الفنون الى السرد والكتابة الادبية، كلها حلقات جعلت من المحاضرة جولة احتفائية بمدينته الاثيرة .. مدينة الابداع والعبق الخاص ..المدينة العنقاء – كما عبر عنها الربيعي- التي دائما ما تنهض من رمادها، مع اصرار كبير لابنائها بالاستمرار والخلق والبناء في كل مرحلة من مراحل عمرها المديد المليء بالاحداث).
وهكذا هو الحال مع مبدعين آخرين لهم علاقة لا يمكن إلا أن توضع في اطار المتميز والجميل والخالد، حيث تبقى بغداد أم الادباء والشعراء والابداع عموما، ما بقيت الحياة قائمة ومستمرة.
في الخلاصة نتمنى على القائمين على الثقافة والادب والابداع، أن يستثمروا مثل هذه المشاريع بصورة جيدة وصحيحة وحقيقية وليست شكلية، فنحن لا نحتاج التطبيل من دون فائدة، ولا نريد مزيدا من الشعارات البراقة التي سرعان ما تنطفئ عندما تتعرض لول اختبار حقيقي، نعم بغداد تستحق هذا التكريم ولكن ينبغي أن يدعم المبدعون هذه الخطوة بالانتاج الابداعي الحقيقي وليس الشكلي.
اضف تعليق