أؤمن أن مسؤوليتنا اليوم لا تقتصر على التنقيب في النصوص، بل تمتد إلى ربطها بالحاضر، وتجديد حضورها، وإعطاء الأدب المحلي قيمته التي يستحقها. وأتمنى أن يكون هذا العمل لبنة صغيرة في مشروع أكبر لحفظ ذاكرتنا الأدبية، وصون صوت من كتبوا بصدق، ومضوا بصمت...

في غمرة زمنٍ يتسارع فيه إيقاع الحياة، وتتبدّل فيه القيم الجمالية، تظلّ هناك نصوصٌ شعرية تشبه الكنوز المنسية، تنتظر من يكتشفها ويعيد لها الحياة. هذه بالضبط كانت رحلة الباحثة فاطمة الزهراء أحمد عبد الحسن، التي وجدت نفسها أمام تحدٍّ فريد من نوعه: دراسة وتوثيق شعر عبد الحسين حمد، ليس فقط بوصفه شاعراً يستحقّ التوقف عند تجربته، بل لأنه كان أيضاً خالها وأبا زوجها، ما جعل هذه الرحلة البحثية أشبه بحفرة أثرية تكتنز ذكريات عائلية بقدر ما تحوي نصوصاً أدبية.  

لقد تحوّلت أوراق الشاعر القديمة، المبعثرة بين دفاتر المذكرات الصفراء وظهر الأوراق المدرسية، إلى شظايا ذاكرة جمعتها الباحثة بحرفية المؤرّخ وصبر الأركيولوجي. كل قصيدة كانت أشبه بسفينة زمنية تعبر بها من الماضي إلى الحاضر، تحمل في طياتها هموم عصرها، وأحلام شاعر آمن بأن الكلمة يمكن أن تكون سلاحاً ضدّ النسيان.  

في هذا الحوار، سنسبر أغوار تجربة بحثية نادرة، حيث يمتزج الحبّ العائلي بالمسؤولية العلمية، ويصبح الورق القديم جسراً بين جيلين. سنكتشف كيف يمكن لقصيدة مكتوبة بخطّ اليد في ستينيات القرن الماضي أن تحكي تاريخاً اجتماعياً وسياسياً للعراق، وكيف تتحوّل المخطوطات المتآكلة إلى وثائق أدبية تثري المكتبة العربية.  

هذه ليست مجرد حكاية جمع وتحقيق، بل هي قصة وفاء مزدوج: وفاء الباحثة لالتزاماتها العلمية، ووفاء القريبة لذكرى إنسانٍ تركت كلماته أثراً عميقاً في حياتها. إنها رحلة في أعماق الذاكرة الجمعية للعراق، حيث يلتقي الأدب بالتاريخ، وتتقاطع السيرة الشخصية مع السرد الوطني.  

ستأخذنا الباحثة في جولة عبر:  

- متاهات الأرشيف العائلي حيث تختبئ القصائد بين صفحات الدفاتر القديمة  

- التحديات الأخلاقية لدراسة نصّ كتبه قريبٌ عزيز  

- اللحظات المفصلية التي كشفت فيها النصوص عن أسرار لم تكن متوقعة  

- المعنى الجديد الذي اكتسبته كلمة "التراث" عندما تتحوّل من مفهوم مجرّد إلى أوراق تمسكها بين يديك  

في زمن تطغى فيه الثقافة الاستهلاكية، تذكّرنا هذه التجربة بأن هناك كلمات لا تموت، فقط لأن أحداً ما أخذ على عاتقه مهمة إنقاذها من الضياع. هذا الحوار هو احتفاء بتلك المهمة النبيلة، وبالنساء اللواتي يخضن معارك صغيرة لكنها عظيمة من أجل الحفاظ على شعلة الإبداع متّقدة في ذاكرة الأمة.

كيف أثّر كون الشاعر (عبد الحسين حمد) خالكِ وأبا زوجكِ على منهجيتكِ في الجمع والتحقيق؟ هل شعرتِ بضغطٍ عاطفي أو أخلاقي أثناء العمل على البحث؟ وكيف تعاملتِ مع التحدي بين الحياد الأكاديمي والارتباط العائلي؟

لا شك أن العلاقة الشخصية التي تربطني بالشاعر عبد الحسين حمد – كونه خالي وأبا زوجي – أضفت بعدًا وجدانيًا خاصًا على تجربتي في جمع شعره وتحقيقه، لكنها في الوقت ذاته حمّلتني مسؤولية مضاعفة في أن أكون أكثر التزامًا بالمنهج العلمي والموضوعية. كنت حريصة على أن لا تؤثر صلتي العائلية به في مسار البحث، بل سعيت إلى التعامل مع شعره كأي مادة أدبية تخضع للتحقيق الأكاديمي الرصين، فميزت بين العاطفة والانضباط العلمي.

هذه الصلة قد ساعدتني من جهة في الوصول إلى مصادر ومخطوطات وأوراق نادرة لم تكن متاحة للآخرين، وهو ما أثرى الجانب التوثيقي في عملي. لكنها لم تُغنِني عن الالتزام بالنقد الفني والقراءة المتجردة، فاحترمت النص بصفته منتجًا أدبيًا يُقيَّم بمعايير الفن لا بمعايير القربى.

كيف استطعتِ التغلب على تحديات ضياع النصوص أو تشتتها؟ وهل واجهتِ صعوبات في توثيق بعض القصائد بسبب حالتها المادية (مثل التلف أو الكتابة غير الواضحة)؟

نعم، كانت النصوص متناثرة في دفاتر وأوراق متعددة، بعضها يعود إلى حقبة الستينيات، وقد دوّن الشاعر قصائده في أماكن غير تقليدية، كدفاتر المذكرات، ودفاتر الخطة حين كان يعمل مدرسًا، وأحيانًا على أوراق مفردة. وهذا التشتت شكّل تحديًا حقيقيًا في البداية، إذ تطلّب مني جهدًا كبيرًا في الجمع والتصنيف والتحقق من التسلسل الزمني للقصائد.

لكن من حسن حظي أن الشاعر كان يحتفظ بكل ما يكتبه، ولم يتخلص من أوراقه القديمة، فوجدت بين يديّ مادة غنية ومحفوظة بعناية. والأهم من كل ذلك أن خطه كان واضحًا ومميزًا للغاية، ما ساعدني كثيرًا في قراءة النصوص بدقة، وتجنّب الأخطاء الشائعة في التحقيق مثل التصحيف أو التحريف، خاصة في الحالات التي كانت فيها الأوراق قديمة أو متهالكة جزئيًا.

على رغم من هذا، واجهت بعض الصعوبات في التوثيق، خصوصًا في القصائد غير المؤرخة أو تلك التي كتبها أكثر من مرة بصيغ مختلفة، فكان لا بد من مقارنة النسخ، وتحليل السياق الفني والزمني لتحديد النسخة الأقرب إلى النص النهائي، وهو ما تطلب جهدًا دقيقًا وصبرًا طويلًا.

برأيكِ: كيف يمكن للمقربين من المبدعين أن يساهموا في الحفاظ على إرثهم الأدبي وإبرازه في ظل غياب الدعم المؤسسي؟

على رغم من أن الشاعر عبد الحسين حمد كان غزير الإنتاج، وقد طبع ديوانه مرتين. في إحدى المرات طُبع له جزء من ديوانه بعنوان "وقد الجوى" عن مركز دراسات الكوفة، لكن الطبعة لم تكن بالمستوى الذي يليق بالمادة الأدبية، سواء من حيث الإخراج أو العناية بالمحتوى. وقد عبّر عن استيائه من ذلك بقوله الساخر: "وكأن الورق من ذهب، أو هو أنفس مما كُتب عليها من أدب!"

لاحقًا، طُبع ديوانه كاملًا بعنوان "شواظ القوافي" عن المكتبة الأدبية المختصة عام 2009، لكنه استمر في نظم الشعر بعد هذه الطبعة، كما أن هناك قصائد قديمة لم تُدرج ضمن ذلك الديوان، وكان قد نسيها أو غابت عنه بفعل تقادم الزمن وتعدد الدفاتر. وهنا كان لي دور شخصي في البحث والتنقيب عن تلك النصوص المتناثرة، فجمعتها ودرجتها ضمن قائمته الشعرية الكاملة، وأعدت لها الاعتبار بوصفها جزءًا أصيلًا من تجربته.

هذه الحالة تعكس أحد التحديات التي يواجهها الشعراء غير المرتبطين بمؤسسات نشر أو دوائر نقدية فاعلة، خاصة في السياق الثقافي العراقي والعربي، حيث قد تُهمَّش التجارب الأصيلة إذا لم تجد من يتبناها ويبرزها. وفي هذا الإطار، شعرت بمسؤولية مزدوجة، ليس فقط كباحثة، بل كقريبة للشاعر، أن أُخرج هذا الصوت إلى النور وأمنحه ما يستحق من قراءة واهتمام.

كيف يتجلى هذا الأصالة في عصرٍ تهيمن عليه القصيدة الحديثة؟ وهل ترين أن هناك إهمالًا للنقد تجاه الشعراء المحافظين على الشكل التقليدي؟ 

حين وصفت شعر عبد الحسين حمد بأنه "أصيل" و"منتمٍ لعمود الشعر العربي"، لم أقصد بذلك انتماءه إلى الكلاسيكية الجامدة، بل إلى التيار الإحيائي الذي يستلهم البنية التقليدية للقصيدة العربية – من حيث الوزن والقافية – لكنه يوظفها للتعبير عن قضايا معاصرة، بروح متجددة وحس وطني وإنساني حيّ.

شعره يعكس الانتماء لمدرسة الإحياء والبعث، التي مثّلت جسرًا بين التراث والحداثة، وقد تميز بنَفَس وجداني صادق، ولغة شعرية قوية، دون أن يفقد حسه بالزمن الذي يعيشه. لقد كتب عن الوطن، والهموم العامة، والتجربة الشخصية، بلغة موزونة، وإيقاع تقليدي، لكنه كان معنيًا بالمعنى أكثر من الزخرف، وبالصدق أكثر من الاستعراض.

في المقابل، أرى أن النقد المعاصر كثيرًا ما ينشغل بالقصيدة الحديثة وتياراتها التجريبية، ويُغفل – أحيانًا – شعراء المدرسة الإحيائية الذين حافظوا على الأصالة في الشكل، وقدموا مضامين حيّة ومعبرة. وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى مراجعة نقدية منصفة، تُعيد لهذه التجارب مكانتها في خارطة الشعر العربي المعاصر.

شعر عبد الحسين حمد يثبت أن الالتزام بعمود الشعر لا يعني الانفصال عن قضايا العصر، بل يمكن أن يكون وسيلة فعالة للتعبير برؤية صادقة وبلاغة مؤثرة.

 كيف عكس شعره الواقع العراقي (اجتماعيًا أو سياسيًا) في فترة حياته؟ وهل يمكن اعتبار نصوصه وثيقة تاريخية؟

نعم، شعر عبد الحسين حمد عكس بعمق الواقع العراقي والعربي، سواء من الناحية الاجتماعية أو السياسية، ويمكن اعتباره في كثير من جوانبه وثيقة تاريخية فنية، لأنه لم يكتب الشعر من معزل عن الأحداث، بل كان متفاعلًا معها بوعي المثقف وبصيرة الشاعر.

في قصائده السياسية، كان الشاعر بمثابة مؤرّخ وجداني، لا يكتفي برصد الحدث، بل يعيد تشكيله شعريًا بمنظور إنساني عميق. لقد كتب عن القضايا الكبرى التي عصفت بالعراق والوطن العربي، من الاحتلال والحروب، إلى القمع والاستبداد، وعبّر عنها بلغة تحترق بالألم والأمل في آنٍ واحد. كان يعايش اللحظة لا كمتفرج، بل كمشارك ومسؤول، وهذا ما منح شعره مصداقية استثنائية.

وقد تميزت نصوصه بأنها لا تنتمي لزمنها فقط، بل تتجاوز اللحظة السياسية إلى بعد إنساني، مما يجعلها صالحة للقراءة في سياقات متعددة. وهنا تتجلى قوة الشاعر كمؤرخ لا يسجل الوقائع فحسب، بل يحللها ويقدّمها برؤية شعرية تنبض بالوعي والانحياز للكرامة والحق.

أما في شعره الديني، فقد جاءت النصوص مشحونة بالإيمان، والوجدان، والتعبير عن المبادئ التي آمن بها، من خلال استحضار الرموز الدينية الكبرى ومواقفها، بأسلوب فيه صفاء التعبير وقوة المعنى، مما جعل شعره أيضًا وثيقة أخلاقية وتربوية إلى جانب كونه أدبيًا.

من خلال هذا المزج بين التوثيق الفني والرؤية الشخصية، يمكن القول إن ديوانه لا يُقرأ فقط بوصفه تجربة شعرية، بل بوصفه سجلًا وجدانيًا لتاريخ حيّ، كتبه شاعر كان ضميرًا لزمانه، وصوتًا لمن لا صوت لهم.

هل كانت خطابيته تعبيرًا عن رسالة اجتماعية أم سجالًا مع خصومه الفكريين؟ وكيف يمكن قراءتها في ظل الواقع العربي الحالي؟  

النزعة الخطابية في شعر عبد الحسين حمد لم تكن مجرد حيلة بلاغية أو استعراض لغوي، بل كانت امتدادًا طبيعيًا لوعيه الاجتماعي والفكري، ولرسالته الأدبية التي أراد من خلالها أن يُعبّر عن موقف، ويدافع عن قِيَم، ويناقش قضايا مجتمعه وأمّته.

خطابيته كانت في جوهرها تعبيرًا عن رسالة اجتماعية وسياسية وأخلاقية، أراد بها أن يوقظ الوعي، ويحفّز الضمير، ويؤدي دور "الشاعر الرسولي" الذي لا يكتفي بوصف الألم، بل يدعو إلى التغيير. كان يُخاطب شعبه، وأمته، بل وحتى الخصوم الفكريين أحيانًا، ولكن بروح الحجة لا التهجم، وبنَفَسٍ قيمي، لا شخصي.

هذه الخطابية – بطابعها الإحيائي – أتاحت له أن يعبّر عن رؤاه بقوة، مستعملاً أدوات الخطابة العربية الأصيلة: النداء، التكرار، الاستفهام، والمباشرة التي لا تلغي الشاعرية، بل تؤكد الرسالة. وهذا ما يُكسب شعره طابعًا تعبويًا وتحريضيًا، دون أن يفقده جماليات الصورة الشعرية.

وإذا قرأنا هذا الخطاب في ضوء الواقع العربي الحالي، نجد أنه لا يزال شديد الصلة بما نعيشه من أزمات وصراعات ومطالب بالعدالة والكرامة. فصوت الشاعر الذي كان يخاطب قومه في الأمس، لا يزال يُسمع اليوم في وجه الظلم، والاستبداد، والتجهيل. شعره في هذا السياق يتجاوز الزمن، لأنه ينتمي إلى روح الأمة، لا إلى لحظة عابرة.

لذلك، أرى أن خطابيته ليست موضع ضعف، بل عنصر قوة يربط بين الشعر والواقع، ويجعل من الكلمة وسيلة مقاومة وبناء، في زمن تراجعت فيه الأصوات المبدئية.

ما هي أبرز العقبات التي تواجه الباحثين في جمع التراث الشعري غير المنشور في العالم العربي؟ وهل المؤسسات الثقافية تدعم مثل هذه المشاريع؟  

في عملي، لم أحقق الديوان المنشور، بل ركّزت على الشعر غير المطبوع الذي كتبه الشاعر عبد الحسين حمد ولم يُخرج إلى النور، وهو الجزء الذي كان عرضة للنسيان أو الضياع، لولا العناية بجمعه وتحقيقه وتقديمه ضمن سياقه الفني والموضوعي.

ومن خلال هذه التجربة، تبيّن لي أن الباحثين في جمع التراث الشعري غير المنشور في العالم العربي يواجهون عقبات عديدة، أبرزها غياب التوثيق المؤسسي، وضعف الأرشفة، وقلة الاهتمام الأكاديمي بهذه النصوص التي لم يُسبق نشرها أو لا تنتمي لأسماء "نجومية". فغالبًا ما يُركَّز على الأسماء اللامعة، بينما تُهمَّش الأصوات التي لم تَدخل دوائر النشر الرسمية.

كما أن ضعف الدعم المؤسسي يمثل عائقًا كبيرًا. فالمؤسسات الثقافية في الغالب تُعنى بالمطبوع والمنجز، لكنها لا تضع مشاريع جمع وتحقيق التراث غير المنشور ضمن أولوياتها، سواء من حيث التمويل أو التبني أو التسهيل. وبهذا، يتحول العمل على هذه النصوص إلى جهد فردي يعتمد على شغف الباحث ومثابرته أكثر مما يعتمد على منظومة ثقافية داعمة.

هذا ما يجعل مهمة الباحث في هذا المجال مضنية، تبدأ من البحث في الدفاتر والأوراق، مرورًا بالتحقيق والتوثيق، وصولًا إلى التفسير والتحليل. ومع ذلك، أرى أن هذا النوع من الجهد ضروري لإنقاذ جزء كبير من الذاكرة الشعرية العربية، التي قد تضيع إن لم تجد من يتبناها ويمنحها حقها من العناية.

كيف ترين دور الجامعات العراقية في حفظ التراث المحلي؟ وهل هناك تقصير في توثيق إنتاج الأدباء المحليين؟ 

دعوتي في خاتمة البحث إلى طباعة الديوان جاءت من إيماني العميق بأن شعر عبد الحسين حمد لا يمثل مجرد تجربة فردية، بل هو جزء من ذاكرة أدبية محلية تستحق أن توثق وتُقدَّم للأجيال القادمة. وهنا تبرز أهمية الجامعات العراقية في أداء هذا الدور الثقافي الكبير، لأن مسؤوليتها لا تقتصر على التعليم والتدريس فقط، بل تمتد إلى حفظ التراث المحلي ورعايته علميًا ونشره.

لكن مع الأسف، ما زال هناك قصور ملحوظ في توثيق إنتاج الأدباء المحليين، خاصة أولئك الذين لم يحظوا بالانتشار الواسع رغم جودة نتاجهم. كثير من التجارب الإبداعية الأصيلة بقيت حبيسة الأدراج أو الدفاتر الشخصية، لأنها لم تجد جهة تتبناها أو تُدرك قيمتها. ويُفترض بالجامعات أن تكون هي الحاضن الأول لهذه الجهود، عَبْرَ دعم مشاريع التخرج، والرسائل الجامعية، والنشر الأكاديمي، وتبنّي مبادرات حفظ التراث.

في تجربتي، شعرتُ بأن هناك حاجة لتوسيع أفق التعاون بين الأقسام الأدبية ومؤسسات النشر، وكذلك بين الجامعات والمجتمع الثقافي المحلي، لأن التراث غير المطبوع هو رأس مال ثقافي معرض للاندثار إذا لم يُوثَّق في وقته.

أرجو أن يكون هذا البحث دافعًا لمزيد من الدراسات التي تُنقّب في تجارب أدبية مهمّشة، وأن تتبنى الجامعات العراقية دورًا أكثر فاعلية في احتضان هذه المشاريع، بوصفها امتدادًا طبيعيًا لمسؤوليتها الثقافية والمعرفية.

أي الجانبين كان أكثر تحديًا؟ ولماذا يعتبر بعض الأكاديميين أن تحقيق النصوص أقل قيمة من الدراسة النقدية؟  

بصفتي باحثة جمعت بين التحقيق والدراسة، أستطيع القول إن التحقيق كان أكثر تحديًا، لا من حيث الجهد فقط، بل من حيث الدقة والمسؤولية العلمية. لأن التحقيق لا يعني مجرد نقل النص من مخطوطة أو مسودة إلى صيغة مطبوعة، بل هو عملية علمية متكاملة تتطلب التحقق من صحة النص، ومقارنة النسخ، وضبط اللغة، وتوضيح الغامض، والحفاظ على أمانة النص دون تدخل، مع تقديمه للقارئ بصورة سليمة وواضحة.

واجهت أثناء التحقيق صعوبات تتعلق بتتبع النصوص المتناثرة، وتحقيق نسبتها، وتصنيفها، فضلًا عن مسؤولية الحفاظ على أسلوب الشاعر وخطابه، دون أن أفرض عليه قراءة غير دقيقة أو اجتهادًا غير موثق.

أما الدراسة النقدية، فرغم ما فيها من جهد فكري وتحليلي، إلا أنها تتيح حرية أكبر في الطرح والتأويل، في حين أن التحقيق يُلزم الباحث بالموضوعية الكاملة، ويضعه أمام مسؤولية علمية لا مجال فيها للخطأ أو التساهل.

وللأسف، لا يزال بعض الأكاديميين ينظرون إلى التحقيق على أنه أقل قيمة من الدراسة النقدية، ربما لأنه يرتبط – في الذهن العام – بجمع المادة لا بتحليلها، أو يُعتبر مجرد "تهيئة" للنص وليس إبداعًا في حد ذاته. لكن في الحقيقة، لا يمكن لأي دراسة نقدية أن تقوم على أساس راسخ دون تحقيق علمي دقيق، خاصة في الأدب التراثي أو النصوص غير المنشورة.

من هنا، أرى أن التحقيق والدراسة وجهان لعملة واحدة: التحقيق يحفظ النص، والدراسة تحييه. وقد حاولت من خلال هذا البحث أن أقدم نموذجًا يجمع بين الدقة العلمية في التحقيق، والقراءة الواعية في الدراسة، ليكون العمل إضافة متكاملة للمعرفة الأدبية.

هل شعرتِ أن البحث أعاد لكِ "حوارًا" مع الشاعر بعد رحيله؟ وكيف تغيرت نظرتكِ له كمحققّة بعد أن عرفته كقريب؟  

نعم، شعرتُ طوال فترة عملي على هذا البحث أنني لا أتعامل مع أوراق صامتة، بل كنتُ فعليًا في حوارٍ متجدد مع الشاعر، أستعيده حيًّا بين الكلمات، وأسمع صوته بين السطور، وأراه كما كان: حاضرًا، صادقًا، واثقًا بلغته ومواقفه.

قبل أن أبدأ التحقيق، كنت أعرفه كقريب، كخال، وكأب لزوجي، أحمل له مشاعر عائلية وذكريات. لكن بعد أن دخلت عوالمه الشعرية، واستمعت إلى صوته عبر نصوصه، تغيّرت نظرتي تمامًا. رأيته كصوت شعري له موقف وفكر، وكمبدع يحمل همومًا أكبر من محيطه الخاص. شعرت أحيانًا أنه كان يكتب لي لأكمل عنه ما لم يُكمل، وكأن هذا الحوار لم ينقطع رغم الرحيل.

كمحققة، أصبحت أكثر احترامًا لمسيرته، وأكثر وعيًا بحجم ما أنجزه بصمت، وكم افتقده المشهد الأدبي من دون أن يعرفه كما ينبغي. وكم كانت المسؤولية ثقيلة عليّ حين شعرت أنني أحمل جزءًا من إرثه، لا بصفتي القريبة فحسب، بل بصفتي الباحثة التي يجب أن تكون عادلة وصادقة في تقديمه.

لقد أعادني البحث إليه، لكنه أعاده أيضًا إلينا، حيًا في قصائده، نابضًا بصوته، وماثلًا في الذاكرة الأدبية، كما في الذاكرة العائلية. وهذه أجمل هدية يمكن أن يقدمها العلم للروح: أن يُحيي ما ظننّاه غاب، بالكلمة، بالصدق، وبالوفاء.

هل يمكن قراءة شعره كشهادة على العنف السياسي في العراق؟ وكيف يمكن للأدب أن يكون مقاومةً للنسيان؟

نعم، يمكن قراءة شعر عبد الحسين حمد كشهادة حية على فترات العنف السياسي في العراق، فهو لم يكن يكتب في عزلة عن الواقع، بل كانت قصائده تتفاعل مع ما يجري من أزمات، وانكسارات، وتحوّلات حادّة في مصير الإنسان العراقي.

لقد عبّر عن الألم والخذلان والمقاومة بلغةٍ تمزج بين الرمز والوضوح، بين الإدانة والمناشدة، فكانت قصائده نوعًا من التوثيق الوجداني لما مرّ به العراق، خاصة حين يغيب التوثيق الرسمي أو يُحرَّف بفعل الأيديولوجيا.

كان شعره يسجّل ما لا يُقال في الأخبار، ويعكس مشاعر الناس وهمومهم، ويرثي الضحايا الذين لم تُذكر أسماؤهم، ويُدين الظلم مهما كان مصدره. ولهذا، يمكن اعتبار الكثير من نصوصه شهادات شعرية ضد النسيان، وصوتًا لمن سُحقت أصواتهم تحت أنقاض العنف والقهر.

والأدب، في مثل هذه الحالات، لا يكون ترفًا أو تزيينًا لغويًا، بل يتحول إلى أداة مقاومة رمزية، تقف في وجه المحو والنسيان والتجاهل. القصيدة تصبح وسيلة لتخليد من رحلوا بصمت، ولحفظ الذاكرة الجماعية من التشويه أو الطمس.

في شعر عبد الحسين حمد، نجد أن الكلمة لم تكن فقط وسيلة للتعبير، بل كانت أيضًا سلاحًا ضد الصمت، وشكلًا من أشكال البقاء، والاحتجاج، والتاريخ الموازي الذي لا يُنسى.

هل تعتقدين أن الأجيال الجديدة تقرأ الشعر بنفس الحماسة القديمة؟ أم أن دور الباحثين أصبح هو "إنقاذ" التراث من الضياع

لا شك أن العلاقة بين الأجيال الجديدة والشعر قد تغيّرت. لم تعد الحماسة القديمة حاضرة بالشكل نفسه، لا بسبب ضعف الشعر نفسه، بل نتيجة تغير الوسيط الثقافي وتحوّل الذائقة العامة نحو وسائل أسرع وأقل عمقًا. فالشعر – كجنس أدبي يحتاج إلى تأمل وتذوق – يواجه اليوم منافسة شرسة من الثقافة الرقمية والإيقاع السريع للحياة.

لكن هذا لا يعني أن الشعر قد مات، بل إنه ينتظر من يقدّمه بروح معاصرة ومن يربط الجيل الجديد به بطريقة تُشعره بأن القصيدة ليست شيئًا بعيدًا عن واقعه، بل مرآة له وامتداد لوجدانه.

وهنا يأتي دور الباحثين، لا فقط كمنقذين للتراث من الضياع، بل كوسطاء بين النص القديم والوعي المعاصر. مهمتنا اليوم ليست أن نحفظ فقط، بل أن نُعيد تقديم هذا التراث بوعي، وأن نُبرز قيمته الجمالية والإنسانية، وأن نحفر في ذاكرة الأدب لنستخرج ما يُلهم الحاضر ويُحاور المستقبل.

في عملي على شعر عبد الحسين حمد، شعرت أنني لا أستعيد الماضي فقط، بل أمدّ خيطًا ناعمًا من الشعر نحو من لم يعرفوه بعد، حتى يُدركوا أن هناك من كتب عنهم، لأجلهم، ومن أجل القيم التي لا تبلى مع الزمن.

الشعر الحقيقي لا يموت، لكنه ينتظر من يوقظه بكلمة وفاء، وبجهد علمي صادق، وبحسّ إنساني يؤمن أن الأدب ليس للتاريخ فقط، بل للحياة أيضًا.

كلمة ختامية من الباحثة: 

هذا البحث لم يكن مجرد جهد أكاديمي بارد، بل كان رحلة وجدانية وعلمية في آنٍ واحد، استعدتُ فيها صوت شاعرٍ عاش للكلمة، وكتَب للناس، وظلّت قصائده شاهدة على زمنه. شعرت أن من واجبي كباحثة، لا أن أدرسه فقط، بل أن أمنح نصوصه فرصة للعيش من جديد، وأن أفتح لها نافذة نحو القرّاء، خاصة في زمن تتغيّر فيه الذائقة وتتراجع فيه صلة الأجيال بالتراث الأدبي.

أؤمن أن مسؤوليتنا اليوم لا تقتصر على التنقيب في النصوص، بل تمتد إلى ربطها بالحاضر، وتجديد حضورها، وإعطاء الأدب المحلي قيمته التي يستحقها. وأتمنى أن يكون هذا العمل لبنة صغيرة في مشروع أكبر لحفظ ذاكرتنا الأدبية، وصون صوت من كتبوا بصدق، ومضوا بصمت

اضف تعليق