لنتفق أولا على جملة مفاهيم: (الرواية) ابنة المخيلة، وأن كانت مرجعيتها الأحداث الواقعية، وليست هناك رواية مجردة من الخيال.. فكافكا ودستويفسكي وماركيز وسالنجر ونجيب محفوظ.. أسماء بارزة في الرواية العالمية، مختلفة في تناولها ومنظورها، لكنها تجتمع على أنها صناعة مخيلة باذخة العطاء...
لنتفق أولا على جملة مفاهيم: (الرواية) ابنة المخيلة، وأن كانت مرجعيتها الأحداث الواقعية، وليست هناك رواية مجردة من الخيال.. فكافكا ودستويفسكي وماركيز وسالنجر ونجيب محفوظ.. أسماء بارزة في الرواية العالمية، مختلفة في تناولها ومنظورها، لكنها تجتمع على أنها صناعة مخيلة باذخة العطاء.
أما (السيرة) فتتناول منظومة حياة المتكلم أو تنقل عنه كما عرفنا ذلك من خلال هنري ترويا مثلا. وكلاهما (الرواية والسيرة) يختلفان عن (المذكرات) فهذه تدوين أو توثيق لأحداث مر بها المرء في مسيرة حياته كما هو شأن (مذكراتي) للجواهري.
وفي الحقلين الأخيرين (السيرة والمذكرات) يمكن أن يكتبا من قبل صاحب الشأن نفسه، أو يتولى الأمر شخص يطلق عليه (المحرر) وعمله يقتضي (تحرير) المادة الأولية لشخصية لها شأن سياسي أو عسكري أو اجتماعي وهي تمتلك خزينًا من التجارب الحيَّة التي تقتضي كتابتها بأسلوب أدبي متقن، لا قدرة لصاحب تلك التجارب والأحداث على امتلاك موهبة الكتابة، فيتولى الأمر شخص يعرف بعنوان (المحرر).
ندوّن هذه المعلومات بوصفها الأساس أو مفتاح الحديث عن عمل أدبي وضعه صاحبه الأستاذ محمد الأحمد في جنس الفن الروائي، وعنونه بـ (السيد العام) فهل كان هذا العمل الأدبي (رواية) فعلًا؟، صفحات يبلغ عددها (209) لا تؤكد حقيقة ما ذهب اليه المؤلف، لأنّ كل هذه الصفحات تتحدث عن تجارب في مسيرة حياة عدد من المسؤولين الذين حكموا العراق قبل 2003 وعلى وجه الخصوص (الشخصية الرئيسية) بوصفها الشخصية المحوريَّة لهذا العمل الأدبي، وقد شغلت هذه الشخصية مقاعد أساسية في الأمن والمخابرات وكانت وثيقة الصلة وظيفيًا واجتماعيًا من مصدر القرار الأول، بمعنى أنّها شخصية كليَّة لها دور أساس في تشكيل هوية العراق السياسيَّة في ذلك الزمن إلا أنّها تتهم في ولائها للقيادة وأنّها على صلة بالأجنبي والتجسس والاستئثار بالمال العام.. وهو الأمر الذي جعلها تواجه شتى أنواع التعذيب وصولًا الى الإعدام.
هذه الشخصية تتحدث عن نفسها تارة، وعن المحيطين بالقيادة تارة أخرى وعن القيادة نفسها تارة ثالثة، ونتبيّن أن هذه الشخصية لها تماس بقدر معين بقراءة الروايات حتى أنها كانت تطمح أن تكون شخصية تعنى بكتابة الرواية.
إنها شخصية مثقفة تتقن عملها الفني والمخابراتي بدقة كما يقول صاحبها، إلا أن القيادة التي وثقت بها طويلًا، تكتشف خيانتها أو تتهمها بالخيانة ومن ثمَّ تتولى إعدامها، فيما يقول صاحبها في نهاية (الرواية) "إنّ التاريخ سوف ينصفه وليست الرصاص الذي خرق رأسه" ص209.
وفي تفاصيل هذا العمل يتعرّف (محمد الأحمد/ الكاتب) كما ورد الاسم في النص على هذه الشخصية وجهًا لوجه.. بمعنى أن كل ما أورده الأحمد حقيقة كليَّة وليس من مخيلة الكاتب.
وفي علم الكثيرين أن (القيادة) التي يدينها ـ حياة وممارسة سياسيّة ـ لها خصوصيات يتفرّد بها المتحدث بوصفه جزءًا من هذه المنظومة التي حكمت العراق وقامت بتصفية كل معارضيها وحتى أقرب الشخصيات التي عملت إلى جانبها!
وإذا كان المؤلف يرى أن "الرواية تعتمد على الحكاية المقنعة" ص69 و "أن جنس الرواية طريقة تفكير حديثة للتعامل مع ماضٍ لم يفهم" ص91، فإنّ ما يراه ليس (حكاية) ولكن له صلة بالإقناع فعلًا، بسبب الأحداث التي يتناولها والتي يعرفها كثرة من العراقيين ويتداولونها في أحاديثهم الخاصة حتى أصبحت مدار تندر العراقيين على حكم فاشي أدارته عائلة مفككة وعليها مأخذ كثيرة، حتى أنّنا لنجد في أغنية منى العبدالله التي تقول كلماتها: "صدقوني مامليتكم روحي حمامة بيتكم" والتي ترد في ص84؛ تبدو معبّرة وحيَّة على وفق ما كان وما أثار استياء الجميع وجعلهم لا يأمنون حياتهم التي بات كل فرد يرى أنّها في خطر، إلا أن هذه الشخصية التي كانت: "مفتونة بالايديولوجيا التي تمطر علينا صراعات في ظاهرها هتافات ومبادئ وفي حقيقة باطنها الاستحواذ على الإنسان وتدجينه وتهيئته على ما يراد له أو يراد منه" ص 90
تدين صاحبها وتجعله جزءا أساسيا من المحور التدميري للبلاد..
فإذا كان يعرف كل هذا؛ فلماذا لم يتخلَ عن مسؤولياته ما دام، مدركًا كل سلبياتها؟ ولماذا يتعامل الروائي مع "ماضٍ لم يفهم"؟ ترى ما هو مصدر الفهم هذا وكيف يمكن أن نعد كل هذه الوقائع الحقيقيّة "غير مفهومة" مع أنه يريدها كما لو أنها كانت وثيقة خاصة وأن الكثير منها يحمل أسماء حقيقيّة تشير اليها الأحداث؟، وكيف يمكن أن يفهم عمل فني وضع له توصيف (الرواية) يتحدث عن القومية والوطنية والانتماء كما لو أنه يكتب مقالة سياسية، كما في صفحات 91، أو سرد أحداث ووقائع ص101؟ وممارسة أساليب بشعة ضد من كان يعلم بممارستها ضد الخصوم السياسيين.. فإذا هو يكتوي بها كما ورد في ص 180.
إلا يعني كل هذا أن (السيد العام) لا يمكن أن نعدها عملًا صائبًا يقع في جنس الرواية.. لأن العمل الروائي لا يقوم على هكذا بناء فني يعتمد بكل تفاصيله على مذكرات وسير شخصية وأحداث ووقائع بعينها ليخلص من جميعها كاتب له تجارب روائيَّة حيَّة؟ وسبق له وأن قرأ وكتب وقام بتحليل مئات الروايات العالميَّة المترجمة؟.
من هنا نرى أنَّ (السيد العام) كتاب يجمع ما بين السيرة والمذكرات، وقد قام محمد الأحمد بتحريرها على وفق خبرته ودرايته في الكتابة الأدبيَّة.
في الوقت نفسه لا نجد في هذه الصفحات أكثر من إدانة حقيقيَّة وكشف لا يخلو من الجرأة، كشف عنه الأحمد وهو يدوّن هذه الأحداث الدامية التي مرَّ بها العراق وناءى العراقيون من ثقلها وعاش من ويلاتها الشيء الكثير.
نعم (السيد العام).. (سيد) يسود على البلاد والعباد ويجور عليهم ويثقل على وجودهم، حتى إذا وجد أحدهم متنفّسًا للبوح تخلص منه بشتى الطرق كما هو أمر هذه الشخصية في هذا الكتاب الذي لا يخلو من جهد وجمع المعلومة على نحو مقبول غاب عنه الخيال الروائي واعتمد على حضور الأحداث بوصفها إرادة الحقيقة لا إرادة الفن الروائي برسمه عوالم متخيلة وأبعاد حيَّة.
اضف تعليق