بينما يُعَدُّ اللقاح الطبي نسخةً ضعيفةً من مسببات الأمراض التي تحفز الجهاز المناعي على تكوين أجسام مضادة، يمكن أن يعمل الكشف الوقائي عن الشائعات والدعاية والوسائل التي يستخدمها المتلاعبون بالعقول على تحصين الأشخاص ضد المعلومات المضلِّلة، وفق دراسة حديثة نشرتها دورية "ساينس أدفانسز" (Science Advances)...
بقلم: سمر أشرف
بينما يُعَدُّ اللقاح الطبي نسخةً ضعيفةً من مسببات الأمراض التي تحفز الجهاز المناعي على تكوين أجسام مضادة، يمكن أن يعمل الكشف الوقائي عن الشائعات والدعاية والوسائل التي يستخدمها المتلاعبون بالعقول على تحصين الأشخاص ضد المعلومات المضلِّلة، وفق دراسة حديثة نشرتها دورية "ساينس أدفانسز" (Science Advances).
توضح الدراسة، التي أجراها باحثون من جامعتي كامبريدج وبريستول البريطانيتين، أن تعريض الأشخاص بشكل استباقي لمثال ضعيف من المعلومات المضللة (من خلال تحذيرهم من التلاعُب المحتمل بعقولهم ودحض الحجة) يخلق لدى هؤلاء الأشخاص ما يمكن تشبيهه –مجازًا- بالأجسام العقلية المضادة، التي تجعلهم أقل تعرُّضًا للتلاعب والإقناع غير المرغوب فيه، وهو ما يُعرف بـ"نظرية التحصين".
نظرية التحصين
نشأت "نظرية التحصين" في ستينيات القرن الماضي على يد اختصاصي علم النفس الاجتماعي "ويليام ماجواير"، وفسرت كيف يمكن للشخص الحفاظ على ثبات توجهاته واعتقاداته في مواجهة محاولات الإقناع المختلفة التي تطارده؛ إذ يشبِّه "ماجواير" نظريته للتحصين السلوكي بـ"التلقيح الطبي"، مشيرًا إلى أن "تعريض شخصٍ ما لحججٍ مضادةٍ ضعيفة يساعده على بدء عملية إقامة الحجج المضادة، التي تعطي في النهاية مقاومةً لرسائل الإقناع الأقوى التي تواجه الشخص فيما بعد".
يقول الباحثون: "إن فيديوهات الرسوم المتحركة القصيرة، التي تمنح المشاهدين لمحةً عن الأساليب المستخدمة في التضليل عبر منصات التواصل الاجتماعي، يمكن أن تساعد في تحصين الأشخاص ضد المحتوى الضار على وسائل التواصل الاجتماعي".
واستنتج الباحثون ذلك من خلال تجربة أُجريت عبر الإنترنت نُشرت فيها الفيديوهات المعنية في خانة الإعلانات الخاصة بموقع الفيديوهات الشهير يوتيوب (YouTube)، واستعان الباحثون بإحدى أدوات شركة جوجل (Google)، وهي وحدة Jigsaw المخصصة لاستكشاف التهديدات التي تواجه المجتمعات المفتوحة ومعالجتها.
التضمين المسبق
أنشأ الباحثون مقاطع مدتها 90 ثانية مصممة لتعريف المستخدمين بأساليب التلاعب النفسي المستخدمة في نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة عبر الإنترنت، فيما يُعرف بـ"التضمين المسبق"، بحيث يتم استباق الأخبار الكاذبة عن طريق فضحها مقدمًا، وتوعية الأشخاص ضدها، حتى يتمكنوا من تحديد الأكاذيب عبر الإنترنت بشكل أفضل بغض النظر عن الموضوع.
تأتي نتائج الدراسة من سبع تجارب شارك فيها نحو 30 ألف مشارك، وتُظهر أن مشاهدة واحدة لمقطع فيديو واحد تعمل على زيادة الوعي ضد معلومات مضللة، ويصف الباحثون مقاطع الفيديو التي أنتجوها بأنها "مصدر حيادي"؛ إذ تتجنب التحيُّزات التي لدى الأشخاص حول مصدر المعلومات، وتبحث مدى اتساق تلك المعلومات مع الأفكار التي يؤمنون بها، وأفاد الباحثون أن مدخلاتهم لا تقدم أي ادِّعاءات حول ما هو صحيح أو حقيقة، وهو الأمر الذي غالبًا ما يكون محل نزاع.
يقول جون روزنبيك -الباحث في مختبر صنع القرار الاجتماعي في جامعة كامبريدج، والمؤلف الرئيسي للدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": تعتمد فكرة "الكذب الوقائي" على محاولة عدم وقوع الأشخاص ضحية للتلاعب والاقتناع بالمعلومات الخطأ؛ إذ نفعل ذلك عن طريق تحصين الأشخاص ضد أساليب التلاعب التي غالبًا ما تكمن وراء المعلومات الخطأ والمضلِّلة عبر الإنترنت بدلًا من تحصينهم ضد الأمثلة الفردية للمعلومات المضللة التي قد يتعرضون لها.
أفادت نتائج الدراسة أن مقاطع الفيديو حسَّنت قدرة الأشخاص على اكتشاف المعلومات الخطأ، وعززت ثقتهم بقدرتهم على فعل ذلك مرةً أخرى.
يضيف "روزنبيك": تعمل المقاطع أيضًا على تحسين جودة قرارات الأشخاص فيما يتعلق بمشاركة المحتوى الضار ونشره، لقد وجدنا أن عرض مقطع فيديو للتحصين المسبق كإعلان على منصة يوتيوب حسَّن قدرة الأشخاص على اكتشاف تقنيات التلاعب في عناوين الأخبار بمعدل 5٪ تقريبًا.
سلسلة ألعاب
استمرت الحملة الإعلانية للتحصين على يوتيوب مدة 15 يومًا، واستهدفت المستخدمين الناطقين باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا أو أكثر، وشاهدوا مقطع فيديو سياسيًّا أو إخباريًّا واحدًا على الأقل على المنصة.
فيما سبق، طوّر الفريق البحثي سلسلةً من الألعاب عبر الإنترنت، مثل Bad News وGo Viral وHarmony Square، للغرض نفسه استنادًا إلى نظرية "التحصين"، في إحدى الألعاب يؤدي اللاعب دور منتج أخبار مزيفة، ويسجل نقاطًا من خلال اكتساب أتباع للأكاذيب التي يروج لها، ووجد الباحثون عدة أدلة حول فاعلية هذه الألعاب في مواجهة المعلومات المضللة، إلا أنه من الصعب تنفيذ الألعاب على نطاق واسع، وفق روزنبيك.
لذلك اتجه الباحثون إلى إنشاء سلسلة من مقاطع الفيديو التي تزيد من وعي الأشخاص ضد تقنيات التلاعب الشائعة، ويقول "روزنبيك": تعمل مقاطع الفيديو -وكذلك الألعاب التي طوّرناها مسبقًا- على تحسين قدرة الأشخاص على التعرُّف على أساليب التلاعب تلك حتى في المحتوى الجديد عليهم، وتتمثل ميزة استخدام الفيديو في أنه يمكنك بسهولة تشغيلها كإعلانات على منصات التواصل الاجتماعي مثل YouTube، وهو ما فعلناه في هذه الدراسة.
ويتابع: إن أساليب الإقناع بالمعلومات المضللة قد تشمل التلاعب النفسي (نوع من التأثير الاجتماعي الذي يهدف إلى تغيير منظور الآخرين أو سلوكهم من خلال تكتيكات مسيئة أو خادعة أو خفية)، أو التضحية بكبش فداء (انتقاء طرف معين لمعاملته معاملةً سلبية غير مُستحَقة أو لومه كما لو كان كبش فداء)، أو المغالطات المنطقية مثل المأزق المفتعل (إيهام الطرف الآخر بأنه لا يمكن بناء الحجة إلا على افتراض خيارين لا أكثر، أحدهما واضح البطلان؛ لدفعه إلى تبنِّي الخيار الآخر).
ويشير البيان الصحفي -الذي اطلعت مجلة "للعلم" على نسخة منه- إلى أنه يمكن لنتائج هذه الدراسة أن تغير قواعد اللعبة إذا تم توسيع نطاقها بشكل كبير عبر المنصات الاجتماعية المختلفة، وهو أمرٌ غير مكلف، في حين يوضح "روزنبيك" أن "عملية إنشاء مقاطع الفيديو واختبارها في المختبر سارت بشكل جيد ومدهش، بينما كان من الصعب التخطيط لدراسة عبر منصة يوتيوب، وكان تنفيذها معقدًا جدًّا".
استنادًا إلى نتائج الدراسة، تعمل شركة "جوجل" -الشركة الأم لموقع "يوتيوب"- بالفعل على حملة فيديو الشهر المقبل في بولندا وجمهورية التشيك؛ لمواجهة المعلومات المضلِّلة المتعلِّقة باللاجئين الأوكرانيين، وصممت هذه الحملة لبناء القدرة على الصمود تجاه الأفكار الضارة المناهضة للاجئين، بالشراكة مع المنظمات غير الحكومية المحلية ومدققي الحقائق والأكاديميين وخبراء المعلومات المضللة.
ويُجري الباحثون دراسةً أخرى في الوقت الحالي على منصة "تويتر" (Twitter) لمعرفة ما إذا كان عرض مقاطع الفيديو كإعلان لمستخدمي "تويتر" يحسِّن جودة ما يشاركونه ويعيدون تغريده، كما بدأ الباحثون في مشروع لإنشاء 5 مقاطع فيديو واختبارها في الهند.
اضف تعليق