المعنويات والاهتمام بها هي التي ينبغي لرجل الدين التحلي والتزيّن بها، والرعاية والقهر لها، إذ نفعها لا ينحصر في الآخرة فحسب، بل أن نفعها يعمّ الحياة الدنيا أيضاً، فرجل الدين الذي يريد أن تطيب حياته الدنيوية ويسعد في حياته الأخروية، لابد له من الالتزام بالمعنويات، والاهتمام بها...
من أهم الأمور بالنسبة إلى رجل الدين، هو: (الاهتمام بالمعنويات والآخرة، والإعراض عن الماديات والدنيا).
إن الاهتمام بالمعنويات إذا التقت في رجل الدين مع الأمور الخمسة المزبورة، أثمرت ثماراً طيبة، وأنتجت نتاجاً حسناً، بينما لو اتقن رجل الدين كل هذه الأمور الخمسة بكاملها (التأليف، المنبر، التدريس، المحراب، التأسيس)، ولم يهتم بالمعنويات، لم يستطع بلوغ هدفه الأسمى، ولا نيل غرضه الأعلى، الذي هو: الفوز بالآخرة والجنة.
وإنما يكون الهدف الأسمى، والغرض الأعلى هو: الفوز بالآخرة والجنة، لأن الدنيا ـ كما وصفها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ «دار ممر لا دار مقر..»(1) ولأن «الدنيا تضرّ وتغر وتمرّ»(2) ولأن الآخرة كما وصفها الله تعالى: (لهي الحيوان)(3) ولأن الفوز الواقعي هو الفوز بالجنة كما قال سبحانه: (فمن زُحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز)(4).
هذا ولا يخفى: أن المقصود بالإعراض عن الماديات والدنيا هو أن لا تكون هدفاً لرجل الدين، وإلا فهي خير وسيلة للآخرة، كما أن المقصود من الاهتمام بالمعنويات والآخرة هو: أن لا يجعلها رجل الدين وسيلة، بل تكون له هدفاً، فيسعى في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى في كل حركاته وسكناته، وأفعاله وأقواله، ونومه ويقظته، وسفره وحضره، وفي كل أموره وأحواله، وذلك بأن يرى الله تعالى عليه رقيباً، ومنه قريباً، وله حسيباً ولأعماله مجازياً، وان يعلم أنه يتقلب في قبضته وإراداته، وأن ناصيته بيده وبمشيئته، وأنه لا طاقة له على الخروج من سلطانه، ولا يمكنه الفرار من حكومته.
ولقد قال لي بعض أساتذتنا وهو يوصيني بوصاياه وينصحني بنصائحه: أنه ينبغي لرجل الدين أن ينوي القربة لله تعالى وأن يقصد رضا الله سبحانه في كل صغيرة وكبيرة من أعماله، حتى في مثل الاستجمام والاستحمام، وحتى في مثل قضاء الحاجة والرفث إلى النساء، فكيف بالتأليف والتصنيف، والتدريس والتأسيس؟
نعم، إن المعنويات والاهتمام بها هي التي ينبغي لرجل الدين التحلي والتزيّن بها، والرعاية والقهر لها، إذ نفعها لا ينحصر في الآخرة فحسب، بل أن نفعها يعمّ الحياة الدنيا أيضاً، وذلك لأن الله تبارك وتعالى كما في الحديث الشريف: أمر الدنيا بأن تخدم من عمل لله وابتغى رضوانه، وان تتعب من عمل للدنيا وابتغى زبرجها وزخرفها.
وقال عزوجل في محكم كتابه: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(5).
فرجل الدين الذي يريد أن تطيب حياته الدنيوية ويسعد في حياته الأخروية، لابد له من الالتزام بالمعنويات، والاهتمام بها، وترويجها في المجتمع، ونشرها في أوساط الناس، حتى يفوز الجميع بحياة طيبة، وآخرة سعيدة.
كان والدي (قدس سره) ينقل عن ذكريات صغره: أن والدته (رحمها الله) كانت تعتني بتربيته وتأديبه غاية الاعتناء وقد كانت هي من الصالحات القانتات وعلى إثر ذلك كان لاتفوتها نافلة الليل وتلاوة القرآن بالأسحار، وكانت إذا قامت لصلاة الليل والتهجد فيه أيقظته معها، واصطحبته إلى مصلاها وأقعدته إلى جنبها وكانت توصيه بالانتباه إليها وعدم النوم والغفلة عنها.
يقول الوالد (قدس سره): وحيث كنت صغيراً يغلب علي النوم، ولم أكن في سن أقدر على الصلاة معها، كانت تجعل أمامي ظرفاً وتجعل فيه شيئاً من الحمص والكشمش لأشتغل عن النوم بالأكل منها واللعب بها.
نعم، إن رجال الدين القدامى حيث كانوا يهتمون اهتماماً كبيراً بالمعنويات، ويجتهدون غاية الجهد في تحصيل العلم، كانوا قد حازوا على قصب السبق في أمور الدنيا وأمور الآخرة معاً، حتى ذكر بعض العلماء: بأن مائة ألف عالم إسلامي بزغ في سماء الإسلام، ولمدة خمسة قرون ماضية، وفي مختلف العلوم الإسلامية والطبيعية من فقه وأصول، وعقائد وحقوق، وطب وهندسة، وحساب وهيئة، وما إلى ذلك.
لكنه من اليوم الذي قل الاهتمام بالمعنويات، وضعف الجد في تحصيل العلم، لم يبزغ في سماء العلم من يحوز على قصب السبق في العلوم الإسلامية والعصرية من رجال الدين عدد يذكر إلا النزر القليل والنادر الضئيل، وقد أثر ذلك على كافة مراحل الحياة الدينية والدنيوية، حتى أن هناك مجلة عربية تصدر في بلد عربي، تراها قد ذكرت في بعض أعدادها اللغات الحية في العالم، ولم تذكر من بينها اللغة العربية، ولم تصفها بكونها لغة حية.
هذا مع أن اللغة العربية هي لغة القرآن، ولسان الوحي وحوار أهل الجنة، وبها نزل آخر صيغة لقوانين السماء، وأعظم منشور لحقوق الإنسان، وأكمل دستور لحياة الفرد والمجتمع، والحاكم والرعية، وذلك في كل المجالات الفكرية والثقافية، والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها، مما يستدعي أن تكون اللغة العربية هي اللغة المشتركة، واللغة الحية على مستوى العالم كله، وقد نوّه بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين دعا الناس إلى الإسلام قائلاً: «يا معشر العرب: ادعوكم إلى عبادة الله، وخلع الأنداد والأصنام، وادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فأجيبوني تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة»(6).
نعم، إن قوله (صلى الله عليه وآله): هذا، أي تكونوا سادة وقادة، ولقد كانوا كذلك، حيث ساد المسلمون في الدنيا، وأصبح كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملوكاً على كثير من مناطق العالم، ومن تتبع التاريخ استطاع أن يكتب كتاباً في الصحابة الذين حكموا الخليج وغيرها.
ولعله أراد (صلى الله عليه وآله) أيضاً من قوله، أن تكونوا سادة العلم وقادته، فإن العلماء ورجال الدين هم الحكام على الملوك والرؤساء، وذلك كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك»(7).
أجل، إن العلماء حكام على الملوك إذا اهتموا بالمعنويات، واجتهدوا في تحصيل العلم، وإذا قرنوا العلم بالعمل، والعمل بالتقوى، فان «التقوى مع العلم قوة» كما ورد، فنسأل الله أن يوفقنا للعلم والتقوى إنه خير موفق ومعين.
اضف تعليق