صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ...
مِن مَكارم الأخلاق
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عِزّاً، فتعافوا يعزّكم اللّه»(1).
من المعلوم أن ملكات الخير تضفي على الإنسان كمالاً روحياً، ثم ينعكس هذا الكمال من الروح على كيان الإنسان ومظهره الخارجي، فنرى إتزاناً عظيماً في الشخصية، وعدالة خالصة في السلوك، وبياناً وحكمة في المنطق، ورأفة ورحمة في التعامل. وهذا هو هدف الإسلام وهدف كل الرسالات السماوية، أي: خلق وصناعة الإنسان بالصياغة والأسلوب الذي يؤدي إلى رقيّه وكماله وتقدمه.
ولهذا نرى التركيز على كل مفردة من مفردات الكمال.
ومن هذه المفردات: العفو، لا سيما العفو عند المقدرة. بل نرى أن اللّه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه صفة العفو، وأنه سبحانه يحب كل من تحلى بهذه الصفة، لأنه سوف يلتقي مع اللّه عزّ وجلّ بواسطة هذه الكمالات، وسيكون اتصاله وعلاقته مع اللّه من أشرف العلاقات وأكثرها روحانية. لذلك نرى التركيز من القرآن الكريم على هذه الصفة؛ قال تعالى: (فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ)(2). وقال تعالى: (إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا)(3). وقال: (وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)(4).
ومن هذا يتبين لنا أن صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ. وقصة عفو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، عن أهالى مكة بعد الفتح، كالنار على العلم، وكالشمس في رابعة النهار، بعد أن ارتسم الموت في مخيّلة كل واحد من القرشيين. إذ اعتقدوا أن الرسول سوف يقتلهم، ولكنهم فوجئوا بعفو النبي (صلى الله عليه وآله) عنهم، مع ما لاقاه منهم من حرب ومشاغبة ومحاولات عديدة لقتله وتعذيب أصحابه... ولكن في الوقت نفسه كان عفوه عنهم بمثابة التبليغ للدين الإسلامي، بل إن صدى العفو بقي حتى في أجيال الذين عفا الرسول (صلى الله عليه وآله) عنهم، فكانوا يسمون بـ (أولاد الطلقاء)(5).
مراتب العفو
هناك مراتب للعفو والمغفرة تعدّدت بسبب اختلاف وتعدد مراتب الذنب والجرم. إذ كلما اختلف وتعدد الأخير اختلفت مراتب العفو بمقتضاه. فالمتبادر إلى أذهان الناس أن الذنوب نوعان:
الأول: هو مخالفة الأحكام الشرعية وعدم تطبيق ما أمر اللّه به.
والثاني: هو التعدي على حقوق الناس سلباً ونهباً وغصباً.
وهذه الحقوق حقوق مادية أو فكرية أو اعتبارية، كالغيبة التي تسقط اعتبار الإنسان في الوسط الإجتماعي، فيعد ذلك ذنباً عرفاً وتعدياً إلى جانب حرمته. ولكن بنفس الوقت هناك تفاوت في كل مرتبة من هذه الذنوب؛ فمن سرق حبة الحنطة غير الذي سرق الملايين، ومن سلب قميصاً من أحد غير الذي سلبه ملكه كله. ومن أخلّ بالصوم أو ارتكب كبيرة غير الذي ارتكب الكبائر، وترك جميع الواجبات، وأتى بجميع المفاسد، وأراق الدماء، وهتك الأعراض... ، فهذا التفاوت في الذنوب يوجب التفاوت في مراتب العفو والمغفرة أيضاً. ففي القسم الأول تكون المغفرة والعفو الإلهي، والثاني هو عفو الناس بعضهم عن البعض.
كيف نفهم العفو؟
الإنسان في هذه الحياة لا ريب من أنه يحتاج إلى لطف اللّه عزّ وجلّ ورحمته، ويطمع في النجاة من كل ألوان العذاب، لا سيّما عذاب الآخرة. والذنوب والمعاصي والشرك والكفر... كلها تبشر الإنسان بما لا يحب، فهي ظلمات وعذابات في الآخرة، وشقاء في الدنيا، بسبب تبعاتها، يقول تعالى: (أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ)(6) بعكس الإيمان والطاعات التي هي نور في الآخرة، قوله سبحانه: (نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ)(7).
فالعفو من اللّه عزّ وجلّ بمنزلة إزالة كل الأسباب والدواعي التي تكوّن الظلمات للإنسان، وتؤدي به إلى العذاب. وبمعنى آخر: إن المذنب بعد أن ابتعد عن لطف اللّه ورحمته يغفر له ويعفى عنه، ويردّه مرة أخرى إلى ألطاف اللّه ورفقه به، بعد أن تولدت عنده أسباب كانت بمثابة الموانع من التنعم بألطاف اللّه، فيكون العفو مزيلاً لكل الموانع التي من شأنها أن تبعد الإنسان عن قبول الفيض الإلهي. وكلما انكشفت تلك الموانع (الذنوب) عن الإنسان إزداد إشراقاً وإيماناً، بسبب قبوله لعناية اللّه له وفيضه عليه، ولذلك قالت الآية: (رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ)(8). فهؤلاء لديهم نور، ولكن بقي هناك شيء من الموانع والأسباب، فيطلبون من اللّه أن يزيل عنهم كل الأسباب والموانع بالمغفرة، لكي يتم نورهم ويدخلوا الجنة.
أما عفو الإنسان فهو بمعنى عدم ترتب الأثر، وهذا على نحوين:
الأول: عفو مع عتاب ومساءلة وكلام، مع عدم ترتب الأثر.
الثاني: عفو مطلق بلا عتاب، وخال من كل شيء، بل أحياناً يكون مع المكافأة على نفس طريقة المولى عزّ وجلّ، والذي أطلق عليه القرآن مصطلح (الصفح الجميل)(9). أي: بلا عتاب أو مساءلة، وأيضاً قوله تعالى: (وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ)(10). وهذا نلمسه بوضوح عند الرسول الأكرم والأئمة الكرام صلوات اللّه وسلامه عليهم، فيروى أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ويسبه إذا رآه، ويشتم علياً (عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشد الزجر، فسأل عن العُمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن (عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟» فقال له: مائة دينار، قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟» قال: لست أعلم الغيب، قال له: «إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟» قال: أرجو أن يجيئني فيه مائتا دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن (عليه السلام) صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجوه»، قال: فقام العمري فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن (عليه السلام)، وانصرف(11). وغير ذلك كثير من أخلاق أئمتنا العظام سلام اللّه عليهم أجمعين.
العَفو عند المَقدرة
نعم يتسامى الإنسان، ويرتقي في سلم الكمال، عندما يصفح ويعفو ويغفر، وهو في موقع القدرة. يحكى أن الوليد بن عبد الملك عندما تسلم مقاليد الحكم بعد عبد الملك، حاول أن يكسب الناس، ويمحو الآثار السيئة لعبد الملك، فعزل والي المدينة هشام بن اسماعيل الذي كان دأبه مضايقة العلويين، لا سيما الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وإيداعهم السجن واتهامهم، ومنعهم بعض الحقوق...
فعندما عُزل وجرّد من أسباب القدرة أمر الوليد أن يوقف للناس ونادى في الناس أن كل من كانت له مظلمة عند هشام فليأته ويفعل به ما يشاء، فكان الناس يأتون ويبصقون في وجهه ويضربونه، وكان هشام يقول ما أخاف إلّا من علي بن الحسين، ولكن الإمام (عليه السلام) كان قد تقدم إلى خاصته ألّا يعرض له أحد منهم بكلمة... وقد مرّ الإمام (عليه السلام) أمام هشام مسلّماً عليه، وأبدى له الاستعداد بمساعدته دون أي إهانة أو إيذاء لذا نادى هشام حينها: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(12). لهذا ترك الناس إهانة هشام عندما شاهدوا فعل الإمام (عليه السلام) معه.
مِن فوائد العَفو
لا يخفى أن لِكلّ ملكة من ملكات الخير والكمال فوائد عديدة كالشجاعة والصدق والكرم والعلم... والعفو بما أنه واحد من تلك الكمالات وقد نعت اللّه عزّ وجلّ به نفسه، فبلاشك تقع وراء صفة العفو العديد من الفوائد والمنافع والمصالح الحسنة، وإلّا كيف نفسر اتصاف المولى بها وأمره بها أيضاً.
ومن هذه الفوائد نذكر:
1- العفو يفتح آفاقاً جديدة مع الآخرين، ويوفر لنا فرص الإلتقاء معهم بدل أن نفقدهم بالعقاب أو العتاب المُرّ، فوجود الناس بعضهم حول بعض أفضل بكثير من تشتتهم، فإن القصاص والعقاب حق، ولكنه يؤدي إلى نهاية العلاقات عادةً، أما العفو فإنه يجرد العلاقات، ويقوي العواطف، ويرفع الضغائن التي في القلوب، ويحسّن صورة الشخص عند الطرف المقابل. ولذلك كان الاستغفار أماناً لأهل الأرض، لأنه يرفع تبعات الذنوب، فتتجرد فرصة أخرى للعبد، ويعطي اللّه عزّ وجلّ أملاً جديداً للمكلف بعفوه عنه. وصفة العفو التي امتاز بها اللّه عزّ وجلّ هي التي تُلهم العباد الحركة والسعي والجد والاستغفار وتجديد الأمل وعدم اليأس من روح اللّه. وهكذا العفو بين الناس، فإنه مدعاة لأن يتناقص عدد الأعداء، ويأخذ رقم الأصدقاء والأصحاب بالصعود، وهكذا كان الأئمة (عليهم السلام) يعملون، فبعفوهم كانوا يجذبون الناس حولهم لا سيّما أعداءهم.
2- العفو يزيد الإنسان عزّاً ويرفع من مقامه ومكانته في قلوب الناس، لأن جنبة الإيثار سوف تكون واضحة المعالم في الشخص العافي، وهي مما يحبّها الناس، لأن الذي يعفو عن خصمه وعدوه، معنى ذلك أن يتنازل عن حقه، ولا يهتم بنوازع نفسه، وهمسات الشيطان، بل يكون ناظراً إلى مصالح الشخص المقابل، فيعفو عنه ليفتح له نافذة جديدة في الحياة وأملاً جديداً. فمن المعلوم أن القصاص أو العتاب أو العقاب أمر يرضي النفس، لأنها تشعر بالارتياح مقابل ما أخذ منها أو أعتدي عليها، وكذلك القصاص يرضي القوة الغضبية، ويرضي باقي الشهوات النفسية.
ومع ذلك يخالف الإنسان العافي هواه ويصفح عن الخصم، ليدلّل على سموه وكماله وتحرره من قبضة الشيطان أو قبضة الشهوات، وبهذا الأسلوب يزداد عزّاً في نفسه ومكانة عظيمة في قلوب الناس، ولذلك قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في حديثه: «... فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً...»(13).
3- وبهذا الشكل يكون العبد قد إتصف بالصفة التي يحبها اللّه، والتي إتصف هو بها ـ ولكن لا يخفى الفرق بين الأمرين ـ فيزداد قرباً من اللّه تعالى، لأنه تخلّق بأخلاق اللّه وأخلاق رسله وأوليائه. وإلى هذا المعنى أشار الرسول (صلى الله عليه وآله) في ختام حديثه «... فتعافوا يعزّكم اللّه»(14).
محاربة الهوى
إنزال العقوبة على المعتدي من ألذّ الأمور للنفس، وكثيراً ما تأنس القوة الشهوية بالمجازاة أو القصاص، إذ أن أغلب النفوس تحب مظهر الظهور بالقوة والغلبة والتأثير والتعالي على الغير ولو بالظلم، فالمظلوم دائماً تحدِّثه نفسه بالثأر أو القصاص، لأنها ترى في ذلك كمالاً وظهوراً لها. إلّا أنه يخفى على ذلك الإنسان أن العفو عن المعتدي يزيد النفس كمالاً ونقاوة ورقيّاً أكثر مما تتصوره في إنزال العقاب. فإن العقوبة غالباً ما تكون من نتائج القوة الغضبية التي توقع الإنسان في متاهات، في بعض الأحيان، بينما العفو دائماً يكون من نتائج الفكر السليم، والقلب الطاهر، والإيمان المتكامل. ويمكن الاستدلال بعمل أئمتنا (عليهم السلام) بالعفو وأمرهم إيّانا به، بأن العفو أفضل بكثير من العقوبة.
نعم في بعض الموارد تتعين العقوبة للحدّ من الجريمة مثلاً. ولكن بصورة عامة نقول: العفو كمال، وكماله روحي يستمر في أعماق الإنسان، بينما العقاب ليس فيه كمال روحي للإنسان، ولذلك جاءت أخبار الهداة (عليهم السلام) مؤكدة على جانب العفو أكثر من العقوبة. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم»(15)، أي: مسامحتهم والعفو عنهم. بل أحياناً يكون العقاب من أجل التشفي لا غير، وهو الغالب على طبع الإنسان، لأنه مما تميل إليه النفس بسبب القوة الغضبية، التي غالباً ما يحرّك أوتارها إبليس لعنه اللّه، ولذلك كان العفو كمالاً، لأنه يخالف هوى الإنسان، وكل ما يخالف الهوى فيه خير للإنسان، لأن الهوى يتحرك بإيحاءات الشيطان.
ولا بأس بنكتة مهمة في البين، وهي: متى يتحقق العفو؟ أحياناً عندما يضعف الإنسان عن أخذ الحق أو إنزال العقاب بالمعتدي، يقول عفوت عنه. ولكن في الواقع هذا بعيد عن العفو، وليس فيه أيّ ثمرة، إنما الكلام والثمرة تكون عندما يقدر الإنسان على العقاب أو القصاص، ولكنه يعفو. هنا يكون العفو فيه ثمار تصب على روح الإنسان، فتجعلها مشرقة ظاهراً وباطناً. ولهذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة»(16).
مَواقف مِن نور
لقد ثبت عند كل ذي لبّ أن طرف عائشة في معركة جمل كان يمثل جانب الباطل، وعائشة بنفسها كانت تعلم بذلك يقيناً، ولكن جرت الأحداث ومضت، وليس المقام في بيان الدوافع والأسباب، ولكن نريد أن نقول: بعد أن انتهت المعركة حاول بعض الأفراد، من جيش الإمام، أن يأخذوا ما بقي من جيش عائشة من سلاح وما شابه ذلك، فنهاهم الإمام عن ذلك. والسبب واضح، إذ ليس هدف الإمام في حروبه كلها هو صناعة جيش مسلح بالعدّة والعدد، بل صناعة جيش يتحرك دائماً من أجل إحقاق الحق، بغض النظر عن عدده وجنسه وسلاحه.
كان (عليه السلام) يغذيهم بالفكرة والمبادئ الإسلامية، لكي تكون دائماً هي الضوابط في حركتهم. والأمر الآخر هو بعد انتهاء المعركة وملابساتها، وأفعال عائشة وتحريضها الجيش، ومحاولتها لشقّ عصا المسلمين، وتعدّيها على إمام الزمان، وخليفة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وتجرؤها على النيل من الإسلام، بل القضاء على الإسلام في ما لو قدر وأن الإمام كان قد قتل، فمع كل هذا وذاك أرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) معها بعض النسوة لخدمتها، وعدداً من الرجال لحراستها(17) في طريق عودتها إلى المدينة مخافة أن يُعتدى عليها، أو يقدم أحد على الإساءة إليها. ووصلت إلى المدينة بسلام وأمان، معزّزة ومكرّمة. هذا العمل لم نجده في غير آل علي (عليهم السلام)، فهو تعبير صارخ، ولعله أعلى درجة من درجات العفو عند المقدرة. ولكن علياً (عليه السلام) لم يفعله ليزداد كمالاً، فهو كامل ومعصوم، بل ليضع درساً للأجيال وللقادة، كي يتخذوا هذا النهج، وهذا المسار الذي يؤمّن لهم النجاح والنصر والكمال في الحياة الدنيا، والفوز والقرب إلى اللّه عزّ وجلّ في الآخرة.
لماذا العقوبة؟
هناك بعض الحالات تتعين العقوبة فيها، وتكون أفضل من العفو، وبعض الحالات يكون العفو أكثر فائدة، أو أكثر إيجابية من العقاب. ويمكن أن نتصور بعض الأسباب أو الدوافع من وراء العقوبة:
1- اجراء العقاب من أجل إصلاح المجرم.
2- اجراءه من أجل العبرة للآخرين، لئلا يقدم فرد على جناية أو عمل قبيح، وكذلك العبرة لنفس المجرم، فإن العقاب الدنيوى البسيط يذكّره بعذاب يوم القيامة.
3- إجراء العقاب من أجل التشفّي وإرضاء الغرائز.
4- إجراء العقاب لمجرد العمل السيء، بعيداً عمّا إذا كان هذا العقاب يصلح الفرد أو لا، وأنه يحقق العبرة أو لا.
والعقلاء قالوا بحسن الأول والثاني، لأنهما يؤديان إلى إصلاح الأفراد، وتطبيق النظام الذي يضمن التعاضد الإجتماعي. أما الثالث فلا فائدة من ورائه إلّا إرضاءً للنفس والهوى. والاحتمال الرابع فيه قولان البعض قال بحسنه، أي: بحسن العقوبة فيه، وآخرون قالوا بقبحه. وعلى أية حال؛ ففي كل مورد يتمادى فيه المجرمون أو المخلّون بالأمن العام بوحدة المجتمع فإنهم يستحقون العقاب. نعم بعض الأشخاص يكون العفو عنهم أفضل من عقوبتهم، وهذا الأمر يترك عادة لظروفه الموضوعية، ونوعية الأشخاص. ولا بأس بالإشارة في البين إلى مسألة الألم التي يفعلها اللّه عزّ وجلّ في المكلفين وهل أنها حسنة أم قبيحة؟ وهل هي بعنوان العقاب أم لا؟ لقد اتفق العقلاء على أن جميع أفعال اللّه حسنة، ومنها الألم، وذلك لأحد أمور: إما لأن العبد يستحق الألم كالعصاة والكفار، أو لاشتماله على نفع أكبر من ذات الألم، كابتلاء المؤمنين لرفع درجاتهم وزيادة كمالهم، أو لدفع ضرر عنهم، كابتلاء العاصي لمحو الذنب عنه، أو أحياناً يكون بمقتضى النظام الكوني الحاكم (السنن الالهية) مِن قبيل مَن مَدَّ يده إلى النار فاحترقت، فهذا الألم صدر من النار، ولكنه يُنسب إلى اللّه، لأنه موجد القانون والعلة. ويمكن أن يصدق عنوان العقاب على هذا الألم لمن استحقّه مثل الكافر والظالم، ويمكن أن يكون محنة وابتلاءً للمؤمنين، لأن فيه نفعاً لهم في الدنيا والآخرة(18).
فمن خلال هذا البيان نصل إلى قناعة تامة بأن العقاب في بعض الموارد يكون مُهمّاً بل ضرورياً للحفاظ على النظام الاجتماعي والأمن العام وتطبيقاً للشرائع والنظم والقوانين وها نحن أولاء نجد القرآن الكريم لم يرفض العقوبات ولم يقبحها بل شرَّع بعضها كإجراء الحدود على الزاني والزانية وشارب الخمر... مع أن جميعها يصدق عليها أنها ألم ولكن هذا الألم فيه لطف إما لنفس المعذب أو للصالح العام. لذلك إذا كانت العقوبة من أجل الاصلاح والعبرة فهي حسنة لأن الغرض منها عقلائي وذو فائدة على المجتمع بشكل عام وعلى الفرد بشكل خاص...
أما العقوبة التي تدخل تحت عناوين أخرى لا مصلحة منها فهي غير حسنة وتدخل تحت الظلم والتعدي مع ملاحظة كون الجاني لم يقع في شبهة أم ما شاكل من الأعذار التي ترفع عنه العقوبة. أي أن الجاني يعرف أن هذا الفعل حرام أو غير جائز ولم يشتبه عليه الأمر ولم يكن مضطراً إلى باقي الشروط المذكورة في كتب الفقه ـ باب الحدود والتعزيرات ـ .
لذا فإنّ العفو والصفح إذا كانت فيه فائدة حتى ولو على المستقبل البعيد فهو أجمل من العقوبة ولعله الرادع الأنصع لضمير الفرد وعودته إلى حضيرة الإنسانية المبدعة، فإن الرادع الذاتي أقوى تأثيراً على نفس الإنسان وعلى المجتمع ككل. لذا يعتبر هذا العفو أو الصفح جميلاً قال تعالى: (وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ)(19).
«الحمد للّه على حلمه بعد علمه، والحمد للّه على عفوه بعد قدرته، والحمد للّه على طول أناته في غضبه، وهو قادر على ما يريد، الحمد للّه خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الاصباح، ذي الجلال والاكرام»(20).
اضف تعليق