فمسؤوليتنا هي القيام بتحول كبير وتغيير ثقافي واسع لنشر الوعي وإظهار الحقائق والواقعيات للناس حتى لا يبقى التاريخ غامضاً مشوهاً ولا تبقى الحقائق مندرسة وإذا نجحنا في ذلك ووفقنا إلى هذا الأمر فسيعمّ الخير للجميع ويتحقق الأمن والسلام ليس في بلاد المسلمين فقط بل في جميع بلاد العالم...

قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ)(1).

من الثابت في علم النفس الاجتماعي أن الناس يصابون بردّة فعل ومقاومة نفسية وروحية قوية مضادة ومعاكسة تجاه بعض الأحداث المهمة التي يتعرضون لها ويتحقق ذلك بشكل واضح وملموس عندما يواجهون نوعين من الأحداث:

الأول

عندما تقوم مجموعة ـ تحت أي عنوان كان ـ بإخراج الناس من حريتهم وحالتهم المستقرة والمطمئنة إلى مرحلة الفساد والفحشاء والاضطرابات فحينئذٍ تتولّد عند كثيرٍ منهم حالة شديدة من الرفض والثورة ضد ما يرمي إليه أولئك النفر.

الثاني

عندما تقوم مجموعة تحت أي عنوان كان بانتشال الناس من واقعهم المتردي من العبودية والانحلال الخلقي والعقيدي وتوجيهم نحو الاستقلال والحرية والنزاهة الخلقية والعقيدية فحينئذٍ تظهر من هؤلاء أيضاً حالة من الرفض والثورة ضد ما تهدف إليه هذه الجماعة.

وذلك لأن طبيعة الإنسان تجعله يعيش مع الأحداث والتغيرات ويحكم عليها بواسطة عواطفه ومشاعره وأفكاره الخاصة التي نشأ وترعرع وتطبّع عليها واستأنس بها سواء كانت هذه الأفكار التي يحملها صحيحة أو سقيمة حقة أو باطلة، بحيث إذا تعرض لها أحد بسوء أو طلب تغييرها أو تعديلها أو تفنيدها واستبدالها بالأحسن لم يلق إلّا الصدود أو الأعراض تارة أخرى.

هذه هي الطبيعة المتجذرة في نفوس الناس غالباً... مثلاً: الإنسان الذي ينمو ويترعرع في مجتمع يعبد الأصنام، الإنسان الذي منذ نعومة أظفاره ومنذ أن كان لا يميز بين الخير والشر لا يرى ولا يعرف من العبادة إلّا تأليه الأصنام وتقديسها، يرى آباءه وأجداده كذا يفعلون، أصدقاءه وأقرانه كذا يصنعون مجتمعه كله يسجد للصنم ويركع له، نرى هذا الإنسان يشب وهو يحبّ الصنم ويقدّسه ويتقرب إليه بالقرابين والنذورات لأنه شب في جو مشحون بذلك، فيتحول في مرحلة رشده وكمال عقله من حب الصنم إلى الاعتقاد والتصديق به، فهكذا إنسان طوى هذه المرحلة الطويلة من السنين وهو لا يأكل ولا يشرب إلّا على حب الصنم ولا ينام إلّا على حلم الصنم ولا يعيش إلّا لجلب رضا الصنم حتى يبلغ درجة الاعتقاد والتأليه له! فهل يستطيع أحد أن يغير عقيدته بسرعة وسهولة ويطلب منه أن يرفض عبادة الصنم ويتمسك بغير ذلك من دون أن يثور ضده أو يحاربه وهو الذي فنّد إلهه المقدس!

أبداً، فإنه لا بد وأن يثور ضده ويحاربه لأنه يعد ذلك أكبر اعتداء على مقدساته.

هذه الحقيقة التي تجعل الكثير من الناس محافظين على أفكارهم ومعتقداتهم القديمة عندما تحدث أفكار ومفاهيم ورسالات جديدة سواء كانت صالحة أو فاسدة، ويتمسكون بما آمنوا به من قبل حتى لو تيقنوا في وجدانهم وضمائرهم بصحة الأفكار الجديدة وسقم عقائدهم: (وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ)(2). فإن العلو والرفعة والتكبر يدعو الإنسان في كثير من الأحيان لأن يتنكر للحق.

اختلاف الناس

فـي الآيـة الشريفـة: (كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ)(3). وذلك لأن بعض الناس وجدوا أن كلام النبيين حقّ وصحيح فاتبعوهم ولم يتعصبوا للباطل ولكن البعض الآخر بقوا على تقليدهم لآبائهم وأجدادهم في الشرك وعبادة الأصنام (وَكَذَٰلِكَ مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ)(4).

وهذا دَيدَن الناس قديماً وحديثاً وهو التقليد الجامد للآباء والأجداد في الأفكار والعادات والتقاليد بلا ملاحظة جانب الحق والباطل والصحيح والسقيم فيها، وتخصيص المترفين بالذكر في الآية لأنهم هم الذين يتصدون لمعارضة الأنبياء ويصدون عن الحق وأما باقي الناس فإنما هم يتبعون ملوكهم ورؤساءهم في ذلك، ولذلك ومن أجل التمسك بآثار الآباء والأجداد والجمود على معتقداتهم الجامدة في مقابل الحق ومحاربة رسالات الأنبياء نجدهم يتوغلون في طغيانهم وإعراضهم ويعمدون إلى طرق وأساليب تحدد من انتشار دعوة الأنبياء في ما بين الناس وأهم تلك الطرق وأسهلها هو كيل التهم والافتراءات التي ما أنزل اللّه بها من سلطان على الأنبياء.

والقرآن الكريم أشار إلى بعض هذه التهم التي وجهت ضد الأنبياء في آيات متعددة.

فمثلاً اتهموا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بأنه شاعر أو مجنون: (بَلۡ قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمِۢ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرٞ فَلۡيَأۡتِنَا بِ‍َٔايَةٖ كَمَآ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ)(5).

(إِنَّهُمۡ كَانُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ يَسۡتَكۡبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوٓاْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٖ مَّجۡنُونِۢ)(6).

واللّه تعالى ينفي عنه (صلى الله عليه وآله) الشعر حيث يقول: (وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ)(7)، (إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ * وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ)(8)، ولكن عندما رأى الكفار والمشركون أن تهمة الشعر أصبحت باطلة ولا أثر لها في إبعاد الناس وانفضاضهم من حوله (صلى الله عليه وآله)، اخترعوا تهمة جديدة، وقالوا إنه كاهن، في حين أن النبي لا ارتباط له بالكهانة أصلاً. وبعد ما أصبحت هذه التهمة أيضاً باطلة وغير مؤثرة، عمدوا إلى تهمة ثالثة، وقالوا إنه ساحر، وبعض آخر كانوا يتهمون النبي (صلى الله عليه وآله) والعياذ باللّه بأنه مسحور، أي فقد عقله فقالوا: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا)(9). وواضح أنهم إنما ينسبون له هذه التهم التي ليس لها أساس بسبب أنهم كانوا يجدون أن مصالحهم ومنافعهم في معرض الضرر والفناء وأن وجود أبي سفيان وأبي جهل واعتبارهما ورئاستهما على الناس في معرض الخطر!(10).

الفساد قبل الإسلام

شُكلت فـي العصر الـذي سبق الإسلام عصابة في مكة المكرمة لـ (اختطاف الفتيات) وكانت هذه العصابة تقوم باختطاف كل فتاة جميلة يشاهدونها في أزقة البلد، وبعد أن ظهر الإسلام وقف النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون ضد هذه العصابة وهذا العمل الشنيع، وكان التابعون لهذه العصابة أو المؤيدين لأعمالها وأفعالها يقومون بإلقاء التهم ضد النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه في ما بين الناس كتهمة القتل والسرقة والعياذ باللّه، كل ذلك من أجل ضرب الإسلام والقضاء عليه واستئصاله حتى يستطيعوا هم من الاستمرار بعملهم الشنيع الذي وقف أمامه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وحاربه بشدة.

ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله) استقام أمام ذلك وواصل جهاده في تربية الناس وتهذيبهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى قويت شوكة الدين، وصار لا يمضي يوم واحد إلّا ويزداد عدد المسلمين حتى غطى الإسلام الجزيرة العربية كلها وأوجد على أثر ذلك تحولاً كبيراً في المفاهيم والأخلاق والثقافة الإنسانية اجتاحت كل المناطق التي احتوتها الجزيرة وما يحيط بها واستمر هذا التغيير والإصلاح الشامل للبشرية مع الأجيال إلى يومنا هذا.

مسؤوليتنا

والآن حيث استطاع النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) تغيير أفكار الناس، علينا نحن مسؤولية جذب الناس البعيدين عن الدين إلى الإسلام، وإلى اللّه تعالى، وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ما قضى على الأصنام وعبادتها، وقام سنين طوالاً بالعمل على تربية الناس وخاصة الشباب وتهذيبهم، حتى جعل منهم أناساً مؤمنين أشداء في سبيل الإسلام، لهم قلوب لا تتزعزع أبداً كالجبال الراسية، فنحن أيضاً علينا مسؤولية تبليغ الإسلام إلى الناس في كل البقاع، لملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والفضيلة، ونقاوم التهم التي تكال ضد الإسلام ورسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله) والعلماء. إنّ إسلامنا الحنيف هو الدين الذي يقول: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ)(11). فكل إنسان حرٌّ في اختيار أي دين وعقيدة يرغب فيها، ولكن يجب أن لا يغيب عن بال أحد أنّ الطريق الوحيد لتأمين الأمن والإستقرار والسعادة في الدنيا والنور بالآخرة هو الإسلام لا غير وكل ما سواه باطل ولا يزيد الإنسانية إلّا العذاب والشقاء الدنيوي والأخروي، قال تعالى: (وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ)(12).

إن مبادئ الإسلام من أعظم المبادئ التي منحت للإنسان حريته وكرامته واحترمته وأكبرته، فهو دين الرحمة والعاطفة والسماحة، حتى بالحيوان فضلاً عن الإنسان، وهو لا يؤمن بالعنف وسفك الدماء، ولا يجيز قتل النفس المحترمة، بخلاف بعض المبادئ الوضعية، ولا يكون كالشيوعية التي تقول: كل من لايدين أو يعتقد بالشيوعية فاقتلوه حتى لو كان أمة بكاملها(13).

هذه هي السياسة التي تتبعها جميع الأنظمة والأحزاب الوضعية في العالم اليوم، بينما الإسلام جاء لخدمة البشريه وصلاحها وإصلاحها، وليس ضدها، والذي جاء لتحطيم البشرية هم الشرق والغرب، الذين أجروا أنهار الدم في فيتنام وأفغانستان وغيرهما من بقاع العالم... .

وكما يقول لينين: إذا توقف نشر الشيوعية في العالم على قتل تسعة أعشار نفوس العالم، ليصبح العشر الباقي شيوعياً، فلكم الضوء الأخضر في قتلهم فداءً لذلك العشر الباقي.

الكتب السماوية

جاء في الكتاب المقدس المحرف للمسيحيين، الكتاب الذي يعتقد به الغربيون: (إن اللّه تعالى قال لموسى: إذا أعطيتك مدينة فاقتل كل من يخالفك سواء كان المخالف امرأة أو طفلاً أو شيخاً طاعناً في السن أو عجوزاً).

فالغربيون الذين يقرأون في كتابهم المقدس هذا المبدأ القاسي، من الواضح أنهم لا يتورعون عن قتل عشرات الملايين، في سبيل مصالحهم وأطماعهم وطغيانهم!

ولكن تعالوا إلى الإسلام، وانظروا أحكامه وقوانينه السامية، يقول الإسلام: في الحروب لا يقتل الشيخ الطاعن ولا المرأة ولا الصبي ولا المريض ولا تقطع الأشجار ولا تسحق الممتلكات وأمثال ذلك كما يقول: «الحدود تدرأ بالشبهات»(14) أي: لا يقام الحد في حال الشبهة، وغيرها من المبادئ الإنسانية الرحيمة، ومن هذا نعلم عمق رأفة الإسلام ورحمته بالبشرية وصلاحها، (فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ...)(15).

التهم ضد الإمام علي (عليه السلام)

توجهت ضد الإسلام وأمير المؤمنين (عليه السلام) تهم كثيرة، كان وراءها معاوية، بواسطة الدعايات الكاذبة، ونشره للأفكار المنحرفة والمغرضة، وبعض البسطاء من الناس يتلاقفون هذه التهم، ويرتبون عليها الآثار والمواقف، في حين أن القـرآن الكريـم يقـول: (وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولٗا)(16).

وكانت هذه التهم تزداد يوماً بعد يوم، وتنتشر أكثر فاكثر، وذلك لأن معاوية كان قد استخدم مجموعة من الناس، يطوفون هنا وهناك، لأجل نشر الإشاعات المغرضة، والتهم الكاذبة على الإمام (عليه السلام)، فكان هؤلاء يركبون الحمير، ويطوفون المناطق، ويجوبون القرى والأرياف المختلفة، ويقرأون هناك أحاديث، يجعلونها بأنفسهم كذباً وزوراً، بأن عليناً (عليه السلام) أدخل الأصنام في الإسلام! فكان بعض الناس الضعاف البصيرة والوعي يقبلون ذلك ويصدقونه!

إصلاح الناس

هذه التهم كانت ـ ولا زالت ـ تحاك ضد الإسلام والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، أما وظيفتنا نحن في مقابل ذلك، فهي أن نعمل ما بوسعنا ومهما أمكن، من إصلاح الناس ووعظهم وإرشادهم، وإظهار الحقائق الواقعية وإيصالها إليهم، فإذا قام كل واحد منا بإصلاح خمسة أفراد، وأرشدهم وبصرهم بأن الإسلام هو الدين الصحيح، وهو المذهب الحق، وأنقذهم من الانخداع بأحابيل الشرق والغرب وجعلهم لا يبيعون الجنّة الإلهية الخالدة باللذة الدنيوية الخادعة، فحينئذٍ يسير المجتمع في الطريق المستقيم غير المنحرف، وسوف يصلون إلى السعادة الدنيوية والأخروية معاً، لأن السعادة الحقيقية للإنسان: في الإسلام دنياً وآخرة والشقاء والتعاسة الحقيقية في ترك الإسلام وعدم الالتزام به قال سبحانه وتعالى: (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ‏)(17)، فعلينا إذن أن نقوم بعملية إصلاحية شاملة وذلك بإعطاء الأفكار الصحيحة إلى الناس وتفنيد الباطلة منها بأدلة قاطعة ومفحمة حتى يتم إرساء العقائد الإلهية على أنقاض العقائد الشيطانية الزائفة.

الخنساء والتحول الكبير

كانت الخنساء شاعرة من شواعر العرب المبرَّزات وكان لها أخ اسمه صخر، عندما مات أخوها صخر ظلت تبكيه أربعين عاماً(18). ولكن عندما ظهر الإسلام وسمعت الخنساء خطب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكلامه الذي لا ريب فيه... آمنت والتزمت وقد نقل أحد الرواة فقال: (اني كنت في حرب القادسية فرأيت الخنساء وقد ذرفت على الثمانين عاماً وقد تقوس ظهرها وهي ماسكة بلجام بعير وقد خرجت من ميدان المعركة فسألتها عن حمل البعير ما هو؟ فقالت: هو أربعة أولادي قد قتلوا في سبيل اللّه ورفعوا رأسي بذلك)(19).

فهذه المرأة التي كانت إلى فترة ليست بالبعيدة تبكي لمدة أربعين سنة على فقد أخيها نراها اليوم وقد طعنت في السن وتقوس ظهرها وضعف عودها وأصبحت بحالة هي بأشد الحاجة فيها إلى أولادها الفتيان، نراها لا تبكي ولا تحزن بل تقول: هم رفعوا رأسي بذلك عند اللّه وتفتخر بأنها مسلمة.

هكذا يفعل الإصلاح الثقافي والأخلاقي والروحي الذي قام به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من تغيير القلوب وتقويتها وتقويم العقائد وتصحيحها.

بنو أمية لم يقبلوا الإصلاح

عندما أشرق نور الإسلام على ربوع الجزيرة العربية آمن بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعداد غفيرة من الناس، غير أن بعض الناس بقوا على الكفر والشرك فأثر ذلك على ابنائهم وانتقل إلى ذراريهم أمثال بني أمية الذين ملأوا التاريخ بجناياتهم الفظيعة.

يقال: إن أحد الأشخاص(20) كان يفكر مع نفسه أنه لماذا عندما استولى بنو أمية على الحكم وصارت القدرة بأيديهم قتلوا الناس ونهبوا الأموال بل حتى الأسارى الذين منع الإسلام قتلهم، قتلوهم شر قتلة وقطعوا رؤوسهم ونقلوها من مكان إلى مكان وبلغت جناياتهم الفظيعة الآلاف على اختلاف أساليبها وأنواعها.

بينما ملك بنو هاشم فكانت سياستهم العفو والرحمة فعفوا عن الأعداء والمسيئين وحتى أنهم أباحوا الماء لأعدائهم، فذات يوم توسل أحدهم بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وطلب منه أن يبيّن له سبب هذا البون الشاسع والتفاوت الكبير بين هاتين الفئتين، وفي المساء رأى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عالم المنام وقال له خذ جوابك من ابن الصيفي، وعندما استيقظ من النوم شرع يسأل ويبحث عن ابن الصيفي، ولكنه لم يقع له على أثر أو دليل، إلى أن حصل على من يدله عليه وقالوا إن ابن الصيفي رجل فقير يسكن في المحلة الفلانية، فذهب إليه حتى وجده وعندما استقر به المجلس عنده قص عليه ما رآه في المنام، فبكى ابن الصيفي من سماع ذلك وقال إنني شاعر وقد أصابني في الليلة السابقة أرق لم استطع بسببه النوم فنظمت عدة أبيات شعرية ووضعتها تحت وسادتي وها هي أقول فيها:

ملكنا فكان العفو منا سجية --- ولما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتُم قتل الأسارى وطالما --- غدونا على الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا --- وكلّ إناء بالذي فيه ينضح(21)

إن واحدة من جرائم بني أمية هي أنهم قاموا بقتل الكثير من الشخصيات المهمة أمثال: حجر بن عدي(22). وأحد عشر شخصاً من أصحابه الزهاد وذلك بأن أخذوهم خارج دمشق وهم مصفدون بالأغلال وقتلوهم شرقتلة بجرم حب عليّ (عليه السلام) وقطعوا رؤوسهم، وأدى ذلك إلى اشمئزاز الناس وتألمهم لمدة طويلة بحيث تظاهر معاوية بعد ذلك بندمه واشتباهه بقتل أولئك النفر الصالحين(23).

يستفاد من هذه القصص وأشباهها بأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يريد أن يثبت بأن بني هاشم طاهرون لهم أرضية واسعة للهدى والصلاح بينما بنو أمية قاطبة مجرمون سفاكون للدماء وكان يريد أيضاً أن يجعل من ابن الصيفي رجلاً مشهوراً بسبب أبياته الواقعية، رداً لإحسانه وخدمته لأهل البيت (عليهم السلام).

ما المطلوب؟

إذن فمسؤوليتنا هي القيام بتحول كبير وتغيير ثقافي واسع لنشر الوعي وإظهار الحقائق والواقعيات للناس حتى لا يبقى التاريخ غامضاً مشوهاً ولا تبقى الحقائق مندرسة وإذا نجحنا في ذلك ووفقنا إلى هذا الأمر فسيعمّ الخير للجميع ويتحقق الأمن والسلام ليس في بلاد المسلمين فقط بل في جميع بلاد العالم وينقطع دابر الظالمين.

ومن المعلوم أن هذا العمل الكبير بحاجة إلى همة عالية وتصميم قوي ومواصلة مستمرة ونشاط متنامٍ من قبل جميع المسلمين.

«اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، وأبدلني من بغضة أهل الشنّان المحبة، ومن حسد أهل البغي المودّه، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية»(24).

من هدي القرآن الحكيم

الإصلاح الثقافي والإصلاح بين الناس

قال تعالى: (هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ)(25).

وقال سبحانه: (وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ)(26).

وقال عزّ وجلّ: (لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ)(27).

وقال جلّ وعلا: (إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ)(28).

من هدي السنّة المطهّرة

الإصلاح بين الناس

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(29).

وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»(30).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «لإن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين»(31).

وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «ما عمل امرؤ عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً ويتمنى خيراً»(32).

* مقتطف من كتاب القطوف الدانية، وهو مجموعة من محاضرات المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي

................................................. 

(1) سورة آل عمران، الآية: 144.

(2) سورة النمل، الآية: 14.

(3) سورة‌ البقرة، الآية: 213.

(4) سورة الزخرف، الآية: 22.

(5) سورة الأنبياء، الآية: 5.

(6) سورة الصافات، الآية: 35-‌36.

(7) سورة يس، الآية: 69.

(8) سورة الحاقة، الآية: 40-‌41.

(9) سورة‌ الإسراء، الآية: 47.

(10) هذه الحالة نجدها إلى اليوم حاكمة في العالم في مواجهة الحقائق والمبادئ الرفيعة السامية حيث أن أقوى سلاح يستخدم لضرب الحق والقيم الإسلامية هو سلاح الدعاية والإسقاط الإعلامي.

(11) سورة البقرة، الآية: 256.

(12) سورة آل عمران، الآية: 85.

(13) ستالين قتل (18) مليون إنسان قتلاً عاماً لرفضهم للمبادئ الشيوعية وماو تسي تونغ قتل أكثر من مليوني إنسان لنفس السبب.

(14) وهذه قاعدة فقهية مستندة إلى قول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «ادرءوا الحدود بالشبهات» من لا يحضره الفقيه 4: 74.

(15) سورة آل عمران، الآية: 159.

(16) سورة الإسراء، الآية: 36.

(17) سورة طه، الآية: 124-126.

(18) الخنساء لقب تماضر بنت عمرو الشاعرة التي لم تكن إمرأة أشعر منها وفدت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مع قومها فأسلمت معهم، قيل كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يعجبه شعرها توفيت سنة (24 هـ) سفينة البحار 2: 739 مادة (خنس).

(19) انظر الوافي بالوفيات 10: 243 و 244.

(20) وهو نصر اللّه بن مجلي.

(21) انظر وفيات الأعيان 2: 364.

(22) سفينة البحار ج1 ص223 مادة (حجر).

(23) انظر الإستيعاب 1: 330، والمصنف لابن أبي شيبة 3: 139.

(24) الصحيفة السجادية، ومن دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

(25) سورة الجمعة، الآية: 2.

(26) سورة الأعراف، الآية: 142.

(27) سورة النساء، الآية: 114.

(28) سورة هود، الآية: 88.

(29) الكافي 2: 209.

(30) ثواب الأعمال: 148.

(31) الكافي 2: 209.

(32) الأمالي للشيخ الطوسي: 522.

اضف تعليق