يكمن نجاح الإنسان وتقدمه في الجانب المعنوي، وما الأمور المادية الّا سبب للوصول إلى عالم المعنويات التي إهتم بها الدين كثيراً، والإنسان الحضاري هو ذلك الإنسان الذي يحمل أكبر قدر ممكن من الملكات الخيّرة، والصفات الحميدة، والسلوك المتوازن. وكلما كان الإنسان بعيداً عن منطق الظلم والعنف، كان أكثر تحضراً...
السمو الحقيقي
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو»(1).
يتصور البعض أن الركون إلى الأمور المادية يزيد الإنسان عزّةً وشرفاً ومنعةً وقوةً وسلطاناً، على الرغم من أن نصوص القرآن والسنّة مستفيضة في بيان هذا المعنى، وكشف القناع عن حقيقة الرقي الإنساني والسمو الروحي، وأن الدنيا وجميع متعلقاتها إنما هي عرض زائل في معرض التلف والتبدّل، وإنما يكمن نجاح الإنسان وتقدمه في الجانب المعنوي، وما الأمور المادية الّا سبب للوصول إلى عالم المعنويات التي إهتم بها الدين كثيراً، والإنسان الحضاري هو ذلك الإنسان الذي يحمل أكبر قدر ممكن من الملكات الخيّرة، والصفات الحميدة، والسلوك المتوازن. وكلما كان الإنسان بعيداً عن منطق الظلم والعنف، كان أكثر تحضراً، وأشد تسامياً، وأرقى درجةً. فالإسلام يرى أن سمو البشر إنما هو في تقدمهم وتفوقهم الأخلاقي وارتفاع رصيد ملكات الخير فيهم، وبقدر ما يكون المجتمع عادلاً يكون أقرب إلى التقدم والرقي والخلود.
وعادة هذا المعنى لا يتحقق في الأجواء الفارهة والثريّة، وإنما تتحقق وتتفجر ملكات الإنسان في الأجواء المتوسطة أو المسحوقة. ولذلك أكد الدين الإسلامي على حالة التواضع والبساطة في التصرف والعيش، لأن حالة الثراء والكبر والترف تمنع الإنسان من التقدم، بل تقف حائلاً دون رقيّه وتنامي رصيده الروحي. أما حالات التواضع والزهد والبساطة واللين فهي تجعل الإنسان حريصاً على الآخرين، خدوماً للناس، معيناً للضعفاء، مما يرقّق قلبه، ويطهر ضميره، وينظف دواخله.
ولذلك جاء في إحدى الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى (عليه السلام) أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه أن: يا موسى، إني قلّبت عبادي ظهراً لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذلّ لي نفساً منك. يا موسى، إنك إذا صلّيت وضعت خدّك على التراب»(2).
بل إننا لو تتبعنا أحوال الأنبياء لرأيناهم جميعاً يمتازون بصفة التواضع والبساطة والاهتمام بالناس وليس الأنبياء فحسب، بل الأولياء والأوصياء. وحتى العلماء المفكرون لو تفحصنا أحوالهم لرأينا آثار الزهد واضحة وطاغية عليهم. فبالزهد وبالابتعاد عن زخارف الدنيا، سوف يكون هناك متسع من الوقت والعمر، للتفكير والعمل والجدّ والإجتهاد والتكامل.
فوائد العزوف عن الترف
لا يخفى أن العزوف عن الدنيا، أو بالأحرى عن حياة الترف يوفر للإنسان رصيداً عظيماً من الفوائد. ولا بأس بذكر شطر من هذه الفوائد الجليلة:
الفائدة الأولى
إن الجري وراء زخارف الدنيا؛ من بيت فاره أو مركب حديث أو ملبس جديد أو مأكل متنوع، كل ذلك يأخذ وقتاً ليس بالهيّن، وعمراً ليس بالقصير، باعتبار أن هذه الأمور لا تتحقق في يوم وليلة، وباعتبار أن طبيعة الإنسان لا ترضى بواحدة منها بل تظل تطلب أكثر من ذلك، وهكذا حتى ينتهي به العمر ولم يقدم لآخرته شيئاً.
إذن، ترك الركض وراء الحالات المترفة يوفر للإنسان متسعاً من الوقت، فيه يعمل ويفكر ويعبد، وإلّا فإن السعي المستمر اللاعقلائي وراء الثراء وطلب الرفاهية سوف يجعل من الإنسان آلة تحركه المباهج والزخارف والملذات، ويمضي وقت من بين يديه دون أن يشعر إلّا حين الموت. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، في وصف حال هذا الإنسان: «فإنها ـ الدنيا ـ واللّه عمّا قليل تزيل الثاوي(3) الساكن، وتفجيع المترف الآمن... سرورها مشوب بالحزن وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها»(4). ثم يذكر (عليه السلام) العلاج لهذا المرض، وطريقة التخلص منه، يقول: «رحم اللّه امرءً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأن ما هو كان من الدنيا عن قليل لم يكن...»(5).
إذن التفكير السليم في الأجواء التي يحكمها العقل يصل بالإنسان إلى حقيقة هذه الزبارج الدنيوية الزائلة.
ولا يتأتى هذا النوع من التفكير إلّا حين يكون الإنسان في وضع يسمح له بذلك، ولا يكون ذلك أيضاً إلّا عندما يكون الإنسان بعيداً عن حالات الترف والركض وراء الدنيا وزخارفها، لكي لا تأخذ وقتاً وعمراً منه، ولا تشغل حيّزاً من عقله. أما العيش بصورة معتدلة أو بسيطة وهو المعبر عنه بحياة، فكل ذلك الزهد يجعل من الإنسان خلّاقاً في أفكاره، لأنه أولاً سيجد وقتاً واسعاً للتفكير، وسيجد العناية الإلهية التي تفيض عليه بالتسديد في الأفكار والأعمال، بعكس الإنسان طالب الدنيا ومتعلقاتها.
الفائدة الأولى إذن هي أن الحياة البسيطة تغني الإنسان من ناحية الوقت، ومن خلاله يتصل الإنسان باللّه عزّ وجلّ، أو لا أقل من أن يشغله ذلك بالتفكير المثمر.
الفائدة الثانية
إن مجانبة الدنيا وزخارفها المترفة تجعل من الإنسان قريباً من اللّه عزّ وجلّ، وقريباً من الناس، لأن الإنسان الذي يكتفي باليسير من حطام الدنيا، ويقنع بالقليل، سوف يساعده هذا السلوك على الانقطاع للّه عزّ وجلّ، لأن قلبه سوف لا يتعلق بشيء من حاجيات الدنيا، بل يظل الفؤاد والفكر مشغولين بذكر اللّه مما يقربه أكثر فأكثر من ربّه، ويكون وليّاً من أوليائه. لأن الإنسان إنما يبتعد عن طريق الهداية، لأجل تعلق قلبه بالأمور الدنيوية، فتحتل منه أكبر مساحة، فلا يبقى مجال لذكر اللّه وعبادته ثم إن الإنسان البسيط في عيشه غير المتكلف في سلوكه وكلامه وتعاملاته مع الناس يكون قريباً جداً من قلوبهم، لأنه يكون قد حافظ على سلامة فطرته، والناس عادة يميلون إلى هذا النموذج من البشر، لأنه موافق لفطرتهم، ولذلك نرى أن الناس في الأعم الأغلب تلتف حول القائد المتواضع البسيط العيش، البعيد عن الترف والثراء. والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك. وأبرزها رسول اللّه (صلى الله عليه وآاله)، وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده (عليهم السلام) فقد كانوا قمّة التواضع والبساطة ولذلك التفّ حولهم الناس وأذعنوا لهم، بما في ذلك حتى أعداؤهم.
إذن كلما ابتعد الإنسان عن الترف كان قريباً من اللّه وقريباً من قلوب الناس، لأنه الوحيد الذي يتحسس آلامهم ومعاناتهم، فيضحي من أجلهم، ويدافع عن حقوقهم، بعكس الغني المترف الذي لا تهمه سوى نفسه، لذلك كان بعيداً عن قلوب الناس، ومحارباً حتى من قبل الشريعة.
بالطبع كلامنا يدور حول الغني الجاحد لحقوق اللّه والناس، أما الغني المؤمن المؤدي لحقوق اللّه تعالى وحقوق الناس فكلامنا لا يشمله، وهذا واضح لذوي البصائر.
الفائدة الثالثة
يمكن القول: إن الذي يقضي حياته بالبساطة بعيداً عن المترفات وحالات الثراء والترف، هو الإنسان الذي يعرف معنى الحرية بصورة تامة، لأنه سوف يتخلص من كل القيود التي من شأنها أن تذله، أو تعيقه عن الحركة، أو التفكير، أو العمل، من قبيل قيود الشهوات النفسانية غير المنقطعة التي تدفع بالانسان نحو المهالك، وتجرّه إلى المطبات وتعكّر صفو العيش عنده، وتسوّد صفحاته النورانية.
وأوضح مثال في هذا المقام هو عمر بن سعد، قاتل الحسين (عليه السلام)، عندما ضغطت عليه رغباته وميوله اللامنتظمة، ففضّل قتل سيد الشهداء إجابة لتلك الرغبات الحقيرة في الحصول على ملك الريّ... فلم يحصل على ملك الري، ولم يكن من أهل الجنة، فاشترى الحريق برغباته التي قيّدته، وقادته نحو النار.
وعلى العكس من ذلك، عندما نلاحظ سيرة الرسول والأئمة (عليهم السلام) أو أصحابهم المنتجبين، أمثال: مالك الأشتر، وأبي ذر، وهشام، وعمّار، ومؤمن الطاق، ورشيد الهجري، الذين خلّدتهم كتب الطائفتين. وعندما نبحث عن السبب نجد أن مقدمتهم الأساسيه والرئيسية هي الرضا بالقليل من الدنيا، ومجانبة الثراء والغنى والترف، بل كانوا يزهدون في حياتهم ترويضاً لأنفسهم، وتنظيماً لرغباتهم. فكلما تخلّص وتحرر الإنسان من القيود قويت الإرادة والإيمان في المقابل، وازدادت في التقوى رسوخاً. وعن إمامنا الصادق (عليه السلام) قال: «جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا». ثم قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآاله): لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا».
ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا»(6).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآاله): «إن في طلب الدنيا إضراراً بالآخره، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار»(7). ولكن عادة الجهال وطلاب الدنيا جرت على أن يعكسوا المعادلة، فيضروا بآخرتهم لأجل دنياهم، فهم على طرفي نقيض مع الزهاد والناس العقلاء.
شُريك والعروض الثلاثة
شُريك بن عبد اللّه النخعي كان عالماً تقياً زاهداً، وهو من أبناء العامة في زمن المهدي بن المنصور العباسي. وكانت الناس ملتفة حوله لزهده وعلمه وتقواه. وفي نفس الوقت كان المهدي العباسي يرغب لو أنّ شريكاً يقبل العمل في أحد أجهزة الدولة، ليكسب بواسطته الرأي العام، والتحاق الناس بركب الخليفة. وفي أحد الأيام أرسل خلفه، وقال له: لا بدّ لك أن تقبل هذه الثلاثة: أن تعمل قاضياً للقضاة، أو تربّي وتعلم أولادي، أو تكون مشاوراً لي. فأبى شريك كل ذلك، وفكّر إن هو تعاون مع الخليفة، فسوف يسقط أولاً من رحمة اللّه عزّ وجلّ لما اشتهر عن الخلفاء العباسيين من الظلم وإراقة الدماء، ويسقط ثانياً من أعين الناس، ويفقد ذلك الإجلال والإكرام. ولذلك فقد رفض كل مطالب المهدي العباسي، إلّا أن الخليفة حاول كسبه بغير هذه الطريقة، فدعاه إلى مائدة طعام، وأمر الخدم بأن يحضروا كل ما لذّ وطاب، وكل ما يلفت النظر، ويدغدغ الشهوة. وفعلاً حضر شريك، وتفاجأ بالأمر، لأنه لم يذق هذه الأطعمة طيلة حياته، ولعله لم ير بعضها. فبدأ شريك يأكل بكل شهية، وانفتح على المائدة، فلما شاهده رئيس الخدم، وهو يأكل بهذه الطريقة، جاء إلى الخليفة وهمس في اُذنه قائلاً: إن شريكاً لم يردّ لك طلباً بعد الساعة. فلم يمض من الوقت كثيراً بعد وجبة الطعام الفاخرة، حتى قال شريك للخليفة: في الحقيقة إني فكرت في اختياركم لي منصب قاضي القضاة فرأيته في محله، لأن القضاة غالباً من يظلمون، ثم إن المظالم كثيرة، فلا بدّ أن يتصدى للأمر رجل عادل وشجاع، وكذلك فكرت في مسألة تربية أولادكم فرأيت الأمر أكثر أهمية، إذ أن تربيتهم على يد العلماء الزّهاد يضمن للأمة مستقبلها، وكذا فكرت في أمر اختياركم لي مشاوراً لكم فرأيت أنه أمر ضروري لأن رسول اللّه قال: «الدين النصيحة»(8)، ومشاورتكم لنا يضمن سلامة السلوك عند الخليفة، وبهذه التبريرات دخل شريك إلى جوف الدنيا، وجذبته زينتها وبروقها، وليس هذا فحسب وإنما صار عوناً من أعوان الظلمة وقيل سبب استجابته لتلك المطالب هو: تأثير لقمة الحرام مضافاً إلى ما ذكر.
ثم إن المهدي العباسي عيّن له ثلاثة رواتب، لكل عمل راتب خاص. وفي أحد الأيام حدثت بين شريك والمتصدي لتوزيع المال مجادلة بسبب تأخره عن دفع الرواتب لشريك، فقال له المتصدي للتوزيع: إنك يا شريك لم تبع لنا حنطة حمراء كي تصرّ وتلحّ علينا بالاسراع. فقال شريك: بل بعث لكم أكبر من ذلك... لقد بعت لكم ديني(9)! وبالفعل فلقد باع كل أيام الزهد والورع حين حضر تلك المائدة، ورضي بالعمل مع الخليفة، مع علمه بالظم، مما يدلل على أن زهادته وورعه وتقواه كلها كانت سطحيّة وقشرية، تميل أينما مالت مصالحه الشخصية. وهذا حال من لا يعرف الدين حق معرفته، فكثير من الناس تفهم الدين طقوساً لا أكثر... فهي لا تفهم أن الدين المعاملة، وأن الدين النصيحة، وأن الدين السلوك المتوازن، وأن الدين الإنسانية. فعبادة شريك كانت طقوساً بلا روح، وشكلاً بلا معنى أو مضمون.
كيف ينظر الإسلام إلى الدنيا
لا يخفى على كل إنسان ما أودعه اللّه عزّ وجلّ في هذه الدنيا من نِعَم ـ فضلاً عمّا أودعه في ذات الإنسان من نِعَم ـ وزينة لا تعد ولا تحصى، كما قال هو عزّ وجلّ: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ)(10)، من مأكول ومشروب ومركوب وملبوس وثروات هائلة...
فلا يعقل أن اللّه عزّ وجلّ خلق كل هذه النعم في هذه الدنيا، ثم يأمر الناس بالابتعاد عنها، أو أن الإسلام يطلب من المسلم أو من الإنسان أن يبتعد عن زينة الدنيا، فإذا كان ذلك فلمن جعلت هذه الزينة؟ ومن الذي سوف يتمتع بمتع الدنيا؟ وقطعاً إن وجودها ليس عبثاً فكيف يمكن التوفيق في ذلك؟
لا شك أن الدنيا ليست هي الغاية من الخلق، ولا هي المكان الختامي للإنسان، وإنما هي وسيلة وسبب موصل إلى عالم آخر، وهو المكان النهائي لاستقرار الإنسان، فكانت الجنة التي تمثل كمال الإنسان هي النهاية له، وعلى الإنسان أن يعمل في دنياه وصولاً إلى مقعده النهائي، ولكن المفارقة في الأمر أن الناس نوعان:
النوع الأول: هم أولئك الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وكان ظاهرها كباطنها بالنسبة إليهم، فعلموا ما بوسعهم في هذه الدنيا ضماناً لآخرتهم، ولم يخدعهم بريقها، لأنهم علموا أنها دار تبدل وتغير، ولا شيء ثابت فيها، فعزفوا عنها، لأنه عادة الإنسان إنه يحب الأمور المستقرة الثابتة، لا سيما مصالحه. فهؤلاء رأوا أن الآخرة هي المستقر الحقيقي، وأن الدنيا في معرض الزوال والفناء، ففضلوا الصبر على مكاره الدنيا من أجل الآخرة.
النوع الثاني: هم الناس الذين أدركوا حقيقة الدنيا والآخرة، ولكنهم فضلوا النعم الآنية، والمتع الدنيوية على نعيم الآخرة، فتعلّقوا بالمقدمات والأسباب على نحو الدوام. وهذا ناتج من أمرين: إما لجهلهم وغفلتهم وانغماسهم في الماديات، فعموا عن الرؤية الصحيحة والتفكير السليم، أو لأنهم يعلمون أن هذه الدنيا مقدمة وسبب ليس بدائم، وأن نعيمها زائل. ولكن حبهم للمادة وغلبة شهوتهم على عقلهم دعاهم لذلك. فالإسلام يرى أن الدنيا ونعيمها يجب أن يلاحظهما الإنسان من زوايتين:
الأولى: من حق كل إنسان أن يأخذ من هذه الدنيا ما يكفيه ويسدّ حاجته، وما يكمله ويقربه من ربه، من مأكل يتقوّى به على العبادة، والعمل وخدمة الناس، ومن ركب يقضي به حاجته، ومن مسكين يحفظ فيه نفسه.
الثانية: أن هذه النعم وهذه الدنيا كلها بمثابة الوسيلة والفرصة، التي يهددها الفناء، فيجب على الإنسان أن لا ينخدع بها فيتمسك بها، ويتعلق بها على نحو الدوام والتأبيد، لأنه سيفقد آخرته (الجنة) باعتبار أن الحصول على الجنة مرهون بالعمل الصالح والعبادات والطاعات، وبينما التعلق الدنيوي يحول دون ذلك. يقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة الدنيا: أنها «تغرّ وتضرّ وتمرّ، إن اللّه تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه، ولا عقاباً لأعدائه، وإن أهل الدنيا كركب بَيْناهم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا»(11)
الدنيا... وأهل البيت (عليهم السلام)
المعروف من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم أعرضوا عن كل ألوان الترف في هذه الدنيا، واختاروا جانب الزهد والبساطة في كل شيء... ولكنهم وضعوا أمراً شديد الأهمية، وهو الفكر الوقاد، فطرحوا الأفكار الإسلامية، بكل جلاء، ولم يتركوا أمراً إلّا قالوه، وتكلموا عنه، مما دعا الناس للالتفات حولهم باعتبارهم المنظّرين لنجاة البشرية جمعاء سلوكاً ونظراً، فوضعوا طرائق النجاة من غوائل هذه الدنيا وزخارفها، ورسموا طريق الوصول إلى اللّه عزّ وجلّ. وعظمة أهل البيت في هذا المجال (مجال انتشال البشرية) تظهر يوماً بعد يوم. ولذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها(12) عطف الضروس(13) على ولدها». ثم تلا قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ)(14)(15) وهذا واضح من خلال ما ثبت عند الفريقين حول خروج الإمام المهدي (عليه السلام)، من ولد فاطمة( عليها السلام)، وانقياد العالم له، وإقامة الحكومة الإسلامية العالمية. فكلما ابتعد الإنسان عن الدنيا انقادت له، وبالعكس كلما ركض المرء وراء المترفات الدنيوية ازداد ركضاً دون أن يشبع منها، ودون أن يحقق غايته منها. فأئمتنا (عليهم السلام) كانوا أبعد الناس عن الدنيا ولكن ذلك لم يزدهم إلّا علّواً وشرفاً ومكانة ومجداً. فهذه السيرة العطرة تكشف عن واقعية وحقيقة، لا يمكن لأحد أن يدعي خلافها، بل نحن نرى اليوم من شيوع الاتجاه المادي، المتعلق بكل ألوان المترفات الدنيوية، فكلما ازاد الناس تمسكاً بالدنيا وزخارفها ازدادت مشاكلهم، وقلّت مكانتهم، وهووا إلى الحضيض.
وبالعكس نشاهد المجتمعات المؤمنة، المحافظة على علاقتها مع اللّه، المتزنة في تعاملها مع الدنيا والماديات، كم هي ثرية بعلمها وأخلاقياتها ومكانة أفرادها وتقدم حضارتها... .
«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمة. تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة» بحقّ محمّد وآله الطاهرين(16).
من هدي السنّة المطهّرة
التواضع
قال تعالى: (... وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ)(17).
وقال سبحانه: (وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا...)(18).
وقال عزّ وجلّ: (وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ)(19).
الزهد
قال جلّ وعلا: (... لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ)(20).
وقال عزّ اسمه: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ)(21).
وقال جلّ شأنه: (لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ...)(22).
العمل للآخرة
قال عزّ من قائل: (وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)(23).
وقال جلّ ثناؤه: (وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ)(24).
وقال تعالى: (... وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ)(25).
وقال سبحانه: (وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ)(26).
لا للدنيا
قال عزّ وجلّ: (... وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ)(27).
وقال جلّ وعلا: (وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ...)(28).
وقال عزّ اسمه: (وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ)(29).
وقال جلّ شأنه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ)(30).
من هدي السنّة المطهّرة
التواضع
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآاله): «ما تواضع أحد إلّا رفعه اللّه»(31).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): «وأوصيك يا بني... والتواضع فإنه من أفضل العبادة»(32).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس ومرتبة رفيعة...»(33).
وقال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): «التواضع نعمة لا يُحسد عليها»(34).
الزهد
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآاله): «ما يعبد اللّه بشيء مثل الزهد في الدنيا»(35).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الزهد أصل الدين»(36).
وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): «... ومن زهد في الدنيا هانت عليه مصائبها ولم يكرهها»(37).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «الزهد مفتاح باب الآخرة، والبراءة من النار، وهو ترك كل شيء يشغلك عن اللّه تعالى، من غير تأسف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا غرض لها...»(38).
العمل للآخرة
قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآاله): «من أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل اللّه الغنى في قلبه وجمع له أمره ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه»(39).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «عجبت لمن عرف ربه كيف لا يسعى لدار البقاء»(40).
وقال (عليه السلام): «مَن جعل كل همّه لآخرته ظفر بالمأمول»(41).
وقال (عليه السلام): «من حرص على الآخرة ملك»(42).
لا للدنيا
قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآاله): «ومن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل اللّه الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له»(43).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أما بعد، فاني اُحذركم الدنيا، فانها... غرّارة ضرّارة، حائلة(44) زائلة، نافِدَة بائدة، أكّالة غَوّالة(45)»(46).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «في مناجاة موسى (عليه السلام): يا موسى إن الدنيا دار عقوبة، عاقبت فيها آدم عند خطيئته وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي...»(47).
وقال عيسى بن مريم‘: «يا بني آدم اهربوا من الدنيا إلى اللّه... هي الخدّاعة الفجّاعة، المغرور من اغتر بها، المفتون من اطمأنّ إليها، الهالك من أحبها وأرادها...»(48).
اضف تعليق