سبب تميز مرجعية الامام الراحل السيد محمد الشيرازي \"يمكننا أن نختصر هذه المميزات في التالي: أولا، الأصالة التي لا تنحبس في صومعة الماضي، وإنما التي تنطلق في رحاب قيم الإسلام، لكي تستغرق هذه القيم كل مجالات الحياة، ومنها استطاع الراحل، من خلال جهده وأبحاثه العلمية...
عندما سأل الباحث في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، الاستاذ محمد محفوظ، عن سبب تميز مرجعية الامام الراحل السيد محمد الشيرازي أجاب بانه "يمكننا أن نختصر هذه المميزات في التالي: أولا، الأصالة التي لا تنحبس في صومعة الماضي، وإنما التي تنطلق في رحاب قيم الإسلام، لكي تستغرق هذه القيم كل مجالات الحياة، ومنها استطاع الراحل، من خلال جهده وأبحاثه العلمية، أن يغطي مساحة هائلة من مجالات الحياة ليبين رأي الإسلام فيها، فكتب فقه القانون والإدارة والسياسة والاقتصاد والبيئة، وهي من المجالات المستجدة.
ثانيا، الواقعية، أي عدم الخضوع لمتطلبات الذات في العطاء الفكري، وإنما ملاحظة، متطلبات الساحة الإسلامية في عموم مناطق الوجود الإسلامي، فحينما كان المد الشيوعي مسيطرا في العراق، وكان الاتهام إلى الإسلام كونه لا يتعاطى الجانب السياسي، كتب الراحل حوارا عن تطبيق الإسلام.
ثالثا، الإيجابية والبناء، ففكر الراحل، لا يقوم على نفي الفكر المضاد، بل يؤسس للبديل الفكري أيضا، كما أنه لا يحارب الآخرين من خلال شعارات مطلقة جوفاء، وإنما يسعى لتأسيس حقائق اجتماعية وسياسية تعكس قيم الإسلام".
الإمام الشيرازي والتجديد
ولقد سعى الامام الشيرازي منذ أيام شبابه الى تشخيص مكامن الخلل والضعف وأسباب الانهزام والتراجع في الامة الإسلامية والبحث عن سبل معالجة هذه الأوضاع، بل ومحاولة تطبيق هذا العلاج على قدر استطاعته في العديد من الدول الإسلامية التي زارها او التي اقام فيها وحتى تلك الدول التي أرسل اليها من يمثله فيها، حيث ما زالت الالاف من المؤسسات (بمختلف تصنيفاتها) والحركات والمفكرين والمطبوعات وغيرها، والمنتشرة في مختلف بقاع الأرض تمارس ذات الدور الذي رسمه الامام الراحل لها على مستوى الحركة التجديدية في الامة الاسلامية والابداع في العطاء والتي لم يقتصر فيها دور المجدد الشيرازي الثاني على العطاء الخاص او المحدود في مجال يقتصر على الحوزة الدينية او العلوم الدينية او طلبة العلم فحسب، وانما توسع مداه ليشمل مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، خصوصاً تلك التي تلامس حياة الناس اليومية، ما جعل الطريق الذي انتهجه هو الأقرب للقلوب والاقصر لتحقيق النجاح الواقعي.
يقول الأستاذ عبد الله الفريجي ان الإمام الشيرازي "ادرك منذ فترة مبكرة من حياته إشكالية التجديد، وتجلت لديه على شكل شقين، الأول هو استعادة الأبعاد المهجورة للنص، والثاني هو ضرورة اكتساب الجواهر المتضمنة في متون الوحي لأشكال معاصرة في عين الحال التي تتم فيها المحافظة على جوهر الوحي، فالمطلع على حياة الإمام الشيرازي يرى استشعاره ومنذ فترة مبكرة خطورة التحولات الاجتماعية والاقتصادية السياسية التي حدثت أثناء الحرب العالمية الثانية، ونظر إلى هذه الفترة على أنها كانت آخر محطات الانسلاخ عن ملامح الحياة الإسلامية الموروثة، إذ صار التغريب يزحف بسرعة لم يسبق لها مثيل في المجتمع العراقي الذي كان ينظر إليه الإمام الشيرازي كدالة تعكس مستوى التحولات الآخذة في التسارع في العالم الإسلامي باعتباره مركزاً دينياً عالمياً".
"ولهذا فإن نزعة الإمام التجديدية تشكلت في هذه الفترة، وأمام مشهد التحولات المتسارعة التي كان العالم الإسلامي فيها هو الخاسر الأكبر، الأمر الذي دفع الكثير من المفكرين للخوض في هذا المضمار، وكان الإمام الشيرازي أحد أبرز أولئك الذين كانوا يتهيؤون لطرح أفكار تجديدية، نستطيع ونحن نقف على بعد مسافة أكثر من نصف قرن أن نلمح تراكمات الفكر الذي كونه الإمام منذ تلك اللحظات وحتى أوان رحيله في العام 2002، على شكل معالجات لكافة جوانب الواقع الاجتماعي، تاركاً لنا عشرات الكتب التي تتراوح بين المعالجات البسيطة والمعالجات الفقهية العلمية المعقدة التي يتم فيها استنباط الأحكام الخاصة بالقضايا المستجدة والمعاصرة، ففي ذلك كله يستند الإمام الشيرازي إلى المنهج المعروف في الحوزات العلمية أي منهج الاستنباط الفقهي المستخدم تاريخياً عند المجتهدين".
وأضاف الفريجي "يترتب على ما ذكرنا أن تكون لعملية التجديد الديني لدى الإمام الشيرازي ملامح خاصة تختلف عنها عند الآخرين، ويمكننا الإشارة إلى عدد من هذه الملامح كما يلي:
1- العقيدة.
2- العلاقة مع بقية المسلمين.
3- العلاقة مع غير المسلمين.
4- النظام السياسي.
5- النظام الداخلي للمؤسسة الدينية.
6- طبيعة الأحكام الفقهية.
هذه العناصر ليست هي كل ما يميز منهج الإمام الشيرازي بل إنها الملامح الأبرز لمنهجه، ففي كل مفردة من هذه المفردات تكمن أهمية التغييرات غير المحسوبة من خلال منهج ديني معترف به ورصين ومجدد".
كيف نعالج مشاكلنا؟
كانت للإمام نظرة ثاقبة وتفكير مستقبلي يختصر الزمان ويتجاوز الإطار المحدود للمشاكل التي تواجه الامة الإسلامية، وكان قلبه يعتصر من الألم للواقع المزري الذي عاشه المسلمون في أيام حياته، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية والاستعمار الذي احكم قبضته على اغلب الدول الإسلامية وشعوب العالم.
وقد حاول الامام الشيرازي استنهاض الامة الإسلامية عبر محاربة الجهل، وتنشيط العقل الذي به تحل مشاكل الامة، وقد ساق الكثير من الروايات التي تؤكد على هذا المسار في محاضراته، ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي، لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل)، وقول الإمام الصادق (عليه السلام): (دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف من نصحه ومن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات ووارداً على ما هو آت، يعرف ما هو فيه ولأي شيء هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل).
وقد لخص الامام الشيرازي هذه الازمة عبر مشكلتين هما:
الأولى: أزمة التخلف التي تمر بها شعوبنا الإسلامية.
الثانية: مشكلة وجود هؤلاء الحكام العملاء والدكتاتوريين.
وأوضح السيد الشيرازي انه "يمكن أن نعالج كلتا الحالتين معاً، وذلك عبر تثقيف الناس وبث الوعي العام بين صفوف الأمة الإسلامية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عبر تربية أفراد المجتمع الإسلامي وكوادرها على الإخلاص في العمل، وإشعارهم بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عواتقهم، ورويداً رويداً سوف تنتج لنا هذه الشعوب جيلاً يحمل الصفات الإنسانية الرفيعة، والمثل العليا، ويطبق القيم على أرض الواقع، فقد حثت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) على الإخلاص واعتبرته أفضل العبادة، روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (أفضل العبادة الإخلاص)".
كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (يقول الله: أنا خير شريك، ومن أشرك معي غيري في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً).
فيما يرى الامام المجدد ان "التثقيف وبث روح الوعي والمعرفة، فذلك يتم بأمور منها السعي وراء تأسيس المدارس والمعاهد العلمية والحوزوية، وإنشاء المكتبات العامة، وطباعة المزيد من الكتب والمجلات والجرائد الهادفة، كما نحتاج إلى زيادة عدد المبلغين ونشرهم في كل القرى والأرياف، وذلك في كل منطقة يتواجد فيها مسلم، كما نحتاج إلى تأسيس إذاعات مرئية وصوتية تبين أحكام الإسلام إلى جانب المبادئ الإسلامية والقيم العظيمة، وإرشاد الناس إلى مسألة الاكتفاء الذاتي، وشرح أبعاده وفوائده بصورة مبسطة، ولو بتشجيعهم على ترك الأمور الكمالية التي نحتاج بها إلى الغرب، ولو عمل المسلمون بهذه الخطوات لتقدموا إلى الأمام، مهما قلّت نسبة التقدم".
وناقش السيد الشيرازي اهمية برامج التنمية والاكتفاء الذاتي بالقول "بطبيعة الحال إن ما ذكرناه آنفاً في (كيفية علاج الوضع) يقف جنباً إلى جنب مع برامج التنمية والاكتفاء الذاتي، حيث هو جزء منها ولا يستهان به مطلقاً، إن الأصل هو إيجاد حالة الوعي الاقتصادي التي تفتقدها الأمة، ومن ثم محاولة البناء على هذه الأرضية الخصبة".
ولعل برامج الاكتفاء الذاتي تبدأ أولاً من خلق فرص العمل للمواطنين، وتسهيل أمور العمل وتوفير لوازمه، وفق الحريات الإسلامية الاقتصادية، بلا ضريبة ولا رسوم ولا ما أشبه، فيتم القضاء على حالة البطالة التي تهدم الأمة، وهذه البرامج هي من واجبات الدولة قبل الآخرين، وذلك عبر السعي في تشغيل أكبر قدر ممكن من الشعب، وفتح المعاهد والجامعات التي تهتم بتدريس وتخريج الكوادر الأساسية، التي يقع على عاتقها وضع البرامج للدولة والأمة. ثم محاولة إعطاء أكبر قدر ممكن من الحرية الفكرية لأبناء الشعب، لتحريضهم على الابداع، وتوفير المواد الأولية لذلك، لتتم مراحل الاكتشاف والاختراع والتقدم.
وحث على "وضع الأكفاء المؤهلين في مناصبهم الحقيقية التي بها يتمكنون من إظهار قدراتهم وطاقاتهم في سبيل بناء وخدمة الأمة الإسلامية، وعدم إهدار قوى المجتمع، وإحراق طاقاته، وذلك بجعل المهندس الكيميائي، مثلاً، معلماً في المدارس الابتدائية، وتنصيب المعلم رئيساً لنقابة المهندسين، بل لابد من توزيع الأدوار بصورة صحيحة وعادلة، ليكون الناتج مثمراً".
وتحدث عن تعزيز دور القطاع الخاص "ثم لابد من إعطاء فرص إنشاء شركات أهلية، تحاول أن تستفيد من المواد الأولية المحلية واستثمارها، وكذلك الشركات الحكومية بشرط عدم الإجحاف بالآخرين، من خلال استخراج المعادن واستكشاف موارد الثروات الطبيعة غير المكتشفة والمستغلة، وتنظيم أمور الناس وغيرها من البرامج، التي تصب في مجال التنمية والتقدم، والحث على الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي، وعندها سوف تصبح هذه البرامج تطبيقاً لقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واستغن عمن شئت تكن نظيره)".
مرجعية الإمام الشيرازي
يرى السيد ماجد السادة بان حركة اﻹمام الشيرازي العلمية والعملية "اتسمت بالمعاصرة والمواكبة للعصر وعلومه فكان الرائد في ادخال الكثير من العلوم الاجتماعية والانسانية في إطار البحث العلمي اﻹسلامي وذلك ضمن رؤية واستراتيجية قد تبناها في كل حركته التي بدأها وهو في منتصف عقده الرابع أي قبل أكثر من خمسين عاما، وتتلخص في أن اﻹسلام دين حضارة والحوزة ينبغي أن تكون الرائدة لنهضة اﻷمة الحضارية مما يتطلب منها ان تكون مواكبة ومعاصرة لكل تطورات الحياة وعلومها".
وقد حث ودعا الحوزات العلمية لمواكبة العصر في شتى المجالات وكافة المستويات سواء في نظامها التعليمي او وسائلها التعليمية او مناهجها وموادها التعليمية، وقد صرح بذلك في كتابه "نظام الحوزات العلمية" حين قال: "من الضروري تدريس علوم الدولة المرتبطة بإدارة المجتمع وهي علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع"، وقد أوضح أهمية ذلك حين قال في موضع آخر من الكتاب: "من الواجب على مؤسسة الحوزة أن تكون مستوعبة لكل العلوم لا خصوص الفقه والاصول او العبادات والمعاملات والحديث والاخلاق والتفسير، بمعنى ان تكون مستوعبة لأصول كل ما يحتاجه الانسان في دينه ودنياه".
فيما يعتبر مؤلف كتاب (مرجعية الإمام الشيرازي.. عمق التحولات وآثار النهضة) الأستاذ (محمد العليوات) ان مرجعية الامام الشيرازي قد أعطت الكثير في مجالات القيم والأفكار واسهمت بشكل مباشر في نهضة فكرية وإنسانية كبيرة من خلال التجديد والحركة والتحديث في إطار الامة الإسلامية، وقد أشار العليوات الى عدة نقاط مهمة يرى من خلالها المطلع على حقيقة هذه التحولات وأثرها في الامة:
1- تحديث المفاهيم: إذ أعطت مرجعيته تعريفاً جديداً للكثير من المفاهيم الدينية السائدة وذلك بإعادتها إلى جذورها الأصلية في قالب عصري، فالمسجد (مثلاً) لم يعد مكاناً للصلاة فحسب، بل مركزاً من مراكز النشاط والحركة والإشعاع، ورمزاً لقيادة الأمة.
2- تعبئة المجتمع تجاه مسؤولياته.
3- الحركة والانبعاث: فبعد أن كانت المنطقة تتفاعل مع الحوزة العلمية في النجف الأشرف، هاهي مرجعية كربلاء متمثلة في الإمام الشيرازي، تدخل على الخط؛ لتكون بمثابة الحجر الذي أُلقي في الماء ليحدث تموجات في مياه ساكنة. وكان ذلك مفيداً لمجتمع تنقصه الحركة والانبعاث، ليصوغ نفسه من جديد، ويعيد ترتيب قواه الاجتماعية، ويدفع بحركة مجتمعية شاملة إلى مديات قصوى ولأول مرة في تاريخه.
4- ثقافة تفجير الطاقات: لقد رفعت الثقافة الجديدة شعار: "أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"، وبفضل هذه الثقافة أصبحت المنطقة تنعم بنخبة من الكفاءات المتميزة في شتى المجالات الحضارية والقيادية.
5- الاهتمام بالعنصر النسائي.
6- مأسسة العمل الديني.
7- رفع مستوى الطموح والتطلع.
8- الثقافة للجميع: لقد كتبت المرجعية على سبيل المثال عشرات الكراسات البسيطة التي يفهمها الناس، ويتفاعلون معها، كما قام رموز الثقافة الجديدة بالعمل نفسه، وفي الماضي، كانت النخب وحدها تقرأ الكتاب، وتعرفه، وتتحدث عنه.
9- تدعيم القيم الروحية والمعنوية: فمثلاً، الدعاء المعروف بدعاء (كميل بن زياد)، أصبح الآن من الأدعية المقروءة بشكل جماعي في كل ليلة جمعة، ولم تكن المنطقة قد ألفت في السابق هذا النوع من الممارسات الجماعية.
10- التطوير الفكري والثقافي: في مجال: المنبر الحسيني، والكتابة والتأليف، والهيئات الدينية، والمحاضرات والندوات الثقافية (التي لم تعرفها المنطقة من قبل بشكلها الواسع) والاحتفالات والمهرجانات الدينية الجماهيرية.
اضف تعليق