يكتشف العلم في عضلة متوارية إمكانيات فسيولوجية كامنة لم تُعرَف من قبل.. ويبني على اكتشافه وسيلة طبيعية مذهلة البساطة هائلة المردود للوقاية من مهالك القعود الطويل أمام الشاشات الرقمية، وقد أجمعت آراء المختصين على أن وقت الشاشة الصحي خارج نشاطات العمل ينبغي أن يكون أقل من ساعتين في اليوم!...
بقلم د. محمد المخزنجي

بعد قرن من تداوله، صار مصطلح " وقت الشاشة" screen-time مقياسًا للساعات التي يقضيها الإنسان جالسًا أمام الشاشات الرقمية التي تكاثرت وتنوعت في أيامنا، خاصةً هذه المرتبطة بالإنترنت، ومن ثم بات المصطلح معيارًا للخطورة الصحية المترتبة على هذا القعود إن طال زمنه، وقد أجمعت آراء المختصين على أن "وقت الشاشة الصحي" خارج نشاطات العمل ينبغي أن يكون أقل من ساعتين في اليوم! لكن واقع الأمر يسخر بمرارة من هذا التقييد الزمني الذي بات شبهَ مستحيل، وهو ما تُفصح عنه أحدث إحصاءات "وقت الشاشات" هذا العام، وعلى مستوى العالم.

كأنها جائحة رقمية

وفقًا لموقعي "كومباريتك" و"داتاريبورتال"، يقضي الشخص العادي في جميع أنحاء العالم ما متوسطه 6 ساعات و57 دقيقة يوميًّا وهو جالس يحدق في الشاشات المرتبطة بالإنترنت، وهذا يعني أن إنسان أيامنا يقضي أكثر من نصف نهاره جالسًا! بينما التصميم الأساسي العظيم لتكويننا يقول إننا لم نُخلَق لنجلس معظم نهارنا، وبنظرة طبية تطورية فإنه ما من مخالفة لهذا التصميم إلا وتُفضي إلى المرض، ومن ثم بات حتميًّا أن تطلق الجهات الصحية إنذار: "البشرية في خطر"!

خطر يمثله هذا الأَسْر الشامل للبشرية أمام شاشات عصرنا الوامضة، بدءًا من معاناة العينين، التي صار لها مصطلح طبي هو "متلازمة الرؤية الحاسوبية"، أو "الإجهاد الرقمي للعين"، وبقربها الآثار النفسية والعصبية وحتى الاجتماعية، لكن الخطر الأكبر بحجم شموله العددي واتساعه الجغرافي هو ما يسمى "متلازمة الأيض" أو "متلازمة الاستقلاب" أو "متلازمة التمثيل الغذائي" metabolic syndrome.

حرق السعرات ومحرقة الشاشات

بإيجاز يُعرَّف التمثيل الغذائي بأنه: العملية الكيميائية الحيوية التي يحوِّل الجسم من خلالها الطعام والشراب إلى طاقة لتشغيل آليات الجسد التي تُبقيه على قيد الحياة، وترميم ما يتضرر من تكوينه، ودعم ما يتجدد، ومن ثم فإن أي اضطراب للتمثيل الغذائي في أجسامنا يهدد أداءنا لمهماتنا في الحياة، وبتفاقُمه يقصف هذه الحياة، ووفقًا لمعطيات "هوبكنزميدسن" هناك خمس حالات لاضطراب التمثيل الغذائي تمثل عوامل خطر من جرَّاء القعود الطويل وتُفضي إلى أمراض القلب والأوعية الدموية ومضاعفاتها التي تكاد لا تستثني جهازًا حيويًّا في أجسامنا إلَّا وأعطبته، وهذا الخماسي المشؤوم يتضمن: السمنة في منطقة البطن، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع نسبة السكر في الدم، وفي الدم أيضًا ترتفع الدهون الثلاثية، ويهبط الكوليسترول الحميد.

ويُلاحَظ أن عوامل الخطر الخمسة هذه وما ينجم عنها من عواقب مرضية لم تعد تستثني الأطفال ولا المراهقين الذين يمثلون شريحةً كبيرةً ممن يتابعون هذه الشاشات في وضع القعود المتيبس أو حتى الاضطجاع الخامل، وقد وثّْقت الأبحاث ارتباط هذه المتلازمة بزيادة "وقت الشاشات" بين الأطفال والمراهقين بنسبة 58٪، وبمعدل زيادة احتمال المتلازمة بنسبة 29٪ لكل ساعتين زائدتين من هذا الوقت يوميًّا، وبدهي أن كبار السن الذين لحقت قوافلهم بركب مستهلكي "وقت الشاشات" قعودًا هم فئة أيسر استهدافًا بمتلازمة اضطراب التمثيل الغذائي؛ لأن التمثيل الغذائي لديهم يبيت أكثر وهنًا مع التقدم في العمر، وتكون أذيته أوخم وأسرع قصفًا لما تبقى من أعمارهم، لأن ضَعفَه في شيخوختهم يتضاعف بإبطائه الذي يسببه بالجلوس!

رياضة الإنسان القاعد؟!

في مواجهة هذا الخطر المُهدِّد لحيوية "الإنسان القاعد" وحياته أمام الشاشات، راجت إعلانات تزعم تحويل النقمة المرضية لهذا القعود إلى نعمة صحية عنوانها "معدات التمرين تحت المكتب": مشَّايات متحركة مع العمل وقوفًا أمام مكتب مرتفع يحمل جهاز الكمبيوتر، وبدَّالات دراجات مصغَّرة تحت المكتب، وجميعها مُلحَق بعدادات رقمية تحسب السعرات التي يحرقها الجالس أمام الشاشة أو الواقف حيالها، عروض خلابة لكن ما من بحوث علمية رصينة وموثوقة تقطع بحجم العائد من هذه التمارين على هذه الأدوات! أما الذي لا شك فيه، ويمكن لمحه عبر فيديوهات هذه الرياضة الشاشوية، فهو العجز الواضح عن الثبات المطلوب للعمل بكفاءة على لوحات مفاتيح أو شاشات لمس الأجهزة الوامضة فوق المكتب، سواء من جلوس، أو من وقوف! وهو ما خَرج به كاتب هذه السطور بعد تجريب عملي وإمعان تأمُّلي، فأين النجاة؟!!

في "نعل تحت بطن العجل"؟!

بتاريخ 22 سبتمبر هذا العام، نشر موقع نيورو ساينس مقالًا عنوانه: "يمكن لعضلة "خاصة" أن تعزِّز حرق الجلوكوز والدهون لتنظيم التمثيل الغذائي لساعات في أثناء الجلوس"، وكان المقال عن بحث استغرق سنوات لفريق علمي من جامعة هيوستن، بقيادة مارك هاميلتون، أستاذ الصحة والأداء البشري بهذه الجامعة، وفي جولة سريعة عبر الإنترنت، تبين أن هناك عشرات المواقع العلمية والإعلامية تكتب وتتحدث عن هذا البحث بحماس مفهوم الدوافع، فهو يقدم لأكثر من خمسة بلايين إنسان مُهدَّدين بعواقب الجلوس الطويل أمام الشاشات، أملًا في النجاة من شر هذه العواقب، وبتمرين يسير لعضلة واحدة في رَبلة الساق في أثناء الجلوس لا يتطلب إلا تكرار رفع الكعب عن الأرض ثم تركه يعود تلقائيًّا إلى مكانه، وجاء هذا التمرين كخلاصة تطبيقية لمخرَجات البحث، وأطلق عليه مبتكروه رمز “SPU” اختصارًا لجملة soleus push up، أي "تمرين ضغط النعل"! فعضلة soleus التي كانت موضوع البحث، اشتُق اسمها من أصل لاتيني بمعنى "صندل" وتُعرَّب إلى "نعل"، وتقع في ربلة الساق calf وترجمتها "عِجل"، تحت عضلة أكبر هي gastrocnemius أي"بطن الساق"، فلو التمسنا ترجمةً لتحديد الموقع التشريحي لعضلة موضوعنا لقلنا إنها "النعل تحت بطن العِجل"!! ويبدو أن فريق هذا البحث وقد أذهلهم ما أظهره بحثهم من فرادة هذه العضلة استحسنوا وصفها بأنها "خاصة" أو فريدة special، وإن اضطروا إلى استخدام اسمها المَهين في ورقتهم البحثية، لأنه سائد ومستقر في مراجع علم التشريح، أما وأن هذا المقال مفتون بأعجوبة ما اكتشفه البحث في هذه العضلة، فإنه لن يشير إليها إلا بالاسم الذي تستحقه، وهو: "الفريدة".

قلبان في رِجلَينا

تنشأ هذه "الفريدة" برأسين متقاربين من قمة عظْمتي الساق خلف مفصل الركبة، ثم تهبط في خلفية الساق متوسعة رقيقة في شكل شبه بيضاوي -يوصف بأنه "ماسي"، خاصةً لدى الإناث- وعند منتصف الساق تتضاغط أليافها لتكوِّن وترًا قويًّا يتحد مع وتر عضلة بطن ساق فوقها، فيُكوِّنان معًا أغلظ أوتار عضلاتنا وأكثرها متانة: الوَتَر العَقِبِيّ calcaneal tendon أو العُرْقُوب، أو وتر أخيل أو Achilles tendon الذي يهبط منغرسًا في ظهر عظْمة الكعب، فإذا انقبضت هذه "الفريدة" ترفع الكعب ويهبط طرف القدم إلى أسفل، وإذ انبسطت يعود الكعب للهبوط، وهذا هو المشهور من وظيفتها الحركية التي تشارك عضلات أخرى في المشي والجري والرقص! كما أنها بانشدادها المرن تضغط على أوردة سيقاننا فتدفع بالدم غير المؤكسد -ضد قوة الجاذبية- إلى أعلى نحو القلب، لهذا توصف العضلتان "الفريدتان" في عمق رَبلتَينا بأنهما "القلبان الطرفيان في رِجلينا"، ولولاهما لركد هذا الدم في سيقاننا وتخثر ثم صعدت خثراته لتخنق رئاتنا أو قلوبنا أو الأدمغة! فأي فريدتين هما؟!

ليس اختراعًا بل اكتشاف خبيئة

إنه أمرٌ يكاد لا يُصدَّق، فتمرين ضغط هذه الفريدة SPU الذي يركز على تشغيل هذه العضلة وحدها في ساقينا، وفي أثناء الجلوس، وتبعًا للنص الكامل لورقة البحث الأصلية المنشورة في موقع "آي ساينس" في 16 سبتمبر الماضي، يكاد لا يتطلب أكثر مما يتطلبه جفن العين في الإغماض والتفتيح! وقد وصفت الورقة البحثية هذا التمرين في عنوانها بأنه "طريقة فسيولوجية فعالة لتعظيم واستدامة التمثيل الغذائي المؤكسِد لعضلة يُحسِّن تنظيم الجلوكوز والدهون"، فهذا العنوان ينفي أيَّ ادعاء لـ"اختراعٍ" ما، بل هو اكتشاف لما ظل كامنًا في تكويننا ولم يسبق التنبُّه إليه، ومن المفارقات أن هذا البحث بدأ مشروعه بدراسة فروق أداء هذه العضلة بين الذكور والإناث، للتوظيف المناسب لكل جنس في برامج اللياقة والصحة، وقد خضع للبحث خمسة وعشرون متطوعًا ومتطوعة في مختبر فائق التقدم مدجج بأجهزة الرسم الكهربي لعمل العضلات، والرصد بالأشعة التلفزيونية، والمتابعة بالرنين المغناطيسي، وأخذ خزعات من العضلة بإبر دقيقة لتحليل ما يستجد عبر تفعيلها في أوضاع مختلفة، خاصةً وضع الجلوس الذي سطع خلاله ما لم يكن معروفًا من فسيولوجية استثنائية لهذه "الفريدة"، وما أفضى إلى ابتكار تمرينها البسيط مدهش النتائج في أثناء الجلوس SPU، فكيف يؤدَّى؟

بساطة بالغة ونتائج مذهلة

لأداء تمرين SPU، ووفقًا لتوصيات مبتكريه، تُتبع هذه الخطوات:

1 ــ اجلس في استرخاء بحيث يكون مفصل الركبة مثنيًّا بزاوية قائمة والقدمان مبسوطتين على الأرض، بينما الزاوية بين مشط القدم وعظمة قصبة الساق قائمة أيضًا.

2 ــ ارفع الكعب (لكلتا القدمين) مع الحفاظ على أصابع القدم مثبتة على الأرض (هذه الحركة وتحت شروط الوضع السابق لا يكون مسؤولًا عن إحداثها إلا انقباض العضلة "الفريدة" وحدها؛ لأن باقي عضلات الساق تكون في حالة استرخاء).

3 ــ عندما يصل الكعبان إلى قمة نطاق حركتهما، اتركهما ليهبطا تلقائيًّا -دون بذل أي جهد- لملامسة الأرض من جديد.

4 ــ كرر التمرين.

واضح أنها خطوات بالغة البساطة يسيرة الجهد، لكن تحديدها لم يكن يسيرًا إلا بعد تجريب طويل للتوصُّل إلى الوضع الذي يجعل الخلايا العصبية الحركية تُنشّط العضلة "الفريدة" وحدها، ومن ثم تكشف عما تكتنزه -منفردة- من قدرات استثنائية تثير غاية الدهشة، فوفقًا للبحث:

* بينما تُسهم العضلات الـ600 في جهازنا العضلي، كلها مجتمعة، بحوالي 15٪ فقط من التمثيل الغذائي التأكسدي لكامل الجسم في غضون ثلاث ساعات بعد تناول الكربوهيدرات، فإن "الفريدة" -وهي 1٪ فقط من وزن الجسم- قادرة على رفع معدل التمثيل الغذائي التأكسدي للكربوهيدات في أثناء انقباضات هذا التمرين بمقدار الضعف، وحتى ثلاثة أضعاف، ولمجمل الجسد!

* برغم عدم تجاوُزها 1% من وزن الجسم، إلا أنه عندما يجري تنشيطها عبر تمرين SPU تُحسِّن صحة التمثيل الغذائي في بقية الجسم ولساعات عديدة، ما يؤدي إلى تقليل تراكُم الدهون الضارة وزيادة الجيدة وتخفيض سكر الدم مع تقليل الاحتياج إلى الإنسولين.

* تنظم جلوكوز الدم بما يفوق التمارين الرياضية كثيفة الجهد، ونُظم إنقاص الوزن، وأسلوب الصوم المتقطع.

* تتجاوز حدود تحسين التمثيل الغذائي الموضعي لها، وتمده ليشمل الجسم بالكامل، وهو ما عكسه تحسُّن ظهور الجلوكوز في الدم بنسبة 52٪ على مدى ثلاث ساعات بعد تناول مشروب الجلوكوز.

* قللت متطلبات الإنسولين بنسبة 60٪، وضاعفت معدل التمثيل الغذائي للدهون في فترة الصيام بين الوجبات، مما قلل مستويات الدهون الضارة في الدم.

* في حين أن تمرين SPU يبدو مثل المشي الذي صُمِّمت أجسادنا لجعله يستخدم أقل كمية من الطاقة؛ لكونه النشاط الحركي الأكبر لأجسامنا وعلى امتداد العمر، إلا أنه ثبت استخدامه أكبر قدر ممكن من الطاقة ولفترة طويلة برغم أنه من جلوس، وهذا اكتشاف فسيولوجي غير مسبوق لعضلة واحدة ليست كبيرة، تستطيع عند تنشيطها بهذا التمرين البسيط أن تحرق سعرات وفيرة، فتقلل من تراكم السكر والدهون الضارة في الدم، الذي ينتج عن إبطاء وتوهين التمثيل الغذائي من جرَّاء الجلوس لفترات طويلة.

نتائج واعدة بأن هذا التمرين البسيط يمكن أن يكون وسيلةً منقذة لتنحية الآثار الصحية السلبية للقعود الطويل أمام الشاشات أو تقليلها، ومن ثم تبعد الإصابة باضطرابات التمثيل الغذائي أو تخفف مخاطرها، خاصةً مزيجها السام الذي تتضمنه "متلازمة التمثيل الغذائي" المُفضية إلى أمراض القلب والشرايين ومرض السكري من النوع الثاني، وما يستتبعها من نوبات قلبية وسكتات دماغية، تنتهي بالموت، أو ما هو أسوأ من الموت: "العته" Dementia المشتق اسمه من لفظة لاتينية تعني "فقدان العقل" أو "الجنون"، بينما هذا المصير لا يحتمل هذه الفظاظة الواصِمة، فهو تراجيديا مفعمة بالشجن، لا تنال من المريض وحده، بل تنال من محبيه الذين قُدِّر عليهم أن يعتنوا به في كل شؤونه بينما هو تائه عن نفسه وعنهم، وقد يكون أرفق وأليق أن نمنح هذا المصير الإنساني الأليم اسم "التيه"، فهل يُسهم "تمرين ضغط الفريدة" الهين هذا في إبعاد شبح هذه التراجيديا وغيرها، خاصةً عن مئات الملايين من كبار السن الذين لحقوا بعصر القعود أمام الشاشات؟ النتائج المفاجئة تهمس واعدةً: ممكن!

مارك هاميلتون، أستاذ الصحة والأداء البشري في جامعة هيوستن، يشرف على أداء تمرين تلك العضلة الواقعة في رَبلة الساق في أثناء الجلوس، والذى لا يتطلب إلا تكرار رفع الكعب عن الأرض ثم تركه يعود تلقائيًّا إلى مكانه مرة أخرى Credit: University of Houston

حتى الباحثين تذهلهم نتائج بحثهم

وعن مفاجأة هذه النتائج يعلق مارك هاميلتون -المحرر الرئيس للدراسة- قائلًا: "لم نحلم قَط بأن تتمتع هذه العضلة بهذا النوع من القدرات، لقد كانت داخل أجسادنا طوال الوقت، ولم يفكر أحد من قبل في كيفية استخدامها لتحسين صحتنا، إنها حركة محددة جدًّا تتطلب في الوقت الحالي تقنيةً وخبرة، لكن يمكن امتلاكها لتحسين صحتنا، فالاكتشاف يمكن أن يكون حلًّا لمجموعة متنوعة من المشكلات الصحية الناجمة عن قضاء ساعات كل يوم في العيش مع تمثيل غذائي منخفض للغاية (نتيجة الجلوس) نموذجه أن المواطن الأمريكي العادي يجلس حوالي 10 ساعات في اليوم، وبغض النظر عن مستوى النشاط البدني للشخص، ثبت أن الجلوس المفرط يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري والخرف وغير ذلك، ويعاني أكثر من نصف البالغين الأمريكيين، و80٪ من الأشخاص فوق 65 عامًا، من مشكلات التمثيل الغذائي التي تسبب إما مرض السكري أو مقدمات السكري"، ويضيف: "إننا لا نعرف أي أدوية حالية أو واعدة تقترب من زيادة التمثيل الغذائي المؤكسد لكامل الجسم والحفاظ عليه بهذا الحجم، فتمرين SPU يبدو بسيطًا من الخارج، لكن في بعض الأحيان يكون ما نراه بالعين المجردة ليس كامل القصة".

الإمساك بسر الأعجوبة

نعم نحن لا نعرف كامل القصة، كما يقول "هاميلتون"، لكن يمكننا -من قراءة البحث ومحور تصريحات القائمين عليه- أن نمسك بجوهرها المتمثل في التركيز على نتائج "التمثيل الغذائي التأكسدي" الذي تتفوق فيه العضلة الفريدة في أثناء الجلوس، وهذا النوع من التمثيل الغذائي هو أحد مسارين تمضي فيهما تلك العملية، ويحمل أسماءً أخرى، هي التمثيل الهوائي، أو تنفس الخلية، أما المسار الثاني فهو التمثيل الغذائي اللاهوائي الذي يحدث في غيبة الأكسجين، وكلا المسارين تستخدمه أجسامنا، وكلاهما ينتهي إلى إنتاج وحدات الوقود الذي تستخدمه خلايانا في صورة الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP)، لكن ثمة فروقًا كبيرةً بينهما، يمكن تلخيصها في:

* التمثيل الغذائي الهوائي يُنتج وحدات الطاقة من الكربوهيدرات والأحماض الأمينية (اللبنات الأساسية للبروتين) والدهون، بينما ينتجها اللاهوائي من الجلوكوز والجليكوجين (الجزيئات المركبة من الجلوكوز) فقط.

* التمثيل الغذائي الهوائي ينتج أكثر من 35 جزيئة ATP من كل جزيئة جلوكوز، أما اللاهوائي فلا ينتج غير جزيئة واحدة ATP من كل جزيئة جلوكوز.

* التمثيل الغذائي الهوائي لا يترك وراءه مخلفات إلا الماء وثاني أكسيد الكربون فيسهل التخلص منهما عبر الزفير والعرق والبول، أما اللاهوائي فيُخلِّف حمض اللاكتيك الذي يتراكم في العضلات فيعوق حركتها نتيجة ما يسببه من ألم.

* التمثيل الغذائي الهوائي تعتمد عليه أكثر الألياف العضلية بطيئة الانتفاض (وهو نوع ألياف عضلتنا الفريدة وكذلك عضلات أسفل الظهر الحافظة لانتصاب العمود الفقري)، لهذا تولِّد طاقة معقولة لفترات طويلة دون تعب، أما اللاهوائي فتُكثِر اللجوء إليه الألياف العضلية سريعة الانتفاض، مما يفسر سرعة تعبها، وإن كانت تولِّد طاقةً عاليةً لفترة قصيرة، ومثالها عضلات اليدين.

* التمثيل الغذائي الهوائي يتوافق مع ممارسة التمارين الهوائية (كتمرين ضغط الفريدة SPU والمشي، واليوجا، والتاي تشي)، التي لا تتطلب تسريع ضربات القلب بأكثر من 85٪ من الحد الأقصى لمُعدّلها، على غير ما تتطلبه التمارين اللاهوائية (كرفع الأثقال وتمارين القوة)، فهي تُسرِّع ضربات القلب بأكثر من حدها الأقصى.

أفلا يكفي كل ما سبق لتصديق أن ثمة أعجوبة عالية الاحتمال في تلك البساطة لتمرين عضلتنا "الفريدة"؟

انتشار واسع وتحفظات بازغة

الآن، وبعد شهرين وبضعة أيام من نشر البحث، تحول تمرين ضغط الفريدة SPU إلى حديث عشرات المواقع العلمية والإعلامية، وصار "تريند" على منصة TikTok، لكنه لفرط بساطته وغامِر وعوده، بدأ يُجابَه ببعض التحفظات، إذ بدا للبعض -من مجال الطب الرياضي خصوصًا- أنه يُقدَّم كـ"حبة سحرية" تغني عن كل تمارين اللياقة وتُبعد كل مخاطر خمول الحركة، وهو ما تحسَّب له الباحثون مكتشفو التمرين، فبكَّروا بالإشارة إلى أنه "ليس وسيلة لياقة جديدة أو نظامًا غذائيًّا جديدًا، بل حركة فسيولوجية قوية تستفيد من الميزات الفريدة لعضلة البحث".

وفي تحفظ أكثر عمقًا، أشار البعض إلى أن نتائج البحث "الدراماتيكية" كانت حصيلة أداء المتطوع أو المتطوعة للتمرين لمدة 270 دقيقة في اليوم (أي 4.5 ساعات!)، وهذا بالطبع كثير، لكن مَن قدموا هذا التحفظ لم يتنبهوا إلى أن أداء التمرين لكل هذا الوقت -وفقًا لورقة البحث- كان "تراكميًّا"، أي في فترات منفصلة على مدار اليوم، وهو ما يوحي بأن هذا التمرين ببساطته المفرطة ونتائجه الواعدة يمكن أن يُستخدم كلما أتيح الوقت والمكان لأدائه، في وسائل المواصلات، خاصةً في أثناء الرحلات الطويلة، وعند مشاهدة التلفزيون، وفي صالات الانتظار، وغيرها مما نطيل فيه الجلوس.

كما أنه لبساطته ويسره يمكن أن يدخل في البروتوكولات العلاجية والتأهيلية والوقائية لمَن يعانون محدودية الحركة بسبب المرض، أو في أعقاب الجراحات الكبيرة أو وهن الشيخوخة الطبيعي، ولأنه تمرين حركة، فإن مردوده لا يتوقف عند حدود تحفيز التمثيل الغذائي التأكسدي، بل يضيف تنشيط الدورة الدموية ومنع الجلطات الوريدية العميقة DVT في الساقين عند المعرَّضين لها.

حدود العلم وآفاق المَجاز

ليس أخيرًا، وبالنسبة لكاتب هذه السطور، وهو ضمن ثلثي البشرية المتجاوزين -اضطرارًا وبحكم الكتابة وما يلزمها- لمقنَّن الساعتين يوميًّا كحدٍّ صحي للجلوس أمام الشاشة، إضافةً إلى عبوره السبعين من العمر، فإن هذا "الاختراق" البحثي الذي أدى إلى اكتشاف تمرين SPU لا يمثل لديه مجرد اقتراح يسير المنال لموازنة مخاطر القعود الطويل أمام الشاشة، بل يحيله إلى ما ظل يلمحه دائمًا في العلم، كواقع ملموس يوحي بما هو غير ملموس، كالمجاز الأدبي، وعظمة التصميم والمصمم، وسحر الواقع، في كل ما نكتشفه فينا وفي الوجود من حولنا، موقف يحملنا على التهيؤ لتوقع القدرات الكامنة في هذا كله، وبهذا كنت مهيأً للاحتفاء بهذا البحث وتبنِّي هذا التمرين، خاصةً وجعبة العلم نفسها تصادق على احتمال الأعجوبة في هذه العضلة، فهي من زاوية فسيولوجية تتميز بتكوين خِلقي يجعلها قادرةً على أن تتفوق في المتفوق، أي التمثيل الغذائي التأكسدي باهر المردود، فهي عضلة قانية الحمرة نتيجة ترويتها الغامرة بالدم المؤكسد، وأليافها طويلة متمهلة الانتفاض فهي لا تتعب بسرعة، ثم إن خلاياها شديدة الثراء بمولدات الطاقة "الميتوكوندريا" التي ورثناها حصريًّا عن أمهاتنا، وبها يتم التمثيل الغذائي التأكسدي هائل المردود، مقارنةً بنظيره اللاتأكسدي أو اللاهوائي محدود العطاء، والذي يهيم في مسبح السائل الخلوي"السيتوبلازم"!

أمرٌ آخر يدعم هذا كله، من زاوية طبية أنثروبولوجية، ظلت في جنسنا من بني "الإنسان العاقل"، وعلى امتداد ثلاثمئة ألف عام، تحمينا من الانكفاء على وجوهنا عند وقوفنا على قدمين لنسعى في الأرض، فهي -على رقتها وتورُّدها- عضلة بالغة قوة الشد في مواجهة الجاذبية الأرضية العاتية، لهذا أصدق أعجوبتها، بل أمد الأعجوبة نحو مجاز الاحتمال، بأنها -بمثال هذا البحث- إنما تتقدم بقدَر، وعلى ميعاد، لتحمي قليلًا، وتنبه كثيرًا "إنساننا العاقل" ألا يترك نفسه ينكفئ على وجهه -من قعود هذه المرة- فيغرق في إدمان الرقميات التي أبدعها عقله الحديث شديد الذكاء، طائش الحكمة، ولأني من بني هذا الإنسان، ودون أن أتخلى عن متعة المشي التي هي إحدى هبات التصميم الأساسي لهذه العضلة "الفريدة"، أجدني عندما أجلس أمام شاشة الكمبيوتر، أؤدي تمرين SPU لاعبًا بكعبيَّ تحت المكتب كلما لسعني الخاطر: رفع- خفض، رفع- خفض، رفع- خفض، فارفعوا كعوبكم!

اضف تعليق


التعليقات

محمد يوسف السيد
مصر
يظل السؤال المهم، ما المدة المناسبة لهذا التمرين يوميا؟2023-01-21