ملازمة التفكر في أحوال القيامة، وأصناف العذاب في الآخرة، واستماع المواعظ المنذرة، والنظر إلى الخائفين ومجالستهم، ومشاهدة أحوالهم واستماع حكاياتهم. وهذا مما يستجلب الخوف من عذابه تعالى، وهو خوف عموم الخلق، وهو يحصل بمجرد أصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزأين على الطاعة والمعصية، وإنما يضعف للغفلة...
الخوف المحمود وهو الذي يكون من الله ومن عظمته ومن خطأ العبد وجنايته، وهو من فضائل القوة الغضبية، إذ العاقلة تأمر به وتحسنه، فهو حاصل من انقيادها لها.
لتحصيل الخوف الممدوح وجلبه طرق:
(الأول) أن يجتهد في تحصيل اليقين: أي قوة الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجنة، والنار، والحساب، والعقاب. ولا ريب في كونه مهيجا للخوف من النار والرجاء للجنة. ثم الخوف والرجاء يؤديان إلى الصبر على المكاره والمشاق، وهو إلى المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر فيه على الدوام، ويقوي دوام الذكر على الأنس، ودوام الفكر على كمال المعرفة، ويؤدي الأنس وكمال المعرفة إلى المحبة، ويتبعها الرضا والتوكل وسائر المقامات.
وهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين، فليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء، ولا بعدها مقام سوى الصبر، ولا بعده سوى المجاهدة والتجرد لله ظاهرا وباطنا، ولا بعده سوى الهداية والمعرفة، ولا بعدهما سوى الأنس والمحبة. ومن ضرورة المحبة الرضا يفعل المحبوب والثقة بعنايته، وهو التوكل. فاليقين هو سبب الخوف، فيجب تحصيل السبب ليؤدي إلى المسبب.
(الثاني) ملازمة التفكر في أحوال القيامة، وأصناف العذاب في الآخرة، واستماع المواعظ المنذرة، والنظر إلى الخائفين ومجالستهم، ومشاهدة أحوالهم واستماع حكاياتهم. وهذا مما يستجلب الخوف من عذابه تعالى، وهو خوف عموم الخلق، وهو يحصل بمجرد أصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزأين على الطاعة والمعصية، وإنما يضعف للغفلة أو ضعف الإيمان، وتزول الغفلة والضعف بما ذكر، وأما الخوف من الله بأن يخاف البعد والحجاب ويرجو القرب والوصال، وهو خوف أرباب القلوب، العارفين من صفاته ما يقتضي الخوف والهيبة، المطلعين على سر قوله: (ويحذركم الله نفسه) آل عمران 28. وقوله: (اتقوا الله حق تقاته) آل عمران 102.
فالعلاج في تحصيله الارتقاء إلى ذروة المعرفة، إذ هذا الخوف ثمرة المعرفة بالله وبصفات جلاله وجماله، ومن لم يمكنه ذلك فلا يترك سماع الأخبار والآثار وملاحظة أحوال الخائفين من هيبته وجلاله، كالأنبياء والأول وزمرة العرفاء، فإنه لا يخلو عن تأثير.
(الثالث) أن يتأمل في أن الوقوف على كنه صفات الله في حيز المحال، وإن الإحاطة بكنه الأمور ليس في مقدرة البشر، إذ هي مرتبطة بالمشية ارتباطا يخرج عن حد المعقول والمألوف. ومن عرف ذلك على التحقيق يعلم إن الحكم على أمر من الأمور الآتية غير ممكن بالحدس والقياس، فضلا عن القطع والتحقيق، وحينئذ يعظم خوفه ويشتد ألمه، وإن كانت الخيرات كلها له ميسرة ونفسها عن الدنيا بالمرة منقطعة، وإلى الله بشراشرها ملتفتة، إذ خطر الخاتمة وعسر الثبات على الحق مما لا يمكن دفعه، وكيف يحصل الاطمئنان من تغير الحال، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإنه أشد تقلبا من القدر في غليانها، وقد قال مقلب القلوب: (إن عذاب ربهم غير مأمون) المعارج 28. فأنى للناس أن يطمئنوا وهو يناديهم بالتحذر.
اضف تعليق