عدم المؤاخذة والمعصية على ما لا يدخل تحت الاختيار من الخواطر والميل وهيجان الرغبة، إذ النهي عنها مع عدم كونها اختيارية تكليف بما لا تطاق، وإن لم ينفك عن إحداث خباثة في النفس. وأما على أنه يكتب سيئة على الاعتقاد والهم بالفعل والتصميم عليه مع تركه...

قد عرفت أن الوساوس بأقسامها مشتركة في إحداث ظلمة وكدرة في النفس، إلا أن مجرد الخواطر -أي (حديث النفس) وما يتولد عنه بلا اختيار كالميل وهيجان الرغبة- لا مؤاخذة عليهما، ولا يكتب بهما معصية، لعدم دخولهما تحت الاختيار، فالمؤاخذة عليهما ظلم، والنهي عنهما تكليف بما لا يطاق، والاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي بأنه يفعل هذا فيؤاخذ به، لكونه اختياريا. 

وكذا الهم بالفعل والعزم عليه، إلا أنه إن يفعل مع الهم خوفا من الله وندم عنه كتبت له حسنة، وإن لم يفعل لمانع منه لا لخوف الله سبحانه كتبت عليه سيئة. والدليل على هذا التفصيل: أما على عدم المؤاخذة على مجرد الخاطر فما روي في الكافي: (إنه جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله هلكت، فقال له هل أتاك الخبيث فقال لك من خلقك؟ فقلت: الله تعالى، فقال لك: الله من خلقه؟ فقال له: أي والذي بعثك بالحق لكان كذا. فقال رسول الله (ص): ذاك والله محض الإيمان).

 ومثله ما روي: (إن رجلا أتى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله! نافقت، فقال: والله ما نافقت! ولو نافقت ما أتيتني تعلمني، ما الذي رابك؟ أظن أن العدو الحاضر أتاك، فقال: من خلقك؟ فقلت: الله تعالى خلقني، فقال لك: من خلق الله؟ فقال: أي والذي بعثك بالحق لكان كذا، فقال: إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده). 

وقريب منه ما روي: (إن رجلا كتب إلى أبي جعفر (ع) يشكو إليه لمما يخطر على باله، فأجابه في بعض كلامه: إن الله إن شاء ثبتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقا. قد شكى قوم النبي (ص) لمما يعرض لهم لإن تهوي بهم الريح أو يقطعوا أحب إليهم من أن يتكلموا به، فقال رسول الله: أتجدون ذلك؟ قالوا: نعم! قال: والذي نفسي بيده إن ذلك لصريح الإيمان، فإذا وجدتموه فقولوا: آمنا بالله ورسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله).

 (وسئل الصادق (ع) عن الوسوسة وإن كثرت، فقال: لا شيء فيها، تقول لا إله إلا الله ). (وعن جميل بن دراج قال: قلت للصادق (ع): إنه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: قل لا إله إلا الله، قال جميل: فكلما وقع في قلبي قلت: لا إله إلا الله، فيذهب عني). ومما يدل على عدم المؤاخذة عليه وعلى الميل وهيجان الرغبة إذا لم يكونا داخلين تحت الاختيار ما روي: إنه لما نزل قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) البقرة 284، جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله (ص) وقالوا: كلفنا ما لا نطيق، إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يجب أن يثبت في قلبه، ثم يحاسب بذلك؟ فقال رسول الله (ص): لعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فأنزل الله الفرج بعد سنة بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسها إلا وسعها) البقرة 286.

وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله سبحانه: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله: إن هذه الآية عرضت على الأنبياء والأمم السابقة فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله (ص) وعرضها على أمته فقبلوها. فلما رأى الله عز وجل منهم القبول على أنهم لا يطيقونها، قال: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم السابقة فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمتك، فحق على أن أرفعها عن أمتك، وقال عز من قائل: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. 

وما روي عن النبي (ص) أنه قال: (وضع على أمتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمونه، وما لا يطيقونه، وما اضطروا عليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد). وما روي أنه سئل الصادق (ع) عن رجل يجيئ منه الشيء على حد الغضب يؤاخذه الله تعالى؟ فقال (ع): إن الله تعالى أكرم من أن يستغلق على عبده، والمراد من الغضب فيه: الغضب الذي سلب الاختيار.

 وبالجملة: القطع حاصل بعدم المؤاخذة والمعصية على ما لا يدخل تحت الاختيار من الخواطر والميل وهيجان الرغبة، إذ النهي عنها مع عدم كونها اختيارية تكليف بما لا تطاق، وإن لم ينفك عن إحداث خباثة في النفس. وأما (1) على أنه يكتب سيئة على الاعتقاد والهم بالفعل والتصميم عليه مع تركه لمانع لا لخوف من الله، فهو إن كلا من الاعتقاد والهم بالمعصية فعل من الأفعال الاختيارية للقلب، وقد ثبت في الشريعة ترتب الثواب والعقاب على فعل القلب إذا كان اختياريا، قال الله سبحانه: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) بني إسرائيل 38. وقال سبحانه: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة 225.

 وقال رسول الله (ص): (إنما يحشر الناس على نياتهم). وقال (ص): (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتل صاحبه). وقال (ص): (لكل امرئ ما نوى). والآثار الواردة في ترتب العقاب على الهم بالمعصية كثيرة، وإطلاقها محمول على غير صورة الترك خوفا من الله لما يأتي من أنه في هذه الصورة تكتب بها حسنة، وكيف لا يؤاخذ على أعمال القلوب مع أن المؤاخذة على الملكات الردية من الكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وغيرها قطعي الثبوت من الشرع، مع كونها أفعالا قلبية، وقد ثبت في الشريعة أن من وطأ امرأة ظانا أنها أجنبية كان عاصيا وإن كانت زوجته. 

وأما على أنه يكتب حسنة على الترك بعد الهم خوفا من الله، فما روي عن النبي (ص) أنه قال: (قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر، فقال: راقبوه فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها لأجلي). وما روي عن الإمام محمد ابن علي الباقر (ع): (إن الله تعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة وعملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة، ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة)، وقوله: لم يكتب عليه محمول على صورة عدم العمل خوفا من الله، لما تقدم من أنه إن لم يعملها لمانع غير خوف الله كتبت عليه سيئة. وما روي عن الصادق (ع) أنه قال: (ما من مؤمن إلا وله ذنب يهجره زمانا ثم يلم به وذلك قوله تعالى: إلا اللمم. وقال: واللمم: الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه)، وقد وردت بهذا المضمون أخبار أخر.

الخاطر المحمود والتفكر 

قد عرفت أن ضد الوسوسة الخاطر المحمود المستحسن شرعا وعقلا، لأن القلب إذا كان مشغولا بشيء لا يمكن أن يشغله شيء آخر، فإذا كان مشغولا بشيء من الخواطر المحمودة لا سبيل للخواطر المذمومة إليه، وربما كان للغفلة التي هي ضد النية تقابل لكل من الوسوسة والخاطر المحمود، إذ عند الغفلة لا يتحقق شيء منهما، إلا أن خلو القلب عن كل نية وخاطر بحيث يكون ساذجا في غاية الندرة، على أن الظاهر أن مرادهم من الغفلة خلو الذهن من القصد الباعث وإن كان مشغولا بالوساوس الباطلة، كما يأتي تحقيقه.

 ثم الخاطر المحمود إن كان قصدا ونية لفعل جميل معين كان متعلقا بالقوة التي يتعلق هذا الفعل بها، وإلا كان راجعا إما إلى الذكر القلبي أو إلى التدبر في العلوم والمعارف والتفكر في عجائب صنع الله وغرائب عظمته، أو إلى التدبر الإجمالي الكلي فيما يقرب العبد إلى الله سبحانه أو ما يبعده عنه تعالى، وليس وراء ذلك خاطر محمود متعلق بالدين أو غير ذلك من الخواطر المذمومة المتعلقة بالدنيا.

 وإذا عرفت ذلك فاعلم أنه من معالجات مرض الوسواس معرفة شرافة ضده الذي هو الخاطر المحمود، ليبعثه على المواظبة عليه الموجبة لدفع الوساوس. وفضيلة الخواطر المحمودة الباعثة عن الأفعال الجميلة يأتي ذكرها في باب النية، وربما يعلم من بيان فضيلة نفس هذه الأفعال أيضا كما يأتي ذكرها في باب النية، وفضيلة الذكر القلبي يعلم في باب مطلق الذكر. 

أما بيان شرافة التفكر وبعض مجاريه من أفعال الله تعالى والإشارة إلى كيفية التفكر فيها وفيما يقرب العبد إلى الله تعالى وفيما يبعده عنه، فلنشر إلى مجمل منه هنا لتعلقه بالقوة النظرية، فنقول: التفكر: هو سير الباطن من المبادئ إلى المقاصد، والمبادئ: هي آيات الآفاق والأنفس، والمقصد: هو الوصول إلى معرفة موجدها ومبدعها والعلم بقدرته القاهرة وعظمته الباهرة، ولا يمكن لأحد أن يترقى من حضيض النقصان إلى أوج الكمال إلا بهذا السير، وهو مفتاح الأسرار ومشكاة الأنوار، ومنشأة الاعتبار ومبدأ الاستبصار، وشبكة المعارف الحقيقية ومصيدة الحقائق اليقينية، وهو أجنحة النفس للطيران إلى وكرها القدسي، ومطية الروح للمسافرة إلى وطنها الأصلي، وبه تنكشف ظلمة الجهل وأستاره وتنجلي أنوار العلم وأسراره، ولذا ورد عليه الحث والمدح في الآيات والأخبار كقوله سبحانه: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) (64) الروم 8. وقوله تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) الأعراف 185. وقوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) الحشر 2. وقوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) العنكبوت 25.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

............................

(1) أي وأما الدليل على أنه يكتب سيئة. 

اضف تعليق