وحيث إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان مختاراً، فالحكمة تقتضي أن يكون أمامه سبيل الخير والشر، ولو كان سبيل الشر مغلقاً لما كان للاختيار معنى، فلو كان هناك شخص محبوس في غرفة، وفي الوقت نفسه يقال له: أنت حر ولك أن تختار السفر إلى أيّ مكان...

قال اللّه سبحانه: {وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ}(1).

لقد اقتضت حكمة الباري سبحانه وتعالى أن يخلق الإنسان مختاراً، وقد بيّنت الروايات الشريفة هذه المسألة بشكل مفصل(2)، بينما نجد البعض يقولون بالجبر، وأن اللّه سبحانه وتعالى هو مَن أجبره، ويستدلون بما فهموه بشكل مغلوط من آيات قرآنية، كقوله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ}(3)، مع أن معنى الآية واضح، ولا يعني الجبر الذي يذهبون إليه، إذ معناها أن اللّه سبحانه وتعالى شاء أن يرسل رسلاً، والإنسان يمكنه اختيار طريق الهداية أو الضلال، ولو أن اللّه سبحانه وتعالى لم يرسل لنا الرسل ولم نعلم بالأوامر الإلهيّة فلا يمكن أن نختار ما أراده اللّه سبحانه وتعالى، وهذا يعني: (وما تشاؤون) الإيمان أو الكفر، (إلّا أن يشاء اللّه) إرسال الرسل.

إن كل شيء يجري في هذا العالم له مقدمات كثيرة، وأكثرها ليست باختيار الإنسان، بل هي بإرادة اللّه سبحانه وتعالى، لكن بعض المقدمات من اختيار الإنسان، فإذا كانت مقدمات الشيء غير اختيارية إلّا مقدمة واحدة، فإن القيام بذلك العمل يصبح اختياراً، مثلاً لو كانت المسافة بين دارك والمسجد ألف خطوة، وقد ساقك أحدهم قسراً إلى باب المسجد ثم تركك هناك، وقال: أنت مخيّر بين الدخول وعدمه، فإذا وضعت الخطوة الأخيرة بنفسك ودخلت المسجد فإن دخولك سيكون باختيارك.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا من دون اختيارنا، ثم وهبنا العقل والإرادة والعلم، والمقدمات المختلفة التي لم نحصل عليها باختيارنا، ولكن الخطوة الأخيرة في أعمالنا هي ضمن اختيارنا، فنحن أحرار في فعلها أو تركها.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى له قضاء وقدر ومشيئة وهي من المقدمات غير الاختيارية للإنسان، لكن ارتكاب العمل أو عدم ارتكابه يتم باختيار الإنسان. فالإنسان الذي اتّجه إلى الهداية ـ بحسن اختياره ـ يهديه اللّه تعالى إليها، كما أنه سبحانه يضل الظالمين، لكن يتم ذلك حين اختيار الإنسان للظلم، فإذا ألقى شخص بنفسه من شاهق فسوف يسقط على الأرض ويموت، والذي أماته هو اللّه سبحانه وتعالى، لكن المقدمة كانت باختياره، فهو الذي ألقى بنفسه من ارتفاع شاهق؛ لذا فاللّه سبحانه وتعالى يعاقبه، وأمّا إذا كان الإنسان مجبراً على عملٍ ما فلا يعاقبه، لأن عقاب المجبور ظلم، واللّه سبحانه ليس بظلّام للعبيد.

وحيث إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان مختاراً، فالحكمة تقتضي أن يكون أمامه سبيل الخير والشر، ولو كان سبيل الشر مغلقاً لما كان للاختيار معنى، فلو كان هناك شخص محبوس في غرفة، وفي الوقت نفسه يقال له: أنت حر ولك أن تختار السفر إلى أيّ مكان تشاء، فهذا يُعد نوعاً من اللغو؛ لأن معنى الاختيار هو أن يكون طريق الخير والشر مفتوحين أمام الإنسان لاختباره؛ لذا فالاختيار هو العمل حسبما يشاء، سواء شاء الصلاح أم الفساد، فلا بدّ من عدم وجود المانع إزاء الاختيار.

نماذج من الاختيار

النموذج الأوّل: خلق إبليس

فحينما خلق اللّه سبحانه وتعالى آدماً (عليه السلام) كان قد خلق قبله إبليس، وعندما استكبر إبليس عاقبه اللّه على ذلك، فكان عقابه لأنه استكبر على أمر اللّه وتكبّر على آدم (عليه السلام)، أي: زعم أنه أكبر من أن ينفذ أمر اللّه سبحانه وتعالى وزعم أنه أفضل من آدم (عليه السلام).

وفي الوقت نفسه لم يجعل اللّه تعالى مانعاً بين إبليس وبين الوصول إلى آدم وحواء (عليهما السلام)؛ لأنه أراد أن يكون الإنسان مختاراً، ولذا كانت وسائل الشر متاحة له أيضاً.

قال اللّه تعالى: {وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا}(4)، أي: بيّن ذلك لنفس الإنسان بالفطرة والعقل، ومن ثَمَّ بالرسل، فهو لبيان المراحل المختلفة للحق، وكذلك بيّن للإنسان الخير وألهمه الشر، أي: أرشده وعلّمه بأن هذه الأمور شر، وهذا لا يعني أنه تعالى أوجد الشر في نفس الإنسان؛ بل بمعنى أنه بفطرته وعقله والوحي يعلم أن الظلم شر، والسرقة قبيحة ونحو ذلك.

إذن، فالاختيار يستلزم فتح الطريق أمام الإنسان، ولذا ـ عادة ـ لا يتدخل اللّه سبحانه وتعالى بالقهر لمنع المعاصي؛ لأنه لو تدخل لما كان الإنسان مختاراً، بل لأصبح مجبراً لاختيار الخير دائماً، بل لانتفت الحكمة من خلق الإنسان.

النموذج الثاني: دعاء إبراهيم (عليه السلام)

إن إبراهيم (عليه السلام) عندما علم أن ذريته سيكون فيها المؤمن والكافر وأنها ستسكن في مكة، طلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يرزق المؤمنين منهم من الثمرات: {وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ}، وقد أجابه اللّه سبحانه وتعالى بأن الرزق عام، فقال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ}(5)، أي: إذا كان الإنسان كافراً فسأرزقه لأن الرزق للكل، ولو كان الرزق للمؤمنين فقط لصار كل الناس مؤمنين، ولما بقي أحدهم كافراً؛ لذا فالامتحان يقتضي أن تكون الخيرات الدنيوية عامة للجميع؛ لذا لا يتدخل اللّه سبحانه وتعالى بالقهر إلّا في موارد قليلة لحكمة يقتضيها.

النموذج الثالث: قتل الأنبياء(عليهم السلام)

لقد كان الناس يقتلون الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لم يتدخل لإنقاذهم، وقد ورد في بعض الأحاديث: «إن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجل اللّه عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام»(6).

النموذج الرابع: استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)

ولقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه قليلون، وبالمقابل كان هناك جيش كبير أمام هذه المجموعة، وقبل قتل الإمام (عليه السلام) أرسل اللّه سبحانه وتعالى أربعة آلاف من الملائكة لنصرته تشريفاً له، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) علم أن اللّه شاء أن يراه قتيلاً لذلك لم يأذن لهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال (عليه السلام): «هبط أربعة آلاف ملك يريدون القتال مع الحسين (عليه السلام) فلم يؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستيذان، فهبطوا وقد قتل الحسين (عليه السلام)، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودعه مودع إلّا شيعوه، ولا يمرض مريض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته، وكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام القائم (عليه السلام)»(7). كل ذلك لأن الدنيا دار امتحان، فلو تدخل الملائكة غيبياً وقلبوا الموازين لما كانت الدنيا دار امتحان.

نعم، تدخل اللّه سبحانه وتعالى غيبياً في موارد محدودة، وذلك بحكمته كما لو كان أصل الدين في خطر، كفلق البحر لموسى (عليه السلام)، فلو وصل إليهم جيش فرعون لأباد جميع المؤمنين، وكذلك في يوم بدر، حيث أرسل اللّه سبحانه وتعالى ملائكة، لأنه لولا إرسالهم لانتهى الإسلام والمسلمين، ولقتل الرسول وانتهى الدين، أمّا في يوم أحد فلم يرسل اللّه ملائكة، لأن المسلمين خالفوا أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعد أن ترك الرماة الجبل ولم تكن هزيمة المسلمين تؤدّي إلى زوال الدين.

إن اللّه سبحانه وتعالى أعطى القدرة للمؤمن وغيره لكي يتم الامتحان، قال اللّه تعالى: {كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا}(8)، فهذه الدنيا دار امتحان، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى أتمَّ حجته ولم يترك الحق يضيع، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى الحق فهو موجود، فإذا لم يتبع الإنسان الحق فللّه الحجة البالغة، ولكن في الوقت نفسه يوجد عندنا تكليف، فقد أمرنا اللّه سبحانه أن نوصل الحق للآخرين، ولا يتدخل اللّه سبحانه وتعالى غيبياً في ذلك.

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

...........................................

(1) سورة القلم، الآية: 9.

(2) انظر: التبيان في تفسير القرآن 10: 352، وفيه: «{وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ} [سورة البلد، الآية: 10] ليستدل بهما، وفي ذلك دليل واضح على أنه صادر من مختار لهذه الأفعال التي فعلها بهذه الوجوه، فأحكمها لهذه الأمور، فالمحكم المتقن لا يكون إلّا من عالم، وتعليقه بالمعاني لا يكون إلّا من مختار، لأنه لا يعلق الفعل بالمعاني إلّا في الإرادة. وقال ابن مسعود وابن عباس: معنى {هَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ}: نجد الخير والشر...». وقال البحراني في البرهان في تفسير القرآن 5: 545: «{إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ} أي: بينا له طريق الخير والشر، {إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} وهو رد على المجبرة أنهم يزعمون أنه لا فعل لهم». وقال في 5: 546: «وعن حمران بن أعين، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا} [سورة الإنسان، الآية: 3]، قال: إمّا آخذ فهو شاكر، وإمّا تارك فهو كافر».

(3) سورة التكوير، الآية: 29.

(4) سورة الشمس، الآية: 7-8.

(5) سورة البقرة، الآية: 126.

(6) بحار الأنوار 44: 365.

(7) كامل الزيارات: 354.

(8) سورة الإسراء، الآية: 20.

اضف تعليق