والإمام المهدي إذا لم يوجد له أنصار فلا يظهر، وهذا سبب طبيعي، ووظيفتنا أن نكون بمستوى عالٍ حتى نكون من أنصاره؛ لأن أنصاره درجات، فإذا وجد هؤلاء الأنصار فسوف يأذن اللّه سبحانه وتعالى للإمام ويظهر، لأنه يجب على الإمام أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينفذ إرادة اللّه...
قال اللّه تعالى: (يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ)(1).
هناك أسباب طبيعية يدركها الناس بحواسّهم، كالنار فإنها سبب طبيعي للإحراق، والأسباب الطبيعية إنّما جعلها اللّه سبحانه وتعالى لتنتظم حياة الناس، ولكي يسيروا طبقها، فمن أراد أن يعيش فعليه أن يكدّ ويعمل ليحصل على مقوّمات عيشه، من المأكل والمشرب والملبس، قال تعالى: (هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ)(2)، وقال عزّ وجلّ: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ)(3)، ولولا هذه الأسباب لما تمكن الإنسان من العمل والكدح، ولا التطوّر والتكامل والوصول للدرجات التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى له.
ولكن وراء الأسباب الظاهرية هناك أسباب غيبية وهي الأسباب الحقيقية، فالغيب مهيمن على الشهود، ولأجل مصلحة الإنسان جعل اللّه سبحانه تقارن بين الأسباب الحقيقية والأسباب الظاهرية غالباً.
ولنذكر بعض الأمثلة:
المثال الأوّل: الموت
إن الموت يحدث بقبض اللّه سبحانه وتعالى الأرواح من الأجساد، إمّا مباشرةً أو بتوسط ملك الموت أو أعوانه، قال تعالى: (ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا)(4)، وقال عزّ وجلّ: (قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ)(5)، وقال: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا)(6)، فهذا هو السبب الحقيقي للموت، لكن الأسباب الظاهرية هي أن يصاب الإنسان ـ مثلاً ـ بسكتة قلبية، أو يسقط من شاهق، أو يقتل بالرصاص، إلّا أن هذه الأسباب لم تقبض روح المقتول في الواقع، وإنّما الذي قبض روحه هو اللّه، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل إرادته قبض روحه متزامنة مع أسباب الموت الظاهرية إذا تحققت.
فاللّه سبحانه وتعالى جعلها أسباباً ظاهرية في الوقت الذي يأذن فيه بقبض روح الإنسان؛ ولذا إذا لم يأذن فلا يتحقق الموت.
إن عذاب جهنم كبير جداً، ففي الحديث الشريف: «إن اللّه تبارك وتعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت وهي سوداء مظلمة، فلو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أن قطرة من الزقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهل الدنيا من نتنها»(7). لكن الإنسان بجسمه ولحمه وعظمه يعذّب في نار جهنم، كما قال تعالى: (وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ)(8)، وقال: (كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ)(9)، فلماذا لا يموت الإنسان وهو في نار جهنم؟
والجواب: هو لأن السبب الحقيقي للموت ليس هو الاحتراق والوسائل العادية، وإنّما هو قبض اللّه للروح واللّه لا يشاء قبض روح أهل جهنم: (وَنَادَوۡاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقۡضِ عَلَيۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ)(10).
المثال الثاني: الرزق
إن الفلاح يزرع الأرض ويسقيها، وبعد فترة يحصد، وما حصده يرتزق به، وهذا سبب ظاهري، وأمّا السبب الحقيقي للرزق فهو اللّه سبحانه وتعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ)(11)، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يرزق لكن جعل رزقه ـ غالباً ـ متقارناً مع عمل الإنسان؛ لأنه إذا حصل الرزق دون عمل فسوف لا يستقر نظام الحياة؛ فاللّه هو الذي يقدّر الرزق: (نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ)(12)، فاللّه سبحانه وتعالى يسخّر بعض الناس لبعض.
إنّا نرى أن بعض الأشخاص يعمل من الصباح إلى المساء فلا يحصل إلّا على شيء قليل، بينما يقوم شخص آخر بعمل بسيط فيحصل على الملايين، والبعض منّا يتصور أن الشخص الثاني عنده حظ، بينما الأوّل لا حظ له، إلّا أن هذا غير صحيح. والسبب وراء ذلك هو أن اللّه سبحانه وتعالى وسّع في رزق هذا، وضيق في رزق ذاك بحكمته؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى باسط وقابض: (وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ)(13)، والبسط والقبض لهما معانٍ متعددة، ومنها: التوسعة في الرزق أو التضييق، فالرزّاق هو اللّه سبحانه وتعالى لكن جعل أسباباً ظاهرية.
ثم إنه يجب على الإنسان أن يسير ضمن الأسباب الطبيعية التي جعلها اللّه تعالى، وقد بيّن اللّه سبحانه ذلك في سورة الواقعة فقال: (أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ * ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ)(14)، وقال: (أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ * ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ)(15)، وقال: (أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشُِٔونَ)(16).
المثال الثالث: إحراق النار
إن نار إبراهيم (عليه السلام) حيث لم تؤثر في إحراقه؛ لأن الإحراق في الواقع هو تقدير من اللّه، وفي الظاهر من النار، فمع وجود النار إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشأ إحتراق إبراهيم (عليه السلام): (قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ)(17)، فهذه النار كانت ناراً، لكنها لم تؤثر أثرها.
المثال الرابع: تدبير أمور العالم
قال اللّه تعالى: (فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا)(18)، فالملائكة هي التي تدير الأمور، لذا ورد في بعض الروايات نسبة الأمور الطبيعية إلى أسباب غيبية، وقد يتعجب البعض ولا يدرك معنى هذه الروايات. وأحياناً من لا يفهم هذه الروايات يردّها ولا يقبلها، لكنها تبين حقيقة بينّها القرآن في مصاديق كثيرة، ومنها: الموت والرزق والخلق والإنبات وغير ذلك، إلّا أن الروايات بيّنت ذلك ببيان أوسع؛ لأنها بيان وتفسير للقرآن الكريم، فإذا رأينا رواية تنسب شيئاً من الأشياء الطبيعية للملائكة مثلاً فلا نعجب من ذلك ونرده، بل يجب علينا القبول به.
مثلاً إن المطر ترسله الملائكة، فهي التي ترفع الماء بشكل بخار إلى السماء، ثم تذهب به لمنطقة معينة، وهي التي تسحبه إلى مكان معين، ثم تنزله.
لكن في الظاهر إن الشمس تبخّر الماء، فيصعد إلى منطقة معينة، وهناك أغلفة جوية تمنع صعود الماء إلى أكثر من الحدّ المعين، ثم هناك رياح تسحب الغيوم إلى منطقة معينة بعد ذلك يتحوّل البخار إلى ماء مرّة ثانية وينزل، يقول اللّه سبحانه: (أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ * ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ)(19)، فهذا المطر كله بأسباب غيبية، لكن اللّه سبحانه وتعالى زامن بين الأسباب الغيبية والأسباب الطبيعية، فالشمس موجودة والحرارة موجودة، والماء يتبخّر في هذا الظرف فقط دون ظرف آخر والرياح موجودة... إلى آخر الأسباب الطبيعية، لكنها متقارنة مع الإرادة الغيبية التي هي السبب الواقعي لكل ذلك عبر تدبير الملائكة بإذن اللّه تعالى.
والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن نعمل ونكدح ونتطور ونتكامل؛ لذا جعل أسباباً ظاهرية لكي نسير على طبقها.
المثال الخامس: النصر من اللّه تعالى
1- إن المسلمين في غزوة بدر كانوا قليلين، ولكن كان تخطيطهم دقيقاً جداً؛ لأنه كان تخطيط الرسول (صلى الله عليه وآله)، لكن اللّه سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(20)، فاللّه هو الذي نصر المسلمين، لكن هذا النصر تزامن مع أسباب طبيعية، لكي يعمل المسلمون، ولا يكونوا كسالى جالسين في بيوتهم ينتظرون أن يهيئ اللّه سبحانه وتعالى كل الأشياء، بل إن اللّه خلق الإنسان لكي يعمل حتى يستحق المقامات العالية في الجنة، وهذا لا ينسجم مع الكسل، وإنّما ينسجم مع العمل.
2- وفي يوم عاشوراء أرسل اللّه سبحانه وتعالى كرامة للإمام الحسين (عليه السلام) أربعة ألاف من الملائكة، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم أن إرادة اللّه في شهادته، وإنّما أرسل هؤلاء الملائكة كرامة له؛ لذا لم يأذن لهم.
3- إن اللّه سبحانه وتعالى إذا أراد أن ينصر رسله دون الأسباب الظاهرية فسوف يفعل ذلك. مثلاً: في خروج بني إسرائيل وموسى (عليه السلام) من مصر قال اللّه تعالى: (فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ)(21)، فقد وصل الأمر إلى مرحلة كان فيها إبادة لبني إسرائيل، والأسباب الظاهرية قاصرة عن نجاتهم؛ لأن فرعون وجنوده عندهم العدد والعدّة، وبنو إسرائيل لا عدد ولا عدّة لهم، ولو وصل فرعون وجنوده إلى بني إسرائيل لأبادوهم، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى كان يريد أن يحفظهم؛ لذ حينما قصرت الأسباب الظاهرية هيّأ اللّه سبحانه وتعالى السبب الغيبي، وهو فلق البحر، وأي وقت كان أصل الدين في خطر والسبب الظاهري لم يكن كافياً يأتي النصر عن طريق السبب الغيبي.
4- ولما أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يخرج الرسول (صلى الله عليه وآله) من مكة قاصداً المدينة، نصره، قال تعالى: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ)(22)، والمشركون وصلوا إلى فوهة الغار لكن لم يدخلوا فيه؛ لأنه كان هناك سبب غيبي، حيث جاءت العنكبوت ونسجت على مدخل الغار، وجاءت حمامة فباضت أمام هذا النسيج العنكبوتي، فلما رأى المشركون ذلك تصوّروا أنه إذا كان قد دخل أحد في الغار كان يخترق النسيج وتنكسر البيوض، وتهرب الحمامة، فلذا رجعوا من حيث أتوا فكان هذا السبب غيبياً، لكي يبيّن اللّه سبحانه وتعالى وهن المشركين بأبسط الأسباب، وينفّذ إرادته؛ لأنه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اتخذ الأساليب الطبيعية، حيث بات أمير المؤمنين (عليه السلام) في فراشه تلك الليلة، قال تعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ)(23)، وخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى الجنوب مع أن طريق المدينة في الشمال، وكان المشركون يعلمون أن قسماً من أهل المدينة أسلموا، فإذا أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يخرج من مكة فسوف يذهب إلى المدينة؛ لأنه ليس له مكان آخر، فيجب عليه أن يتّجه نحو الشمال، لكن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اتّجه نحو الجنوب، حيث غار ثور الذي يكون في جنوب مكة، فاختفى فيه ثلاثة أيام حتى ييأس المشركون فيتركوا البحث عنه، كما أنه لم يسر في الطريق بل سار إلى المدينة من غير طريقها، وكان معه دليل يعرف المسير... وغير ذلك.
إذن، فالرسول (صلى الله عليه وآله) اتّخذ الأسباب الطبيعية، لكنها كانت قاصرة؛ لذا فاللّه سبحانه وتعالى هيّأ الأمور الغيبية، وكانت إرادة اللّه الواقعية، التي هي السبب الواقعي، متقارنة مع الأسباب الطبيعية؛ لأن اللّه جعل الأسباب الطبيعية، ولا يكون هناك تدخل غيبي إلّا في الحالة الاستثنائية لمصلحة أهم.
إن الحكمة الإلهيّة اقتضت أن تكون أمور الإنسان عبر الأسباب الطبيعية، فأعمالنا التي نقوم بها لها أسباب ومسبّبات، والمسبّبات بتقدير من اللّه، صحيح أنه لم يكن هناك جبر؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يجبرنا على شيء، وإرادتنا هي من مقدّمات أفعالنا، لكن اللّه سبحانه وتعالى يعلم أننا نريد أن نقوم بعملٍ ما وبالفعل نحن الذين نقوم به لكن ترتّب النتيجة هي بتقدير من اللّه تعالى، بل وكل شيء في الكون بتقدير من اللّه سبحانه وتعالى، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلّا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على اللّه، أو ردّ على اللّه عزّ وجلّ»(24)، لكن ليس بجبر؛ لأنه من المقدمات اختيارنا، فنحن مختارون بأن نفعل أو لا نفعل. فإذا اخترنا الفعل فاللّه يقدّر، وهو يعلم أننا نختار فقدّر، وإذا لم نفعل الفعل فاللّه سبحانه تعالى لا يقدّر، وكان يعلم أننا لن نفعل فلم يقدّر.
أنصار الإمام المهدي (عليه السلام)
في قضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قدّر اللّه سبحانه وتعالى أسباباً طبيعية، لكن بعض الأحيان تكون هذه الأسباب الطبيعية قاصرة، فلذا تتدخل الأسباب الغيبيّة.
إن الإمام (عليه السلام) لا بدّ له من أنصار؛ لأنه (عليه السلام) يسير بسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في مكة ولم يكن له أنصار؛ لذا لم يأذن اللّه سبحانه وتعالى له في القتال، قال سبحانه: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ...)(25)، فرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لم يكن له أنصار في مكة؛ لذا فلم ينهض ولم يقاتل؛ لأن اللّه لم يأذن له في الجهاد، وعندما أصبح لديه أنصار أمره بالجهاد، فقال اللّه تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ)(26).
وهكذا لو كان عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم السقيفة أربعون رجلاً لاسترجع حقه(27)، لكن لم يكن معه إلّا أربعة وسائر الناس خذلوه، نعم بعد ذلك رجع الكثير منهم؛ لذا كان مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة الجمل خمسمائة من الصحابة.
والإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كذلك، فهو ليس أفضل من الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا أفضل من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإن كانوا نوراً واحداً، لكن أفضل البرية هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ثم بعده أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم من بعدهما الأئمة (عليهم السلام).
والإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إذا لم يوجد له أنصار فلا يظهر، وهذا سبب طبيعي، ووظيفتنا أن نكون بمستوى عالٍ حتى نكون من أنصاره؛ لأن أنصاره (عليه السلام) درجات، فعنده ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصاً، وهم الدرجة الأولى، وهؤلاء بعضهم أفضل من بعض، فهناك حلقة مقربة جداً من الإمام (عليه السلام) وهم الذي يكونون في فسطاطه، ثم تأتي الحلقة الثانية وهم عشرة آلاف شخص، وهم في قمة التقوى والورع، فإذا وجد هؤلاء الأنصار فسوف يأذن اللّه سبحانه وتعالى للإمام ويظهر، لأنه يجب على الإمام أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينفذ إرادة اللّه سبحانه وتعالى، لكن إذا لم يتمكن بحسب الظاهر فلا تكليف له، واللّه سبحانه وتعالى لم يأذن لأهل البيت (عليهم السلام) أن يستفيدوا من قواهم التكوينية الغيبية إلّا في الحالات الاستثنائية.
وعليه فإذا تهيّأ الأنصار فلعلّ اللّه تعالى يأذن للإمام (عليه السلام) في الظهور، إن المؤمنين كثيرون بحمد اللّه، لكن الأمر يحتاج إلى درجة خاصة وقابلية خاصة.
وكشاهد على ذلك ننقل هذه القصة، فعن مأمون الرقي قال: «كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني فسلم عليه، ثم جلس فقال له: يا بن رسول اللّه، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له (عليه السلام): اجلس يا خراساني رعى اللّه حقك، ثم قال: يا حنفية، اسجري التنور، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيض علوه، ثم قال: يا خراساني قم فاجلس في التنور، فقال الخراساني: يا سيدي يا بن رسول اللّه، لا تعذبني بالنار أقلني أقالك اللّه، قال: قد أقلتك، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول اللّه، فقال له الصادق (عليه السلام): الق النعل من يدك واجلس في التنور. قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام (عليه السلام) يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها ثم قال: قم يا خراساني وانظر ما في التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً فخرج إلينا وسلم علينا، فقال له الإمام (عليه السلام): كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقلت: واللّه ولا واحداً، فقال (عليه السلام): لا واللّه ولا واحداً، أمّا أنا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت»(28).
إذن، فالمشكلة أن التقصير منّا؛ لذا تطول الغيبة، فإذا تركنا التقصير فاللّه سبحانه وتعالى قد يقصّر وقت الغيبة.
ورد في بعض الروايات: «إن اللّه تبارك وتعالى يصلح أمره في ليلة»(29)، وعلامات الظهور الحتمية خمسة، لكن بقية العلامات يمكن أن يحصل فيها البداء، يعني أن اللّه سبحانه وتعالى يغيّر القدر ـ كما غيّره في عذاب قوم يونس ـ لأن القدر وضعه اللّه تعالى بحكمته، وقدرة اللّه تعالى لا تتقيد، لا كما قالت اليهود: (يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ)(30)، فلذا يمكن أن يغيّره بحكمته أيضاً.
إنه ينبغي على الإنسان أن يُوجد في نفسه القابلية، فهي تبدأ من القليل، فلا يحق لأحد أن يقول: أين أنا وأنصار الإمام؟ فإن أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) كان أحدهم وهب، وهو شخص نصراني أسلم على يد الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد مضى على إسلامه أيام قلائل قبل استشهاده، والآخر هو الحر الذي كان قد عارض الإمام (عليه السلام) وصدّه، لكن حينما تاب وأراد أن يصل إلى تلك الدرجة قَبِلَ اللّه سبحانه وتعالى توبته، وعليه فلا يقل أحدنا: إنه غير ممكن أن أصل إلى درجة أنصار الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)! كلا، بل من الممكن تحقق ذلك عن طريق خطوات يخطوها الإنسان.
فمنها: الالتزام بالواجبات وترك المحرّمات، والالتزام ببعض النوافل والمستحبات، وهذه هي الخطوة الأولى.
ومنها: تزكية النفس وتطويرها، فينبغي على الإنسان أن يهذب نفسه ويشذّبها، وهذا أمر صعب جداً، لكنه ممكن، كما أمكن لآخرين.
فإذا تهيّأ ذلك فاللّه سبحانه وتعالى يُظهر الإمام (عليه السلام)، وحينذاك يضيف اللّه تعالى أسباب غيبيّة ومعاجز لتنفيذ إرادته تعالى وقد ورد في بعض الروايات: إن عصا موسى (عليه السلام) بيد الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وسوف يستعملها في مقارعة الأعداء: فعن الإمام محمّد بن علي (عليه السلام) قال: «كان عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب، ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وإن عهدي بها آنفاً وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرها، وإنها لتنطق إذا استنطقت، أعدت لقائمنا ليصنع كما كان موسى يصنع بها، وإنها لتروع وتلقف...»(31).
ثم إنه يحدث خسف البيداء قبل ظهور الإمام (عليه السلام)، وهذه إرادة ربانية، وهي من الأسباب الغيبيّة، وهذا ما أشارت له بعض الروايات: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء»(32).
والحاصل: إننا لو هيّأنا السبب الطبيعي وهو أن نعمل بتكليفنا ولا نقصّر في المطلوب منا، فلعلّ اللّه سبحانه وتعالى يهيئ السبب الغيبي، فيظهر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
اضف تعليق