النية هي القصد، وليست بمعنى التمنّي، وبعض الناس يخلطون بين النية والتمنّي، فلو أن إنساناً تمنّى بناء مسجد فهذا تمنّي وليس نية، لأن معنى النية أن يقصد الإنسان الفعل ويبدأ الخطوات العملية نحوه، فلو أن إنسان كان جالساً في بيته ويقول: أنا أتمنّى الزيارة فهذه ليست نية، بينما...
قال اللّه تعالى: (وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ)(1).
إن عمل الإنسان لا لون لـه، وإنّما فكره وقصده هو الذي يلوّن عمله، فالصلاة ـ وهي عمود الدين ـ أفعال من التكبير إلى التسليم، وهذه الأفعال إنّما تكون لها قيمة إذا كانت بإخلاص، فطريقة تفكير الإنسان هي التي تجعله ينوي هذا العمل للّه سبحانه وتعالى؛ ولذا كان لهذه الصلاة قيمة، وكانت عمود الدين، ونفس هذه الأفعال ـ من التكبير إلى التسليم ـ إذا أُتي بها رياءً فلا تكون لها قيمة، بل هي عمل محرّم، تتحول إلى نار في جهنم، قال تعالى: (فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ * وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ)(2).
بل حتى العقلاء ينتهجون هذا الأسلوب، مثلاً لو دخل شخص إلى مجلس فقام له أحدهم بقصد الاحترام فيكون هذا أمراً مطلوباً ومرغوباً، لكن إذا كان هذا القيام بقصد الاستهزاء فليس بمطلوب.
وهكذا الحال في المحاكم، فلو أن شخصاً ارتكب جريمة ما لكنه لم يقصد الجريمة، بل كان يقصد عمل الخير، لكن نفس العمل لخطأ تحوّل إلى جريمة، فلا يعاقب عليه بل لا يقال له مجرم أصلاً.
وحسب تعبير العلماء: الحسن الفاعلي والحسن الفعلي، فالحسن الفاعلي قد يكون مع قبح الفعل لكن لأن الفاعل كان قصده الخير لذا لا يذم، بل قد يكون ممدوحاً.
نية المؤمن خير من عمله
ومن ذلك يتّضح معنى الحديث الشريف: «نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله»(3)، وإنّما تكون نية المؤمن خير من عمله لأن عمل الإنسان الاختياري مركب من شيئين: عمل ونية، والعمل في حد ذاته لا يوجب ثواباً ولا عقاباً، وأمّا إذا انضمّت النية للعمل فسوف توجب الثواب أو العقاب.
في غزوة أحد قتل المسلمون مسلماً خطأً(4)، حيث ظن بعض المسلمين أنه من الكفار فقتلوه، فهل يعاقب القاتل ويلام؟ كلا.
إذن، فأيّ عمل اختياري مركب من جزأين: قصد وعمل؛ والجزء المهم هو النية، وليس العمل؛ ولذا لو نوى الإنسان زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً، لكنه لم يتمكن من ذلك، فإن اللّه تعالى سوف يتفضل عليه بالثواب، والعقلاء يمدحونه لذلك، وأمّا إذا نوى الإنسان المعصية لكنه لم يتمكن من ارتكابها، فإنه يُذمّ لكن اللّه سبحانه وتعالى لا يعاقبه تفضّلاً ومنّةً؛ لأنه لم يفعل ذلك الفعل.
النية لا التمني
إن النية هي القصد، وليست بمعنى التمنّي، وبعض الناس يخلطون بين النية والتمنّي، فلو أن إنساناً تمنّى بناء مسجد فهذا تمنّي وليس نية، لأن معنى النية أن يقصد الإنسان الفعل ويبدأ الخطوات العملية نحوه، فلو أن إنسان كان جالساً في بيته ويقول: أنا أتمنّى الزيارة فهذه ليست نية، بينما لو أن إنساناً هيّأ المقدمات وركب السيارة إلّا أنه مُنع من الذهاب، فهذا يسمّى نوى الزيارة.
اللاعنف في القلب
لقد كان الوالد (رحمه الله) في كتبه وفي محاضراته يؤكد على اللاعنف في العمل وفي اللسان وفي القلب، وأن الأصل هو عدم العنف، وإنّما القوة هي آخر الدواء، كما قيل: (آخر الدواء الكي).
أمّا العنف واللاعنف في اليد واللسان فواضح، وأمّا في القلب فبمعنى أن لا تفكر تفكيراً عنيفاً؛ لأن هذا التفكير العنيف يمنهج فكرك، ومنهجة الفكر تسبب العمل؛ لأن فكر الإنسان هو الذي يحرّكه، فطريقة التفكير هي التي جاءت بهذا الشخص للزيارة، وأدت بذاك للذهاب إلى مراكز العصيان. فطريقة التفكر هي التي تتحكم في أعمال الإنسان.
العرب قبل وبعد الإسلام
لقد كان العرب قبل الإسلام أذلة خاسئين، كما قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها: «وكنتم على شفا حفرة من النار... أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم»(5)، لكنهم ببركة الإسلام تحوّلوا إلى قادة العالم فما هو السبب؟
لقد كانت هناك قوة كامنة هائلة فيهم، لكن منهجيّة الفكر عندهم كانت تقضي أن تُغير بعض القبائل على القبائل الأخرى، وتبتز أموالها وثرواتها ونساءها، وكان هذا من المفاخر عندهم، لكن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) غيّر هذه المنهجية، فتغيرت من الغارات على القبائل إلى منهجية هداية الناس، حيث أصبحت منهجية التفكير في أمور سامية.
لقد كان تفكيرهم سابقاً بدائي جداً، فتغير إلى تفكير سام، حيث كان التفكير عبادة الصنم فأصبح عبادة اللّه سبحانه وتعالى، وهناك فرق بينهما، فقد كان الشخص منهم يعبد صنماً صنعه بيده، وفي بعض الأحيان كانوا يجلبون التمر ويصنعون منه صنماً، وعندما يجوعون يأكلونه، ولذا قال الشاعر:
أكلت حنيفة ربّها
زمن التقحّم والمجاعة
لم يحذروا من ربّهم
سوء العواقب والتباعة(6)
هكذا كان تفكيرهم، ثم تغير إلى التفكير بعبادة اللّه سبحانه وتعالى، فهذا التغيير في منهجية الفكر أدّى إلى أن يتحول هؤلاء الذين كانوا أذلّاء خاسئين إلى قادة في العالم. فقد كان أحدهم يفكر سابقاً في الغارة على ابن عمّه، وأصبح اليوم يفكر في فتح قصور كسرى وقصور قيصر.
لذا على الإنسان أن يغيّر منهجية فكره إذا كانت خاطئة، وأمّا لو كانت منهجية صحيحة فليطوّرها حتى تحدث قفزة نوعية في أعماله.
إننا نلاحظ بعض الناس لهم طاقات هائلة وكامنة، لكنهم لم يستغلوها، ولذا نجدهم لا يحصلون على شيء، ويموت أحدهم دون أن تبرز هذه الطاقات الكامنة، بينما نجد آخرين فيهم طاقات كامنة ضعيفة لكنهم يفجّرونها وينمّونها.
الاهتمام بالعقيدة الصحيحة
لذا ورد التركيز الشديد على العقيدة، فينبغي أن تكون عقيدة الإنسان سليمة، فيعتقد باللّه وينزّهه عن صفات النقص، ويثبت له صفات الكمال، كما نزل في القرآن وبيّنه الرسول وآله (عليهم السلام)، ثم يعتقد بالنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، ويعتقد بالمعاد، فمثل هذا الإنسان إذا كان في عمله خلل فقد يوفّقه اللّه للتوبة وقد يغفر له، قال تعالى: (ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ)(7)، واللمم هو: أن يقترف الإنسان الذنب ثم يرجع ويتوب، وورد في تفسيره أنه الذنوب الصغيرة(8)، كما أنه قد يرتكب الإنسان ذنباً لكنه إذا عمل عملاً حسناً فقد تشمله الشفاعة، قال تعالى: (إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِۚ)(9)، وقد يعاقب قليلاً حتى يُصفّى، وبعد ذلك يدخل في الجنة.
أمّا إذا كان عمله ظاهره الصحة لكن كانت عقيدته باطلة، فلا فائدة في علمه، فهناك الكثيرون ممّن يكون ظاهرهم حسناً، لكنهم لا يعتقدون العقيدة الحقة فهؤلاء لا فائدة في عملهم، قال تعالى: (وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ)(10)، فكل أعمال الخير التي يعملها تذهب هباءً، قال تعالى: (وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا)(11)، وذلك لأن عقيدته لم تكن سليمة.
وأمّا من كانت عقيدته سليمة فسوف يزيده اللّه سبحانه وتعالى خيراً.
نعم، ينبغي أن لا يغتر الإنسان بذلك ويرتكب الذنوب ويقول: أنا عقيدتي صحيحة؛ لأن ارتكاب الذنوب قد يؤدّي به إلى الكفر، قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ)(12) أو العقاب أو انحطاط الدرجات.
فالعقيدة هي الأساس لأنها مرتبطة بفكر الإنسان، ولذا علينا أنه نمنهج فكرنا بطريقة سليمة.
جاء في الحديث الشريف عن عيسى (عليه السلام) أنه قال: «إن موسى نبي اللّه (عليه السلام) أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق(13) فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(14). فالتفكير في الزنا ـ أو أي معصية أخرى ـ مثل الدخان لا يحرق البيت لكنه يسوّده. وهكذا التفكير في كل ذنب فهو يسوّد القلب.
عدم العقاب على النية
نعم، لا يعاقبنا اللّه على هذا التفكير منّةً منه علينا وتفضلاً، لقول النبي (صلى الله عليه وآله): «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(15)، فأحد هذه الأشياء المرفوعة هو ما لم يظهر باللسان، فلو كان الإنسان يحسد في قلبه، ولكن لا يظهره على لسانه فلا يعاقب في الآخرة، لكن هذا الحسد يسوّد القلب، فيمنعه من الرقي للدرجات الرفيعة، والمقامات العالية.
إننا إذا عرفنا أن إنساناً ما يفكر بالشر فسوف يسقط من أعيننا، ومن لطف اللّه سبحانه وتعالى أنه لم يجعلنا نعرف النوايا. نعم، قد جعل اللّه لكل أمر باطني علامة ظاهرية، ولذا ورد في الحديث الشريف: «ما أضمر أحدكم شيئاً إلّا وأظهره اللّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(16)، لكن نوايا الإنسان لا يكتشفها الناس غالباً، والإسلام أمرنا أن نحمل فعل المسلم على الصحة، لكن إذا عرفنا باطنه وعلمنا أن نيّته كانت سيّئة فسوف يسقط من أعيننا، فكيف بيوم القيامة، يوم تبلى السرائر، حيث يظهر كل شيء، وهذا من أكبر العقوبات، حيث يفتضح الإنسان أمام الخلق، ويرونه كيف كان يفكر في المعاصي.
الهمة العالية
وأمّا إذا كان الإنسان مؤمناً فسوف يزداد مقاماً وعلواً لأنه كان يفكر في أمور حسنة لكي يعملها لكنه لم يتمكن من ذلك، فقد نجد أن بعض الناس همته عالية، يفكر في إنقاذ غيره، بينما نرى البعض الآخر لا يفكر إلّا نفسه، ولذا ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «يقال للعابد يوم القيامة: نِعْمَ الرجل كنت همتك ذات نفسك، وكفيت مؤنتك فادخل الجنة. ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفر عليهم نعم جنان اللّه تعالى، وحصل لهم رضوان اللّه تعالى، ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمّد، الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم، قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك، فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً(17) ـ حتى قال عشراً ـ وهم الذين أخذوا عنه علومه، وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظروا كم صرف ما بين المنزلتين»(18).
إذا كانت همّة الإنسان عالية وكان يفكر في أمور كبيرة فقد يوفقه اللّه للأمور الهامّة، لأن اللّه جعل للإنسان القدرة على أن يطير بهمّته كما يطير الطائر بجناحيه.
نعم، قد لا تكون الظروف مواتية، لكن إذا أصبحت الظروف مواتية فينبغي استغلال الفرص، وإذا لم يفكر ولم يهيئ نفسه فربما تأتي الفرصة لكنه لا يستغلها، ولذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «... والفرصة تمر مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير»(19).
لقد كانت همّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عالية، ومن الأشياء التي أوجدها (صلى الله عليه وآله) في المسلمين الهمّة العالية، ففي معركة الخندق كان عدد المسلمين قليلاً بالنسبة للمشركين؛ لأن المشركين استنفروا جميع قوى الشرك في الجزيرة العربية، فلم يكن في قدرتهم مواجهة المشركين، فلذا أمرهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بأن يحفروا الخندق، لكي لا يحدث لقاء وجهاً لوجه بين المسلمين والمشركين، فقد قسموا حفر الخندق بين المسلمين، وكان هذا في شهر رمضان، وهم صائمون.
وعندما كان المسلمين يحفرون في الخندق وصلوا إلى صخرة فلم يتمكنوا من أن يزيحوها، فجاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأخذ الفأس فضربها فحدثت شرارة، فقال ـ ما معناه ـ : أرى قصور الشام، وفي المرّة الثانية: أرى قصور كسرى، وفي الثالثة: أرى قصور اليمن(20).
هكذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقوي معنويات المسلمين، فكان يعطيهم الهمّة، وبهذه الهمّة وطريقة التفكير أصبحوا قادة العالم.
اضف تعليق