سعادة الإنسان ترتكز بشكل لا يختلف عليه اثنان على أمنه الداخلي وشعوره بالطمأنينة النفسية، مثلما أن شبه إجماع على أثر المعتقد الديني في توفير هذه الطمأنينة متحقق، وأن أكثر الأزمات النفسية التي يتعرض لها الإنسان هي ناجمة عن التيه الذي يعيشه نتيجة عدم يقينه وإيمانه بأي معتقد من جهة، أو لوجود بعض الانحرافات الناتجة عن سوء فهم المعتقد أو القصدية الحقيقية من الاعتقاد به، فتتولد الشكوك والاسئلة عن جدوى هذا المعتقد في الارتقاء بالإنسان طالما تكررت هذه الانحرافات.
وعندما نتحدث عن أثر المعتقد الديني في توفير أمن الإنسان؛ فهذا لا يعني مطلقاً أن يكون الاعتقاد مقتصراً على الجانب الفطري دون السعي الحثيث لتدعيم الفطرة بالمعرفة التي تمكن المُعْتَقِد من الوصول لصحة اعتقاده. ويلزم على من ينشد الأمن والطمأنينة الداخلية أن يتحصل على الوعي بما يعتقد بحيث يستطيع التمييز بين الصالح والطالح على مستوى ما يصدر من العقيدة التي يعتنقها، وهذا الوعي كفيل بوصوله إلى ما يُعرف بـ (الأمن العقدي) الذي يمهد له الوصول المريح لأمنه الداخلي وتصالحه مع ذاته.
وأهم شيء بالوعي الديني هو التمييز بين القشر واللب على صعيد المعتقد، والتعامل القشري مع العقائد هو الذي أوصل النظرة الخاطئة حول المعتقد الإسلامي من أنه معتقد قائم على العنف وإكراه الآخرين على تبني الإسلام بالقوة؛ وسبب هذا طبعاً هو النظرة القشرية لحقيقة المعتقد، أو الأخذ به من مصادره غير الصحيحة حتى وصل الحال بعامة الناس النظر للزي الديني واحترامه حتى وإن كان صاحب الزي ممن عليهم شبهات.
قد نستشهد هنا بحكاية متداولة في مدينة النجف الأشرف، وأكثر الخطباء يروونها؛ لأخذ العبرة، والحكاية حدثت أيام المرجع السيد محسن الحكيم رحمه الله حين كان في طريقه لأداء الصلاة في صحن الإمام علي (ع)، فرأي في طريقه أحد طلبة العلوم الدينية في الحوزة العلمية وهو يتناول الباقلاء أمام عربة أحد الكسبة، وكان هذا الطالب مرتدياً لزيه الديني ذي الخصوصية العلمية، فسأله السيد الحكيم : ماذا تفعل؟ فأجابه إني أتناول الباقلاء، فرد السيد الحكيم بالدارجة العراقية : (انطينا عمامتنا وبراحتك)!
يُفْهم من هذه الحكاية أمران: الأول يتعلق بالقشرية التي تحدثنا عنها، حيث ممكن أن يتبادر إلى الذهن أن السيد من خلال هذه الحكاية أراد أن يعزل طلبة العلوم الدينية عن مجتمعاتهم وعدم الانخراط في صفوف المجتمع ومعايشته، ثم يكونوا في بروجهم العاجية العالية.
أما الأمر الثاني فهو يرتبط بنظرة الوعي والبحث عما وراء القصد من كلام السيد الذي لم يمنع الطالب من ممارسة شعبية دارجة، لكنه أراد الحفاظ على الخصوصية العلمية من خلال الزي. فكثير من الفعاليات المجتمعية المحترمة لها زيُّها الخاص الذي تُعرف به، فالطبيب له زيه الخاص أثناء الفحص ومعاينة المريض أو لحظة إجرائه العمليات الجراحية، وأساتذة الجامعات لهم زيُّهم الخاص أثناء مناقشة طلبة الدراسات العليا، وكذلك القضاة والمحامين أثناء انعقاد جلسات المحاكم. يمكن لهذه الفعاليات المجتمعية المحترمة أن تمارس طقوسها الشعبية المتداولة، لكن هل رأى أحد منا طبيباً جالساً في المطعم وهو يرتدي الزي الخاص بالفحص الطبي؟ نفس هذا التصور يمكن أن نعكسه على ذلك الطالب الذي أساء لخصوصيته كطالب علوم دينية، بينما الناس تنظر إليه على أنه ولي من أولياء الصالحين؛ بسبب النظرة القشرية، وقضية الانسان الصالح أو غيره؛ لا يمكن أن ترتبط بأي شكل من الأشكال بالزي، ولنا الكثير من الآثار المتوارثة حول هذه القضية سواء من آثار قرآنية، أو من الأحاديث النبوية الشريفة، أو الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ولعل أهمها الحديث الشريف: "خير الناس من نفع الناس".
وللحصول على الأمن الإنساني؛ يلزم التحصل على وعي يتمثل بفلترة الخطاب الصادر عن العقائد وتحليل مضامينه، والبحث في حيثياتها وقصدياتها؛ حتى تتم محاصرة التطرف المنتج من خطاب الكراهية المنبعث من العقائد المنحرفة، أو تعزيز القيم الصحيحة التي تصدر عن عقائد لم تبتعد عن الخط الذي رسمته السماء. لم يعد من المنطقي أن لا تتبنى المؤسسات العريقة المعنية بالعقائد مواقف صريحة في إدانة العنف والتطرف؛ لأن وقوفها على الحياد يعطي دعماً بصورة غير مباشرة لجماعات التطرف والتكفير، لذا يلزم الوعي بالخطابات والمواقف الصادرة من هذه المؤسسات، وتوجيه سهام النقد الموضوعي لها في حال ثبت أن مواقفها تتماهى مع ما يخدش قيم التسامح، وحثها على تبني الخطابات التي التي تمكنها من اكتساب مقومات التحضر والعقلانية والتنوير الفكري والمعرفي القادر على إحداث التغيير في الوقت المناسب في حال تعرضت المجتمعات لمنعطفات أخلاقية وقيمية، أو حتى تلك التي تتعلق بالأمن المهدد بالعنف؛ لأن المعتقدات الدينية في جوهرها انما هي منظومات أخلاقية شاملة تدخل فيها المعارف والعلوم وكل ما من شأنه الارتقاء بالقيمة الإنسانية. فالخطاب يجب أن يبتعد عن كل تقليدية ويواكب متطلبات العصر الحديث والخصوصية العالمية المستحدثة دون التنازل عن الثوابت والخصوصيات العقدية، حيث أن التنازل عنها يمثل الانتقال من العقلانية إلى الفوضى بمباركة العقائد وهذا أخطر أنواع الانحرافات التي قد تعصف بأمن الإنسان وقيمه، وتزيد من فرص تيهه واضطرابه.
اضف تعليق