لم يكن الحديث عن مصطلح "مابعد الحداثة" مجرد نبوءات أو خيالات تراود أذهان النقاد والكتاب، فالتقنية الرقمية المتجسدة في الواقع الالكتروني جعلت هذا المصطلح شائعاً قد يتغير او يتطور بفعل التقادم الزمني لنكون أمام مسميات جديدة لمفهوم الحداثة، خصوصاً بعد ارتفاع منسوب التنافس بين العالمين الواقعي والافتراضي، وكل يحاول اثبات أحقيته وتأكيد وجوده مع سعي الثاني (الافتراضي) لأن يكون متفرداً في القابل من السنوات، ما يعني تناسل الحداثات وتعدد توجهاتها بفعل الهيمنة الرقمية الساعية لخلق أطر ونماذج جديدة تذوب الخصوصيات عبر عملية تداخل تصورها الشبكة العنكبوتية على أنها من منجزات التجديد الفكري والعلمي، فضلا عن قيامها بإخفاء معايب هذا التداخل الهجين.
قراءة في المجتمع الشبكي
يرصد الباحث الكندي (دارن بارني) في كتابه "المجتمع الشبكي" العوامل المختلفة التي أدت إلى خضوع المجتمعات للسلطة الرقمية، وهي أربعة عوامل رئيسة: ظاهرة مابعد الصناعية، ونظام الانتاج مابعد الفوردية، وحالة مابعد الحداثة، وأخيراً العولمة.
وبما أننا ندرس ظاهرة تناسل الحداثات، والتي اتاحتها السلطة الرقمية؛ سنتوقف عند العاملين الثالث والرابع من العوامل التي رصدها (بارني).
في العامل الثالث (ما بعد الحداثة)، يعتقد أن نقداً عائماً وغامضاً نشأ؛ بسبب حالة "السيولة المعرفية" التي أثَّرت في العلوم الإنسانية لدرجة اعتبار القوة بؤرة للحياة وليس العدالة، وعند هذه الجزئية نتوقف؛ لنسأل: هل قدمت "البؤرة الحياتية" الممثلة بالقوة حسب الرؤية السابقة ما يفيد البشرية؟، هل عززت قيم التعايش والتسامح أم تصاعدت وتيرة السلوك العنفي؟.
بنظرة واقعية وبسيطة يمكن أن نكتشف المسافة الفاصلة بين مفردة القوة من جهة، وقيم اللاعنف والسلم؛ فنصل لنتيجة أن الخضوع غير العقلاني للهيمنة الرقمية سينتج حداثات جديدة تتناسل، لكن عكس الفطرة البشرية.
ومن هذه النقطة نتصل بالعامل الرابع وهو "العولمة" التي تسلطت -بحسب بارني- وصارت ظاهرة تسيطر على فهم "المجتمع الشبكي"؛ لدواع تتعلق بالاقتصاد، وبعد تحليل طويل يعترف بعدم حيادية التقنيات الرقمية، بل وبارتباطها بأجندات سياسية؛ ويخلص إلى أن المجتمع الشبكي ماهو إلا عملية تحديث للرأسمالية، مع الحفاظ على جوهرها.
الظواهر المشتبكة
إن هيمنة الميديا تشي باشتباك ظواهر متشظية بين العالمين الواقعي والافتراضي، وربما ستطول مدة الاشتباك من دون معرفة نتيجة محددة، ما يعني تناسل النظريات رغم دعوات الغائها بوصفها "مرحلة ومنهج" حسب رؤية الكاتب اليمني هاني الصلوي، والذي يرفض أيضاً مصطلح "بعد مابعد الحداثة"، لكنه بالمقابل يقدم في كتابه (الحداثة اللامتناهية الشبكية .. أزمنة النص ميديا) مصطلحاً جديداً أسماه (العصر الفائق) عاداً إياه جسراً لعبور الانسان إلى مرحلة متقدمة من الحداثة الشبكية الرقمية، حيث صار الكومبيوتر سلطة لايمكن لأية عملية تفاعل أن تمر بدونها بنسب كبيرة وهائلة.
لكن هذا لايعني أن (العصر الفائق) هو خلاصة التكامل البشري، خصوصاً مع ما يشهده العالم من مشكلات تتفاعل في المحيط الانساني، والتي يلعب العالمان الافتراضي والواقعي دوراً فيها، بل أن الهيمنة الرقمية وزمن الميديا يمكن أن يكونا من عناصر تضليل البشرية، ودفعها باتجاه الخراب، في حال خضعت لأدلجة معينة، او منحت مساحاتها لتصارع الإيديولوجيات المختلفة.
إنَّ هيمنة نص الميديا قد يعطل مشروع الكشف عن الأنساق، وبالتالي ركود العقل في هوامش نصية مفترضة، وعدم حركته ستؤدي بالنتيجة إلى مزيد من الخطابات المضببة.
صحيح أن تنوع أشكال التفكير هي من محفزات انتاج مناخ معرفي، لكن هذه الأنواع تحتاج دائماً لضابط مفاهيمي يضعها على سكة صحيحة تقف في منتصف العلاقة بين القديم والجديد، وتحدد مسارات الحداثة بشكل يبتعد عن أي "استفزاز" للخطابات الماضوية، والتي قد تُقرأ من زاوية أنها نبوءات مستقبلية، وهو ماميز الفكر الأوروبي على غيره، فلم يرمِ الأوروبيون الماضي خلف ظهورهم، بل وضعوه على طاولة وأخضعوه لمشرحة نقدية فاحصة، لينطلقوا منه صوب الآفاق الرحبة لكل جديد وحداثي.
فإذا كانت الهيمنة الرقمية ذاهبة باتجاه تعطيل الكشوفات؛ فهي هيمنة لن تفضي سوى لمزيد من التشظي الفكري والمعرفي.
ماذا عن ما بعد الحداثة؟
هل جلبت الحداثة السلام والاستقرار للإنسان؟، وهل أن رفض الخصوصيات القومية، والدينية، والجغرافية، بذريعة الارتكاز على تأريخ جرى تزييفه وهو غير صحيح بشكل كلي وفق نظرة القائلين بهذا الرأي، سيجلب الطمأنينة، ويمثل الحل لكل مشكلات الوجود البشري المأزوم؟.
طبعاً، وأمام هذا السيل الجارف من الأزمات التي عصفت بالإنسانية، صار واضحاً أن الحداثة وفق المتبنيات الانفلاتية من القيم والخصوصيات؛ لم تقدم حلا بقدر مازادت في تضبيب صورة العالم الإنساني.
واليوم، وبعد شيوع مصطلح "مابعد الحداثة"؛ نعتقد أن العالم - وفق هذا التناسل الاصطلاحي - سيظل يدور في دوامة اللامعنى وللاوضوح، حتى وإن اجتهد منظرو مابعد الحداثة في الترويج لبضاعتهم الفكرية على أنها تمثل عصراً الفلسفات غير المسبوقة، وعصراً للتفكير الجديد، والتحليل المنطقي؛ لأن الحداثويين نظّروا في السابق لهذه المفاهيم أيضاً مع شيء من التطرف فيما يخص الماضي، وهو ماتنازل عنه أصحاب مابعد الحداثة.
إنَّ العبرة ليست بتناسل الحداثات، أو تناسل المصطلحات وتعدد مسمياتها، بل بقيمة مايتم انتاجه ثقافياً معاصراً، وتأثيره على الإنسان.
اضف تعليق