طالما غاب الفحص والتدقيق عن أية تجربة؛ ستكون النتيجة الفعلية لهذا الغياب هي تراكم المشكلات، وتعدد الظواهر السلبية التي تجهض أي مشروع سليم أو فكرة ناضجة يتم التأسيس لها، والإشتغال على تفعيلها.
مثل هذه الصورة تنطبق كثيراً على واقعنا العراقي، وهو يعاني من مشكلة إعادة تأهيله حتى بعد مرور أكثر من عقد وثلاث سنوات على خلاصه من ديكتاتورية شمولية، وهذه المشكلة ارتفعت إلى مصاف العقدة المعطلة التي صارت هاجساً يؤرق الحالمين بمشروع دولة حضارية عصرية، الأمر الذي كثّف من مطالبات تفعيل دور الراصد النقدي وفتح نوافذ أخرى؛ لإيصال صوته الناقد لتناسل ظواهر عنفية أربكت مشهد التعايش السلمي، والقبول بالمختلف الذي تنضج المعرفة بوجوده، وهي الحالة التي كانت تمثل أهم معاناة العراقيين قبل 2003، فضلاً عن تغييب ممنهج لدور المثقف في صناعة الحدث؛ بفعل هيمنة الأدلجة المتسلطة على مقاليد الأمور.
اللغز الغامض الذي يحيط بالتجربة العراقية الماثلة، لن تتم عملية فك طلاسمه، مالم تكن هناك صراحة فكرية وثقافية في تأويل المشكلة، والوصول إلى جذورها الرئيسة التي قد تتشابك وتمتد إلى أزمنة غابرة، وتاريخ طويل من الويلات والحروب والمؤامرات يصل إلى الكوفة التي اختارها الإمام علي (عليه السلام) عاصمة لخلافته الإسلامية، ومانتج عن هذا الاختيار من تداعيات سياسية لايمكن فصلها عن أس المشكلة القائمة في العراق اليوم.
الجوهر الثقافي للمشكلة
يعتقد الناقد (جمال جاسم أمين) أن الافتراضات القائمة على التحليلات الاجتماعية؛ لايمكن أن تفسر أو تقدم التأويلات بصيغتها النهائية، مالم ينظر للمشكلة على أنها "ثقافية هيكلية في جوهرها"، مطالباً بلملمة أطراف الصورة المشتتة والإنطلاق لإصلاح ماأفسدته العسكرة والأدلجة من خراب مازلنا نئن تحت وطأته.
هنا قد يكون الراصد النقدي الذي تحدثنا عنه في البداية، في حالة من الارتياح التحليلي؛ لأن النظر إلى أصل مشكلة الفشل في تأسيس مشروع الدولة من الزاوية الثقافية؛ سيسهم في إنتاج حلول غير خاضعة لمقاسات مؤسساتية، مستثمراً نشوء جيل خال من العقد الماضوية، والتصنيفات التي ضرَّت أكثر مما نفعت؛ وذلك بسبب إشكالية الأجيال ذاتها، رغم أننا لاننكر أن الأجيال السابقة التي ارتبطت بأفكار مختلفة، ساهمت في إنعاش حركة الوعي عبر التصارع المؤدلج، عكس ما نلحظه على الأجيال الحالية، فهي متحررة نسبياً من الماضي، غير أنها تميل لتغييب الجانب المعرفي والذهني عبر استسلامها لسطحية المنجز المتاح في مواقع التواصل الإجتماعي.
العنف والأضلاع المنقوصة
قد يؤخذ على التجربة الدينية بثوبها السياسي، أنها - بسبب ظلال ورواسب قديمة - من منتجات ظواهر التطرف والعنف، لكن المأخذ هنا يبدو مثلثاً بضلع واحد منقوص من ضلعين أساسيين، ينبغي إكمال المثلث بهما؛ لأن تحميل الدين كتجربة حكم سياسية لوحدها مسؤولية العنف تظل أسيرةً لفكرة رد الفعل المضاد تجاه عودة الدين للواجهة، والمقصود بعودة الدين هنا طبعا، الدين القائم على قيم الخير والتسامح. فقد اجتهد كثيرون وعبر أزمنة متعاقبة على إلغاء هذه القيم، وتحييد دورها - وذلك أضعف العلمنة - في الحياة.
وبما أننا بصدد مناقشة أسباب تعثر تأسيس مشروع بناء الدولة في العراق، لابد من أخذ ظاهرة العنف المرتبط بسوء الشروحات للمفاهيم الدينية، من المهم رصد ردة الفعل المضادة للدين بالشكل العمومي، وكيف أن أصحابها وجدوها فرصة سانحة للإجهاز على أي مشروع ديني تنويري، فتكثقت الجهود والحملات التسقيطية، واندلعت الكتابات المهاجمة للدين على إطلاقه، فصارت ظواهر عنفية مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها، من جماعات التطرف والتكفير هي أساس الإسلام وجوهره الحقيقي بنظر هؤلاء بدراية أو بدون دراية، خصوصاً عندما يتم استثمار آيات القرآن الكريم في تفسيرات سطحية جداً لتعزيز فكرة الدين العنفي، والذي يجب التخلص منه وإزاحته.
ومثل هذه الممارسات، لايمكن أن تمر دون وقفة نقدية جادة فاحصة تبحث في أنساقها وما ستنتجه، حيث أنها تساهم بشكل أو بآخر بازدهار التطرف الفكري المضاد، فيقوم المتطرفون بتبرير عنفهم وسلوكياتهم المتطرفة القائمة أصلاً على نصوص منحرفة، إذ وجدوا في ممارسات العلمانيين متنفساً لتعزيز إرهابهم؛ بذريعة الدفاع عن (الدين)، والوقوف أمام الموجات (الكافرة)، وبذلك تكون قيم التعايش السلمي هي الضحية الأكيدة لضلعي هذا المثلث الغريب.
أما الضلع الأخير للمثلث، فيتمثل في انهماك أصحاب التجربة الفعلية الحاكمة في تركيز دعائم التجربة السياسية الوليدة دون النظر بجدية إلى التداعيات التي تحدثنا عن إفرازاتها، بل أن القائمين على هذه التجربة اجتهدوا في قضية جمع الأطراف على المشتركات الغائبة أصلاً، حتى وإن كانت بعض هذه الأطراف رافضة للوضع الجديد، هذا الرفض تمخض عن تورط كبير معلن وغير معلن لهذه الأطراف بأعمال العنف.
إن سكوت هذا الضلع ومحاولة لملمة المشاكل وفق منطق الانطلاق من الراهن وطوي الماضي، سبباً لايقل أهمية عن الأسباب السابقة. وقد تحدث مناوشات وصدامات يرتفع صوتها عبر وسائل الإعلام هنا وهناك بين أطراف التجربة، لكنها سرعان ماتنطفئ بعد عملية تصالح متوقعة على مشتركات تتعلق بمصالح فئوية حزبية لاأكثر.
ثقافياً، لابد أن نعي أن الخطاب الثقافي الباحث عن مساهمة فعلية وجادة في تأسيس مشروع بناء الدولة؛ يجب أن ينأى بنفسه عن أي غموض تتيحه السياسة والتصنيفات المختلفة التي تمارس دورها كمهيمنات سلطوية فاعلة، وأن يفهم المثقفون أن أدوارهم الحقيقية في الانقلاب الجذري على لعب دور حراس الإيديولوجيا الزائلة؛ لأن هذه الحراسة ستعزز مشكلة التطرف الفكري، وبسط نفوذه على الواقع، وبالتالي إذكاء العصبيات المكوناتية، مايجعل التحولات الإيجابية - في حال حضرت - خالية من أي مضمون يضيء العتمة السائدة.
اضف تعليق