مع كل ما شهده العالم اليوم من تطور كبير على صعيد المعلوماتية، نجد ان مساحة التعصب والإنحياز المستوطنة في العقل البشري تزداد بنسب مخيفة تجعل عملية إعادة بناء المنظومة الفكرية بصياغات جديدة عملية ضرورية ومستعجلة.
لانريد هنا بهذه المقدمة المقتضبة مصادرة حق الفرد الإنساني في الإعتزاز بهويته وخصوصيته، لكن تحول هذا الإعتزاز إلى سلوكيات جافة تكرس العنف والأنانية والعصبية، وهو مانحاول الوقوف عنده خصوصاً بعد التداعيات الكثيرة التي نشهدها اليوم، والتي تسببت بتصدع مفاهيم حقوق الإنسان والحرية والتنوير نتيجة تعدد جبهات الصراع واشتعال الخنادق السياسية بعود الثقاب الإيديولوجي بهدف السيطرة على المال والسلطة والنفوذ.
وأمام هذه الحقائق المريرة من التداعي القيمي والمفاهيمي في قضية الهوية، لابد لنا من شجاعة تقودنا للإعتراف بأن شعور اللاجدوى والأمل المفقود هو المسيطر فعلياً على الوعي الجمعي.
إن انتشار التعصب في الجسد المجتمعي يؤدي إلى تقلص الشعور الوطني لصالح الهوية الفرعية. وهناك من يعتقد بوجود استعداد سايكولوجي عند الأفراد يجعلهم قابلين للتعصب مستسلمين له. وإذا سلمنا بهذا الاعتقاد فإننا لايمكن ان نغض الطرف عن العوامل البيئية والإجتماعية والثقافية والدينية، كل هذه العوامل لها - بلا شك - الدور الأكبر في تغذية التعصب عند الفرد الذي سيتحول مع مرور الوقت إلى آلة عنفية تهدد الوجود الإنساني، تساهم في تحريكها إرادات سياسية.
وحتى إذا صدئت هذه الآلة فإن زيتها موحود دائماً، وأيّ زيت أفضل من التعصب للهوية طائفية كانت أو عرقية ؟.
التغذية التأريخية والإيديولوجية
تلعب الأحداث التأريخية - بعد إجراءات ممنهجة لتزوير حقائقها - دوراً فعالاً في تغذية التعصب، بحيث تتم عملية تحويل هذه الأحداث إلى تنظيرات تشتغل عليها دول ومؤسسات ؛ لتوجه إلى جمهور محدود الوعي، ونسبة هذا الجمهور مرتفعة في مجتمعاتنا ؛ لعدة عوامل، يقف الإقتصاد في مقدمتها، وبهذه الطريقة تكون عملية قيادة هذا الجمهور يسيرة.
يرى سعد محمد رحيم في كتابه (صراع الدولة والجماعات في العراق) أن الإيديولوجيا لاتخلق الحركات المتعصبة التي يتحول التعصب عندها إلى سلوك عنفي مضر، فهو يعتقد أن العوامل المادية والتأريخية هي من يُفَعّل الإيديولوجيا بحيث تكون دافعاً ومحرضاً للسلوك العدواني، ويرى أيضاً إن الإيديولوجيا قد تبقى بين طيات الكتب، ثم تأتي شرائط وممارسات تفعيلها لسلوكيات مؤذية..ضارباً لرؤيته مثلين لحركتين متطرفتين : الأولى غير دينية تمثل حركة الخمير الحمر الشيوعية المتطرفة، والثانية دينية تمثل تنظيم داعش الإرهابي، فيقول :
" فلا يمكن تفسير الإجراءات الدموية المرعبة لحركة الخمير الحمر الشيوعية في كمبوديا، في سبيل المثال، بوجود نظريات كارل ماركس. إذ حتى مع افتراض عدم وجود هذا المفكر ونظريته إطلاقاً فإن جماعة الخمير الحمر كانوا سيعثرون على مرجعية فكرية أخرى تضفي الشرعية على سياساتهم بسياق آخر وأشكال أخرى ومسميات ملائمة، كذلك لايمكن تفسير ظاهرة داعش بوجود مذهب أحمد بن حنبل ببساطة. إذ حتى مع افتراض عدم وجود شخصية دينية تأريخية باسم ابن حنبل ومذهبه، ومن ثم تفسير ابن تيمية له، وانبثاق الحركة الوهابية فيما بعد لوُجِدت حركة داعش بمرجعية إيديولوجية أخرى ".
في الحقيقة، لانعرف المنطلقات التي انطلق منها ( سعد محمد رحيم ) في فصل السلوك العنفي للجماعتين عن الأساس النظري الذي تتبعه الجماعتان. هل يكفي الإفتراض بعدم وجود كارل ماركس أو أحمد بن حنبل للقول بأن هذه الجماعات المتطرفة يمكن لها إيجاد مرجعية أخرى تبرر عنفها وسلوكها المتعصب ؟.
إننا - وببساطة - يمكن ومن باب (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) أن نفترضَ نفس الإفتراض بعدم وجود المرجعيات النظرية الأخرى كما افترض هو عدم وجود ماركس او ابن حنبل وتفسيرات ابن تيمية، وهكذا سنظل ندور في حلقة مفرغة.
نعم، قد تكون هناك سلوكيات تبتعد عن أصولها وسياقاتها الفكرية، وهذا وارد جداً، وهو أمر واقعي، لكن ذلك لايعني تبرئة النظريات من الأخطاء وكأنها أحكام سماوية منزلة.
الهاجس الأكثر الذي يحدثه التعصب في المُتعصبِ لهويته، هو الإعتقاد بل الجزم بوجود المؤامرات التي تستهدف هويته وكيانه وانتماءه، فتتحول الهوية بهذا الهاجس من منطلق لتجاور الأفكار وتعددها وتلاقح الثقافات فيما بينها إلى حالة مرضية يصعب علاجها تفضي إلى قطيعة مع الآخر ناظرة له بعين الريبة والشك، الأمر الذي سيؤدي إلى خلل معرفي، ومن المعروف أن المعرفة تنضج مع المختلف.
البيئة والتعصب الوافد
قد تبرر حالت الفقر والفساد والحروب وعدم الإستقرار، وجود التعصب، لكن ثمة أسئلة ملحة تنقدح في الذهنية ومنها : هل أن كل مبررات التعصب للهوية مبررات داخلية ؟ وإلى أي مدى كانت بيئتنا صالحة لظهور نوع جديد من التعصب، يمكن أن نطلق عليه تسمية (التعصب الوافد) ؟.
لنأخذ مثلاً، الجماعات الإرهابية التي وفدت للعراق ؛ لارتكاب أعمالها (الجهادية)، هذه الجماعات يمكن تقسيمها إلى فئتين :
الأولى - تلك الفئة القادمة من البلدان التي يضع الفكر السلفي التكفيري يده عليها، فالقادمون بطبيعة الحال من هذه البيئة المتطرفة ينطبق عليهم الإستعداد السايكلوجي لتعصب ينتج عنفاً ؛ بسبب عزلتهم الفكرية والثقافية، فهم يرزحون تحت وطأة التصحر المعرفي، لذلك قد نجد مبررات تعصبهم وتطرفهم طبقاً لهذه المعطيات.
الفئة الثانية - وهي التي تمثل الإرهابيين الذين تم تجنيدهم وإقناعهم بالإنضمام للتيارات المتطرفة، وهم يعيشون في بلدان يفترض أنها ديمقراطية تؤمن بحقوق الإنسان.
للوهلة الأولى، قد لانجد مبرراً مقنعاً لانضمام هذه الفئة، أو حتى السؤال عن الأسباب التي تدفع شبان وشابات من فرنسا وألمانيا وأستراليا إلى الإلتحاق بهذه الجماعات.
لكن واقع الحال يحتم البحث والتقصي عن مبررات هؤلاء الشبان، وبدراسة فاحصة، نجد أن حرية التعبير وحقوق الإنسان وغيرها، ماهي إلا مصطلحات قشرية يتم التعامل معها بشكل
بالغ السطحية؛ لأنها لم تستطع القضاء على مشكلات البطالة والفقر، وبذلك قد نصل إلى نتيجة خطرة تشي بأن الأنظمة (الديمقراطية) ساهمت بنشوء التطرف، وبدوره أنتعش التعصب الذي لابأس بانتعاشه خارج حدود هذه البلدان، غير أن السحر انقلب على الساحر حين شاهدنا أكثر من عملية إرهابية طالت هذه البلدان. وبذلك صار لنا تعصباً مُعَوْلَماً، وصارت بيئتنا المضطربة أصلاً ساحة خضراء للتباري بين التعصب المحلي والتعصب الوافد.
ترسيخ اللاعنف انطلاقاً من الهوية
رغم كل ماتقدم من الموضوعات التي سببت العنف، بالفهم الخاطئ لموضوعة الهوية الفرعية وإشكالاتها، إلا أنها يمكن اعتبارها منطلقاً لمسارات مغايرة ترسخ مبدأ اللاعنف، ولابد أن يكون منطلقاً واعياً لمرحلته نابعاً من نظرة شاملة لمشكلات العالم الإنساني، ويضمن استقامة الحياة وإبعادها عن الفوضى الناتجة عن التعصب.
نعتقد أن المنطق الإسلامي الصحيح، البعيد عن أساليب وممارسات التزييف والإنحراف، هو الضامن الأكيد لتجاوز الهوية تبعات التعصب والعنف، فهو يؤكد على احترام الآخر ومتبنياته وعقائده حتى مع اختلافها وتعارضها مع أصل التشريع الإسلامي، حيث يتجلى ذلك في الروايات والأحاديث الواردة عن الرسول الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
لذلك يمكن استثمار الهوية الإسلامية بخصائصها الأخلاقية الداعية إلى التسامح؛ للوصول لتكوين مجتمع نموذجي تسوده العدالة والكرامة.
ولأن أكثر حالات التعصب والتطرف انطلقت من القراءات الخاطئة لجوهر الإسلام الحقيقي، ينبغي التركيز على موضوعة تعزيز الأخوة الإسلامية من خلال العودة إلى فطرة الإسلام الصحيحة والأصيلة، وفي هذه النقطة الجوهرية يقول المجدد الشيرازي الثاني (قدس سره) : " كانت البشرية قبل الإسلام على أشد مايمكن من الإختلاف، فكانت فوارق اللون، واللسان، والعنصر، والجغرافية، والقبيلة، تفرق بين إنسان وآخر، وعندما جاء الإسلام، أزال جميع هذه الفروقات، وحمل شعار (إنما المؤمنون إخوة) ".
اضف تعليق