في العراق قد تكون عبارة القانون فوق الجميع من العبارات المتهالكة او الساخرة، بعد ان برئ القضاء العراقي رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي من تُهم التزوير الموجهة إليه، بعد رد الشكاوى وإغلاق التحقيق، بمصادقة محكمة التمييز الاتحادية واكتساب القرار الدرجة القطعية...

عبارة "القانون فوق الجميع" من العبارات المتهالكة والمضحكة في العراق بعد ان برئ القضاء العراقي رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي من تُهم التزوير الموجهة إليه، بعد رد الشكاوى وإغلاق التحقيق، بمصادقة محكمة التمييز الاتحادية واكتساب القرار الدرجة القطعية.

امر لا يختلف عليه اثنان ان العدالة وخضوع الجميع لحكم القانون من الضرورات الحتمية التي يجب ان تسود في البلد لتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق القيم الأخلاقية ووضعها الى جانب المبادئ السياسية، لكن قرار التبرئة يحمل اوجها غير مشرقة عن القضاء العراقي.

حيث شكل قرار إسقاط التهم عن الحلبوسي وقبله عن النائب احمد العلواني الذي حُكم عليه بالإعدام بتهمة قتله جنديين عراقيين، هزة مدمرة لمكانة السلطة القضائية في البلاد، وفتح الباب امام الكثير من التأويلات حول مصير القضاء وسط التجاذبات السياسية والتأثيرات الحزبية التي جاءت هذه المرة بهيأة قانون العفو العام.

قانون العفو العام شُرع وكان الهدف الأساس منه (الهدف الظاهري)، لرفع الحيف الذي طال بعض الأبرياء عبر زجهم في السجون لسنوات دون تحقيق، او تم سجنهم لقضايا لا تتعلق بأمن الدولة والاستقرار الاجتماعي.

اما الهدف الباطن للقرار يتضح في الافراج عن اشباه العلواني وإسقاط التهم عن الحلبوسي وغيره ممن كان لهم الدور الكبير في تأجيج الصراعات الطائفية وتعزيز النزعة القومية وحث ودفع الجماهير على تخريب النظام وإفشال التجربة السياسية التي يتبناها أبناء الطائفة الشيعية بمشاركة الطوائف الأخرى.

عذرا لهذه التسميات، لكنها جاءت من باب التفصيل الدقيق للوضع القائم، وما افرزته ساحات العزة والكرامة من شخصيات مجرمة بحكم المواد القانونية، حتم علينا الخوض بهذه التفاصيل.

فمثل العلواني والحلبوسي كان لهم الدور الأبرز في إشعال الفتن والتحريض من خلال الخطاب الطائفي، وغيرها من التهم التي حولتهم من شخصيات سياسية الى متهمين محكوم عليهم بمواد قانونية ومن ثم الى شخصيات مناضلة، بعد إسقاط التهم بطريقة سياسية غير أصولية.

قد يكون العراق من التجارب الفريدة في المنطقة في إعادة تسمية الأشخاص من قيادي الى مجرم، ومن مجرم الى قيادي، بهذه السرعة الفائقة والكيفية العجيبة!

إطلاق التهم وإسقاطها في توقيتات معينة يجعلنا وضع العديد من علامات الاستفهام، فالنيل من الخصوم وفي مدة وجيزة قبيل الانتخابات المحلية له دلالته الواضحة، وهي محاولة تقليص نفوذ هذه الشخصية وخلق رأي عام معادي لحين إثبات العكس، هذه في حالة وجود العكس أي "البراءة".

بينما الموضوع الأكثر حساسية على المستوى السياسي هو إذا كانت هذه التهم ملفقة من الأساس وجاهزة للاستخدام من قبل الخصوم السياسيين ضد الرموز السنية، او بالعكس، فمثلا الحلبوسي يعد وجها سنيا صاعدا، قادرا على تكوين وبناء تحالفات مع الأطراف الداخلية والإقليمية.

ومثل هذه التحركات والتحالفات تخلق نوع من عدم الارتياح بالنسبة للساسة على الطرف الآخر، ما يجعلهم يبحثون عن طريقة لإبعاده او اقصاءه مؤقتا لحين انتهاء المهمة او الوقت الحساس كأن يكون انتهاء مدة الانتخابات المحلية على سبيل المثال.

إسقاط التهم اليوم لا يمكن قراءته بمعزل عن محاولات بعض الأطراف لإعادة هندسة التوازنات السياسية، سواء في سياق الصراع داخل البيت السني، أو في إطار إعادة تعريف أدوار القوى داخل البرلمان المقبل، خاصة مع تصاعد الحديث عن انتخابات مبكرة أو تغييرات محتملة في القيادة التنفيذية.

فالتوقيت الحساس للقرار يزيد من الشكوك، فبعد أشهر من الإقصاء الإعلامي والمؤسسي، يأتي إسقاط التهم متزامناً مع تحركات سياسية متسارعة، ومع انقسام واضح في صفوف الكتل السنية، خصوصاً في ظل صعود شخصيات منافسة تحاول التأسيس لمرحلة ما بعد الحلبوسي.

ولكل قرار يصدر في العراق أكثر من بُعد او أثر، ومن أبرز ما أثاره القرار هو الجدل حول استقلال القضاء العراقي، الذي يُنظر إليه بوصفه ساحة متأرجحة بين ضغوط السلطة وتطلعات الإصلاح، فبينما أكدت الجهات القضائية المعنية أن إسقاط التهم استند إلى معايير قانونية، يرى مراقبون أن الخطوة تعكس تدخلات سياسية تهدف إلى تبييض صفحة الحلبوسي تمهيداً لإعادة إدخاله إلى الواجهة.

ولا تتوقف تبعات القرار عند حدود الداخل السني، بل قد تؤثر على شكل التحالفات الوطنية الكبرى. فالحلبوسي، بعلاقاته مع بعض أجنحة الإطار التنسيقي وتنسيقه السابق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، كان يشكّل جسرا مهما في بناء توازنات ما بعد حكومة الكاظمي.

إسقاط التهم عن محمد الحلبوسي لا يمكن فصله عن السياقات السياسية الراهنة في العراق، ولا عن الترتيبات الجارية لإعادة تشكيل مراكز النفوذ، ففي ظل غياب مشروع سياسي وطني جامع، تصبح عودة الحلبوسي إلى الواجهة مرهونة بقدرته على إعادة التموضع ضمن شبكة التحالفات المتغيرة، وبمدى قدرته على ابعاد التهم المتوقع توجيهها في الشهور القادمة وتعيده متهما او مجرما مؤقتا؟

اضف تعليق