: قد يكون من الصعب جدا تغيير نهج لمجتمع انغمس غالبيته في التعامل المشبوه، لكن ربما يسهل الامر حين التعامل مع القضية على مستويات معينة، بدء بالموظف البسيط صعودا الى قمة الهرم، وبالتأكيد هذا لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل يحتاج الى استراتيجية معينة وظيفتها اقتلاع جذر الفساد على المدى البعيد...

في حديث خاص مع موظف في وزارة المالية، قال ان الشهر الذي يحصل فيه على اقل من مليونين او أكثر وكأنه لم يحصل على شيء، هذا المبلغ بالتأكيد غير الراتب الشهري، فكيف يحصل على هذه المبالغ الوفيرة وما هي المبررات التي تجعله يواصل الطريقة غير الأخلاقية في الكسب غير المشروع؟

ينزعج الموظف في الشهر الذي يقل فيه إيراده عن طريق العمولات المشروطة مع المراجعين، او من خارج الدائرة، وكأن الرشوة تحولت الى نهج عام وثقافة سلوكية بالنسبة له ولغيره في اغلب المؤسسات الحكومية وكذلك ذات النفع الخاص.

من أصعب الأشياء الانتظار، فما بالك عندما يكون في دائرة حكومية خالية من ابسط مقومات الراحة؟

لا توجد أماكن للجلوس، لا توجد أي وسيلة لراحة المراجع، وفي المحصلة النهائية مثل هذه الأجواء تجعل المواطن يبحث عن طريقة لإكمال معاملته دون الاضطرار الى الانتظار طويلا.

وبهذه الطريقة يوفر على نفسه الراحة، بعد ان يعاني قليلا نتيجة البحث عن الشخص الذي يوصله الى الموظف المرتشي كما نسميه نحن، والمسهل للأمور كما يطلق على نفسه، اذ يعتبر هذا العمل من الأشياء المشروعة، ولا ضير في الاستمرار بهذه الحالة من الاستنزاف المالي من المواطنين المساكين.

وقد يقول احدكم، ان المواطن هو السبب الرئيس في كل ما يجري.

فهل الطرح منطقي؟

اجزم انه غير منطقي ولعدة أسباب:

السبب الأول ان المواطن يواجه من اجل إكمال ابسط المعاملات عشرات التعقيدات والروتين غير المبرر، ما يجعله يبحث عن ابسط الطرق وأسرعها إنجازا، ولهذا يضحي في الأموال لشراء ذمة الموظف المعني، وإجباره على تسريع معاملته وربما إخراجها من التسلسل.

اما السبب الآخر هو الطمع والجشع الذي حوّل الموظف من وسيلة لخدمة الناس الى عامل ضغط نفسي ومالي على المراجعين، وبدأ في التردد في أداء مهامه اليومية دون مقابل مادي، يعتبر المنشط للدورة الوظيفية، في المقابل لا يهم ماذا يحصل للمواطن الذي تستمر معاناته في جميع الأحوال.

من مبررات اخذ المبالغ من المواطنين في العقود الماضية هي ان الموظف كان يتقاضى مرتبا زهيدا جدا، لا يكفي قوت أيام معدودة من الشهر، بينما يُمنع من العمل خارج أوقات الدوام الرسمي، مما يجعله يتجه صوب الفرد المراجع لأخذ ما تيسر من الأموال لقاء انجاز معاملته او عبورها مرحلة مهمة.

لكن في الوقت الحالي وبعد تحسن الرواتب بما يغطي الجزء الأكبر من الشهر، لا يوجد أي مسوغ لمقايضة المواطنين، وجعل اكمال المعاملة يقابله نوع من الخدمة او قيمة مادية، اذ يؤشر ذلك الى حالة من الفوضى الرقابية والإدارية في معظم المؤسسات الحكومية.

ومع انتشار رائحة الفساد الذي أصبح نهجا عمليا يوميا في المؤسسات، يبقى العلاج غير كاف، ولا يزال النهج الفارق هو السائد او الشائع في اغلب دوائر الدولة، حتى بات المواطن يفكر بطريقة الوصول الى الموظف الفاسد قبل الوصول الى الدائرة، في محاولة منه لتجنب الرحلة الملتوية.

ومع كثرة الهواتف المخصصة للإبلاغ عن الحالات المشبوهة والفساد في دوائر الدولة تبقى هذه الظاهرة آخذة بالاتساع، وربما السبب الوحيد وراء هذا التوسع في نطاق العمل المشبوه، هو عدم جدية جهود المحاربة، وعدم ايمان القائمين عليها بأهمية دورهم وحساسيته.

أضف الى ذلك مقدار الضغوطات التي يواجهها الموظف المعني بكشف شبهات الفساد، وقد تتعرض حياته الى الخطر او التهديد بالقتل، إذا استمر بكشف بعض الملفات او محاولته إزالة الغموض الذي يكتنف قضية من القضايا، كأن يكون لغط حول صيغة عدد من العقود الحكومية فيما يخص التسليح او ابرام بعض الاتفاقيات المهمة على المستوى الاقتصادي او الأمني.

قد يكون من الصعب جدا تغيير نهج لمجتمع انغمس غالبيته في التعامل المشبوه، لكن ربما يسهل الامر حين التعامل مع القضية على مستويات معينة، بدء بالموظف البسيط صعودا الى قمة الهرم، وبالتأكيد هذا لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل يحتاج الى استراتيجية معينة وظيفتها اقتلاع جذر الفساد على المدى البعيد. 


اضف تعليق