من الطبيعي أن ما يقلق أميركا هو ما يقلق إسرائيل واللوبي اليهودي، وليس موضوعا أخلاقياً أو قيميّاً وأمنياً كالذي يهمنا في العراق ودول المنطقة، نحتاج إلى عمل سياسي وقضائي وتشريعي متكامل لمواجهة موجة التفاهة والفحش والانحطاط، التي يتعرض لها مجتمعنا من خلال منصات التواصل...
وفوق كل هذا نحتاج إلى توفر إرادة الفعل التي لا تتوفر عادة لأسباب شتى. الأمر يحتاج إلى لجنة عليا يرأسها مخوّل من رئيس الحكومة مباشرة مهمتها دفع المؤسسات المعنية وتنسيق عملها ومراقبته، إلى استنفار كامل جهودها للسيطرة على محتوى وسائل التواصل، التي باتت سوسة تنخر في جسد المجتمع وأمنه وأخلاقه. بوجود البدائل التقنية، لا يمكن حجب مواقع شبكات التواصل أو باقي المواقع بشكل كامل. لكن دولاّ عديدة عالجت هذه المشكلة من خلال عدة إجراءات متوازية.
قانون صارم، وإجراءات أمنية لتنفيذ القانون، وتقنيات تمكّن من الوصول إلى أصحاب الصفحات أو المواقع في حال كانت بأسماء مستعارة. هذا الامر يتطلب أيضا اتفاقات مع شركات التواصل، ووضع شروط مقابل عدم غلقها في العراق تجعل هذه الشركات تتعاون مع الجهات العراقية المعنية، وتضع تحت تصرفها المعلومات التي تطلبها، أو تستجيب لطلبات غلق صفحات معينة وغير ذلك. هذا ما فعلته دول مثل تركيا والامارات العربية المتحدة.
هذه الشركات تستجيب دائما، لأن إغلاقها في العراق سيخسرها عشرات- وربما مئات- ملايين الدولارات. المهم أن تكون هناك جهة واحدة تتحدث باسم الحكومة العراقية، لا أن يتم التواصل معها عبر عدة جهات وبشكل يبدو شخصيا. نعم هذا ما حدث سابقا وجعل هذه الشركات لأي طلب عراقي.
شركات التواصل الاجتماعي تسعى لجني المليارات، وكلما ازداد التفاعل على صفحاتها جنت أكثر. مديرة رفيعة في شركة الفيس استقالت قبل عامين وفضحت ما يجري داخلها. تقول إننا نبلغ الإدارة العليا بأن كثيرا من التفاعل والتخاطب على صفحاتنا يؤدي إلى ترويج العنف والكراهية، فيأتينا الجواب: إذا أردتم الاستمرار بالحصول على رواتبكم العالية والمكافآت المجزية فعليكم أن تسمحوا بذلك.
أغلب هذه الشركات أميركية، وهي مرتبطة بقوى الضغط التي تعمل داخل الساحة الإدارية، ولها اتفاقات مع الأجهزة الأمنية الأميركية وهو ما طبع أداء هذه الشركات وجعلها خاضعة لما تريد الإدارة والأجهزة الأمنية ولوبيات الضغط. اتضح ذلك بشدة منذ احداث غزة والحصار الذي فرضته مواقع التواصل على المنشورات غير المرغوب بها اسرائيلياً.
لكن أميركا ذاتها تأثرت بنشاط مواقع للتواصل خارجة عن السيطرة الأميركية مثل موقع “تك توك”، الصيني الذي كان له الفضل الأكبر في نشر حقائق من داخل غزّة وما تقوم به القوات الصهيونية من عملية إبادة جماعية لسكان القطاع.
الاعلام التقليدي ومواقع التواصل الأميركية الارتباط حجب الصورة الحقيقية، لما يجري لكن الموقع الصيني أوصلها كاملة مما أحدث انقلابا في الشارع الأميركي ظهر بشكل مسيرات احتجاج وتضامن مع فلسطين وتنديد بالإبادة الاسرائيلية في غزّة وبالإدارة الأميركية لدعمها إسرائيل بالتأييد والتسليح. بلغ هذا الأثير حد تراجع حظوظ بايدن بالفوز في الانتخابات القادمة في نوفمبر أمام خصمه دونالد ترامب الأكثر سوءاً من غريمه.
هذا الأمر دفع المؤسسات الصهيونية الأميركية إلى تحريك نواب الحزبين، لتقديم مشروع قانون بغلق منصة “تك توك” في أميركا أو شراء امتيازها في الولايات المتحدة من قبل شركات أميركية تتحكم بمضمونها، واللافت أن شركات يملكها أثرياء يهود داعمين لإسرائيل هي المرشحة للشراء إذا ما تمت الصفقة. إذا كانت أميركا بقوتها وأساطيلها قلقة من واحد من منصات التواصل وتسعي بكل امكانياتها إلى ابعاد تأثيره عنها، فهل يعقل أن نسكت نحن أو نتراخى في أمر ابعاد شرور هذه المنصات عن مجتمعنا؟
من الطبيعي أن ما يقلق أميركا هو ما يقلق إسرائيل واللوبي اليهودي، وليس موضوعا أخلاقياً أو قيميّاً وأمنياً كالذي يهمنا في العراق ودول المنطقة. نحتاج إلى عمل سياسي وقضائي وتشريعي متكامل لمواجهة موجة التفاهة والفحش والانحطاط، التي يتعرض لها مجتمعنا من خلال منصات التواصل، ولا بد أن تكون الجهود متواصلة، بنفس الزخم وليس على طريقة الهبّات التي تطبع سلوكنا ومعالجاتنا للمشكلات الأخرى.
اضف تعليق