العامل المشترك بينهما هو صناعة الخير، أي أن الهدف المشترك لكل منهما هو جلب الفائدة والصلاح للمجتمع. رغم التشابه بالهدف فهناك نقطة تباين بين المفهومين تكمن في أسلوب وطريقة كسب الخير وتحصيل الفائدة. هذا التباين سواء أكان في عموميات الأسلوب أو خصوصياته أو في طبيعته...
هل تنجح فعلا السياسة البرغماتية في تحقيق المصالح المستهدفة، وكيف يمكن أن تستفيد السياسة من الأخلاق لتحقيق المصالح؟
تباينت الرؤى بين فلاسفة السياسة وصانعيها في كنه العلاقة الجدلية بين السياسة والأخلاق إلى الحد الذي يرى فيه البعض أن السياسة متجردة من الأخلاق ومنفصلة عنها، وهذا على نقيض رؤى البعض الآخر الذي يرى أن السياسة جزء لا يتجزأ عن الأخلاق ولا يمكن الفصل بينهما.
من أجل رصد مواقع الاختلاف في المفاهيم بين الطرفين ومن أجل البحث بهكذا موضوع حساس وهام وخصوصاً بوقتنا الحاضر، فلابد من وضع تعريف بسيط لكل من المصطلحين وإيجاد العامل المشترك بينهما كي يتبين وجه الصلة وطبيعة العلاقة القائمة عندهما.
تعرف السياسة بأنها "سبل قيادة الجماعات البشرية وتدبير شؤونها من أجل خيرها ومنفعتها"، وتعرف الأخلاق بأنها "القيم والمثل الصالحة التي يجب أن يتحلى بها الفرد من أجل صناعة الخير وتجنب الشر". من خلال تعريف المصطلحين نستنتج بأن العامل المشترك بينهما هو صناعة الخير، أي أن الهدف المشترك لكل منهما هو جلب الفائدة والصلاح للمجتمع. رغم التشابه بالهدف فهناك نقطة تباين بين المفهومين تكمن في أسلوب وطريقة كسب الخير وتحصيل الفائدة. هذا التباين سواء أكان في عموميات الأسلوب أو خصوصياته أو في طبيعته ونوعيته.
من أجل فهم هذه المفارقة وهذا التباين لابد من تصنيف السياسة طبقا لطبيعة ارتباطها بالاخلاق إلى الصنوف الأربع التالية:
أولا/ السياسة اللا أخلاقية: هي أسلوب سياسي متجرد عن القيم الإنسانية يتبنى سبل القوة والقهر وفرض الإرادة في سبيل تحقيق الفائدة والهدف. هذا الأسلوب السياسي يرفع شعار "الغاية تبرر الوسيلة وان مقتضيات الضرورة لا تخضع للقانون"، اي إباحة كل الأساليب والسبل لتحقيق الغاية والوصول إلى الهدف بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية والمثل الإنسانية. تبنى هذا المفهوم المفكر السياسي "مكيافيلي" كما بين ذلك في كتابه الموسوم "الأمير"، وانتهجه فكرا وتطبيقا "ادولف هتلر" المستشار الألماني الأسبق، كما انتهجه زعماء سياسيون آخرون امثال؛ موسوليني وفرانكو وستالين وغيرهم. نهج حكومة إسرائيل المتطرفة المتربعة على السلطة حالياً هي مثل صريح وواضح في أسلوبها السياسي اللا اخلاقي!.
ثانياً/ السياسة الأخلاقية غير المشروطة: هي سياسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعرى الأخلاق وثوابتها، سواء أكانت هذه الأخلاق ظرفية سائدة معتمدة على الأعراف المجتمعية والقيم، أو أنها أخلاق منبعثة عن أصول عقائدية راسخة في المجتمع. هذه السياسة الأخلاقية البحتة هي وجود نظري في أغلب الأحوال تسعى لها المجتمعات عامة لكن لا حقيقة ملموسة لها على أرض الواقع إلا ما ندر! من ينتهج الأسلوب الأخلاقي الخالص في تعامله السياسي سيصطدم، دون شك، بصخور الشر المتراكمة حوله فتشل حركته وتستنفذ إرادته وتضعف قواه!. السياسة الأخلاقية الحقة حلم تحقق نظريا في "الدولة الفاضلة" لدى أفلاطون وفي أدبيات إبن خلدون من خلال كتابه" المقدمة" وفي مقولة ابو حامد الغزالي "الدين والسلطان توأمان"، أو أنها حصلت بعيداً في عمق التاريخ وفي لمحات قصيرة مستعجلة!. في عصرنا المتأزم هذا قد يستحيل التكهن بانبعاث سياسات أخلاقية غير محصنة.
ثالثاً/ الازدواجية والنفاق السياسي: وهي سياسة مغالطة وذر الرماد في العيون، حيث يرفع السياسيون شعارات مغلوطة في القيم والأخلاق والإنسانية وحقوق الإنسان، وما هي إلا حيلة وخداع، أما الفعل على الأرض وفي واقع الحال فإنه يتناقض تماما مع هذه الشعارات المرفوعة ولا يتوافق معها جملة وتفصيلا. هذا النفاق السياسي يصاحبه ازدواجية المعايير والتصرف، يتجلى ذلك في تصرفات السياسيين الذين تتناقض أفعالهم بتناقض الزمان والمكان وبتباين الأهداف والمواقع والاحوال، فكم من مرة يعكسون الآية فيدينون المظلوم ويبكون على الظالم، وكم من مرة يحللون الحرام ويحرمون الحلال حسب احتياجاتهم واراداتهم وميولهم ومصالحهم. واقع عالمنا اليوم مليء بالأمثلة والافعال المشينة التي تندرج تحت هذا الفصل وهذا العنوان.
رابعاً/ السياسة الأخلاقية المحصنة بالحزم: إلتزام الدولة بالسياسة الأخلاقية المبنية على العدل والحياد والتسامح والاستقلالية والنهج الصحيح في إدارة الدولة أو في التعامل مع المحيط الخارجي لها، قد يعرضها إلى مصاعب وتحديات واخطار حد الهلاك! هذه المتاعب قد تكون نابعة من منشأ داخلي" من داخل المجتمع" او من مصدر خارجي" الدول الأخرى"، حيث سيفسر صلاح النهج وصدق الأخلاق بالضعف والهوان وسيستغل الموقف لتمرير اجندات خاصة. لابد للدولة المنتهجة للسياسة الأخلاقية الحقة أن تحصن نفسها بالعزم والتحضير والتأهب لدرء مخاطر المتصيدين بالماء العكر والذين لا تروق لهم رؤى الصلاح والإصلاح والاستقلالية لدى الغير.
السياسة الأخلاقية الحازمة والمتحصنة بالقوة والانتباه هي الانجع والاصلح والاسمى عطاءا في عالمنا اليوم وهو عالم التناقضات والشرور، وهي ردة فعل مناسبة في عالم تغزوه السياسات اللا اخلاقية.
من خلال هذا التصنيف البسيط للسياسات المعاصرة، نستطيع الاستنتاج بأن الصلة بين السياسة والأخلاق هي صلة أساسية متكاملة وثنوية ضرورية ومتلازمة لابد منها. السياسة المجردة من الأخلاق هي سياسة بدائية عشوائية ضالة تسعى إلى استخلاص الفائدة من أركان الشر وعلى حساب ايذاء الغير، وهذا سلوك منافي لناموس البشرية ومخالف للروح الإنسانية. السبيل الناجع في السياسة والحكم هو السبيل الممنهج والمماهي للسيرة النبوية في الحكم القائم على دمج الأخلاق المنبعثة عن الإيمان الصادق مع السياسة السامية إلى مكارم الأخلاق.
اضف تعليق