هل الديمقراطية المستحدثة في سوريا ستعتبر وتستفيد من الأخطاء التي حصلت خلال ممارسات غير سليمة اقترفتها السلطات التي لبست ثياب الديمقراطية في بلدان أخرى كي تتجنب الوقوع في هوة مضاعفاتها؟ وهل ستترك سلطة الإنقلاب المسلحة الخيار للشعب نفسه في إختيار الحكومة التي يراها مناسبة له دون تدخلات أو...
هل سقوط الأنظمة الاستبدادية بسبب المؤامرات الخارجية أم أن هناك عوامل أخرى
كيف تنظر الى الشرق الاوسط في ما بعد سوريا الأسد؟
صراع الشعوب مع ذاتها ليس ظاهرة استثنائية تحصل لدى شعب دون شعوب أخرى أو لدى أمة دون سواها، إنما هو حالة طبيعية تنشأ بأسباب ومسببات. هذا الصراع الذاتي له أسس ومحفزات تتباين بتباين الظروف والأحوال ولا يقتصر على نظام سياسي معين دون غيره أو على وضع إجتماعي خاص أو على ثقافة أو قومية أو دين أو موقع جغرافي أو تراث تأريخي أو غير ذلك، إنما هو صراع باق مع بقاء الطبيعة البشرية المجبولة على محدودية التفكير ومحدودية الفعل في تطبيق المثل العليا والأخلاق الفاضلة.
أسباب صراعات الشعوب مع ذاتها قد تكون مبنية على طبيعة المجتمع وتركيبته التكوينية، حيث يتباين النسيج الإجتماعي طبقا للتباين العرقي أو الديني أو الطائفي أو اللغوي أو غيرها فرادى أو جمعا. تتغذى هذه الصراعات الذاتية بعوامل مساعدة فعالة أخرى كالحالة الإقتصادية المتباينة بين الأطراف المتنازعة من جهة، وبتدخلات القوى الخارجية المؤثرة التي تؤجج هذه النزاعات وتستهويها بعناصر القوة والقدرة من جهة أخرى.
بغض النظر عن طبيعة نظام الدولة السياسي المتبع سواء أكان ديمقراطياً أو دكتاتوريا شموليا، فقد ينشأ صراع الشعب الواحد مع ذاته إن توفرت أسباب هذا الصراع وتوفرت محفزاته. أمثلة هذه الصراعات كثيرة وواضحة سواء أكانت صراعات غدت في ذمة التاريخ القديم والحديث أو صراعات لا تزال قائمة في واقع نشهده في يومنا هذا.
في سياق الصراعات الذاتية التي حصلت في الدول الأوربية المتحضرة على سبيل المثال، فقد تحولت يوغسلافيا السابقة إلى جمهوريات ودول بعد حروب أهلية طاحنة قامت على أسس قومية ولغوية ودينية وغيرها، كما أضحت دولة تشيكوسلوفاكيا السابقة دولتين هما جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك على أساس التباين العرقي، كذلك هو حال دول الإتحاد السوفيتي السابق التي تفككت واستقلت.
بينما سعى إقليم الباسك الإسباني إلى الإنفصال عن أسبانيا لأسباب عرقية لغوية، واستخدم جيش أيرلندا السري العنف كي يؤثر على حكومة بريطانيا المركزية من أجل انفصال أيرلندا الشمالية عن بريطانيا العظمى تحت وطأة التاثيرات الطائفية، في حين تنوي كندا الفرنسية "كيبيك" الإنفصال عن كندا الانكليزية بسبب التباين اللغوي.
رغم هذا وذاك فلم تعد هذه الأسباب التكوينية للمجتمع وحدها سببا في صراع الشعوب مع نفسها فحسب، إنما دخلت أسباب جديدة أخرى في قائمة العوامل والمسببات، منها التباين الطبقي والثقافي في المجتمع وإنبعاث النفس العنصري لدى بعض المواطنين مما لعب هذا دورا في تعميق الهوة بين الحزب الديمقراطي والجمهوري في امريكا، بينما تطور تنافر الأحزاب السياسية، المدرجة في السلم السياسي الديمقراطي الأوربي، عن بعضها إلى درجة تعذرت فيها إمكانية تشكيل حكومات تدير شؤون البلدان، وهذا هو الحال اليوم في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهي دول عريقة في تأريخها السياسي الديمقراطي!.
من خلال هذه الوقائع والتجارب المشهودة وهذا الوصف المختصر لواقع حال الديمقراطية في دول صنعت بنفسها أصول الديمقراطية وحيثياتها، نستطيع أن ندرك حساسية الموقف وخطورته حينما تفرض ديمقراطية جديدة قدمت على ظهر السلاح لبلد ليس له تأريخ ديمقراطي ولا يمتلك مرحلة تحضيرية إنتقالية، إنما يمتلك نسيجا إجتماعيا موزائيكيا تتباين فيه الأعراق والأديان والطوائف واللغات والولاءات، وتتربص به إرادات خارجية متصارعة فيما بينها!.
هذا هو واقع الحال في سوريا اليوم التي لا يتوقع المراقب للأحداث أن يرى فيها صوراً قد تختلف عن صور الديمقراطيات الفتية التي سبقتها في بلداننا العربية، والديمقراطية في ليبيا نموذجاً!. هشاشة الموقف السياسي الجديد في سوريا قد يجعلها مسرحا جاهزا لصراعات قوى داخلية وخارجية، وقد تغدو سوريا لقمة سائغة وفريسة سهلة أمام الجارة التي تتصيد بالماء العكر وأقصد قطعا "إسرائيل" التي تسعى لتحقيق خطوات حثيثة إلى الأمام ضمن طموحات دولتها العميقة!.
عدم الإستقرار السياسي المتوقع في هذا البلد قد يهدد وحدة ترابه من جهة، وقد ينشر حالة عدم الإستقرار الى دول مجاورة أخرى تعاني أصلا من هشاشة في استقرارها السياسي والعسكري والامني من جهة أخرى. هواجس المستقبل في هذا البلد قد تقودنا لطرح سؤال صعب لا مناص منه وهو: أيهما أسلم ديمقراطية التقسيم ام وحدة الدكتاتورية!؟.
فشل تجربة الديمقراطية في بعض البلدان وخصوصاً البلدان العربية قد يكون حصيلة لأسباب وأخطاء معلومة نذكر بعضا منها: أصيب قادة الديمقراطيات الفتية في بلداننا بجرثومة "شبق السلطة" التي أدت إلى تهافتهم الشديد على كراسي الحكم وعلى المصالح والأهداف الشخصية، حيث إختلط الحابل بالنابل وضاعت فرصة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، كما ألغي دور الكفاءة والخبرة في إدارة شؤون الدولة فضاع الخيط وضاع العصفور معه!.
هذا من جانب ومن جانب آخر، لم يلتزم قادة الديمقراطية في أغلب الأحيان في ضوابط وشروط الديمقراطية الصحيحة في ساحاتهم، مما يوحى إلى التساؤل: هل سيتحلى قادة الديمقراطية الجدد في سوريا بأصول ومستلزمات نجاح الديمقراطية التي تتمثل بالإلتزام الصارم بالمنهج الديمقراطي وتطبيق البنود المتعلقة بثقافة الديمقراطية، من خلال التصرفات العقلانية في احترام الرأي الآخر ومشاركة الأقليات في الحكم والاهتمام بمبدأ حقوق الإنسان وبالحريات الخاصة والعامة وبتطبيق العدالة وفرض المساواة بين أبناء الشعب في الحقوق والواجبات وبناء التكافل الإجتماعي وغيره من أمور تمس رفاه الشعب وبناء مستقبله وصيرورته وسلامته واستقراره وأمنه!؟.
هل الديمقراطية المستحدثة في سوريا ستعتبر وتستفيد من الأخطاء التي حصلت خلال ممارسات غير سليمة اقترفتها السلطات التي لبست ثياب الديمقراطية في بلدان أخرى كي تتجنب الوقوع في هوة مضاعفاتها!؟.. وهل ستترك سلطة الإنقلاب المسلحة الخيار للشعب نفسه في إختيار الحكومة التي يراها مناسبة له دون تدخلات أو إملاءات أو تزوير حقائق وذلك بإجراء إنتخابات حرة ونزيهة وبإشراف دولي!؟. وهل ستغادر سلطة الإنقلاب المسلحة الساحة السياسية دون رجعة بعد إنتخاب حكومة وطنية نزيهة تضم شرائح المجتمع السوري دون إستثناءات وخصوصيات!؟.
وفوق هذا وذاك فالسؤال الهام الذي يطرح نفسه والذي يدور في صلب موضوع المقال "صراع الذات مع الذات"، فهل ستستطيع السلطة الجديدة إحتواء التباينات الإجتماعية في الداخل السوري المتمثلة بالأعراق والطوائف والملل وفي محيط خارجي مشحون ومتقاطع أم ستزيد النار حطبا وتزيد الطين بلة!؟. هذه الأسئلة الحساسة وغيرها ستبقى لغزا يكشفه قابل الأحداث والأيام والمستجدات...
اضف تعليق