يقدم أمير المؤمنين عليه السلام، نموذجا متقنا لأسلوب التعامل الحكومي مع الناس، هذا الأسلوب الذي من شأنه القضاء على فوبيا الحكومات التي تصنعها الغطرسة والتعالي والتكبر على الناس، فتجعلهم يخافون من الحاكم أو من المسؤول، ويتحاشونه ويبتعدون عنه، بينما المطلوب هو يخفض المسؤول جناحه للناس حتى يقضي تماما على الحواجز الفاصلة بينهم...
(الحكومة في منطق الإسلام ليست سيطرة وسلطنة وغطرسة وإعلان قوّة وقدرة)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الإنسان بسبب طبيعته التكوينية، يتولد لديه هاجس مخيف من السلطة بكل أنواعها، وخاصة السلطة السياسية التي تستطيع أن تلحق به الأذى بحسب عقلية الحاكم وطريقة إدارته للحكم وللسلطة، لذلك هناك فوبيا من الحاكم لأن السلطات المختلفة تتجمع في يديه، وأنه في أي وقت قادر على اتخاذ القرارات التي تُلحق الأذى بالرعية أو العكس.
لهذا يخشى الناس من السلطة، ومن السلطان، لاسيما إذا كان متغطرسا، متكبّرا، تصيبه السلطة بالغرور والتهور، فتكون كبيرة عليه، بينما الصحيح هو أن يكون أكبر من السلطة، وأن يتعالى عليها، ويتواضع للناس، فالمنصب والمسؤولية في أصلها نوع من التكليف وتقديم الخدمة العامة، ولا ينبغي أن تكون السلطة فرصة لانتهاك كرامة الناس وإذلالهم.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول ضمن سلسلة نبراس المعرفة في محاضرة (الحكومة.. خدمة الرعية):
(إنّ الحاكم وباعتبار أنّه تجتمع عنده القدرات والطاقات السياسية والمالية والاجتماعية، يكون حاكماً مرعباً، ويخافه الناس الذين يعيشون تحت حكمه، لأنّ القوّة والقدرة والسلطان يوجب الطغيان والتكبّر، ويخاف من المتكبّر والطاغي الذي له القدرة).
وهكذا تتولد فوبيا من شخصية الحاكم، ومن الحكومات التي تتميز بالشراسة، وحين يكون الحاكم متغطرسا، فإن حكومته تجعل منه نموذجا لها، فتزيد الرعب في نفوس الشعب، بينما الصحيح هو أن يكون الحاكم نموذجا جيدا لعناصر حكومته، يعتمد اللين في سلوكه وقراراته، ويتعامل مع السلطة على أنها وظيفة يخدم من خلالها الرعية وليس العكس.
فالمعروف أن عامة الناس تهاب الحاكم وتخافه لأن السلطات تتركز في شخصه، حيث يرتفع منسوب الفوبيا كلما كان هناك احتكاك بينه وبين الناس، من هنا يجب أن (يخفض جناحه لهم)، ويكون بشوش الوجه، مشرق الطلعة، لطيف الكلام، وليّن التصرف مع أفراد الشعب، حتى يستطيع أن يمتص حالة الخوف والرعب والفوبيا التي تتولد عند الناس من شخصه.
خفض الجناح وطلاقة الوجه
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (بالنتيجة القدرات التي تجتمع عند الحاكم، بأيّة نسبة كانت، حتى في الديمقراطية التي توزّع القدرات، يكون بسببها الحاكم مجمعاً لمجموعة من القدرات والطاقات، فهذا يكون مرعباً ومخيفاً. فبحاجة إلى أنّ الحاكم ببشره وبطلاقة وجهه وبلينه وبخفض جناحه، يقابل ذلك الرعب الذي يكون في نفس الرعيّة من الحاكم، فلا يبقى من يخاف الحاكم).
لذلك أكد أمير المؤمنين علي عليه السلام، على ولاته وعامليه، بأن يتعاملوا جميعا بلطف مع الرعية، وأن لا يُشعِروا الناس بالخوف منهم، وأن لا يكونوا متغطرسين مغرورين، بل على العكس من ذلك، على الحاكم أن يخفض الجناح للرعية، وأن يجعلها تشعر بالاطمئنان له، ولا يكون متغطرسا في تعامله معهم، حتى يتمكن من تذويب حالة الفوبيا التي تصيب الرعية.
ففي كتاب العهد الذي أرسله الإمام علي عليه السلام إلى (مالك الأشتر) والي مصر، يؤكد عليه أن لا يكون (سبعا ضاريا) على الرعية، وأن يعاملهم بأسلوب ليّن يقضي تماما على حالة الفوبيا والرعب الذي يتولد عندهم من شخصية الحاكم، وفي الحقيقة مثل هذا التوجيه وهذا التعامل مع الشعب قلما تجده موجودا في تاريخ الحكومات، فهي غالبا ما تزرع فوبيا من طراز خاص في نفوس الناس لكي تضمن سلطتها عليهم ولو بالقوة، لكن هذا غير موجود في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، الذي ينبغي أن يكون نموذجا للحكام وحكوماتهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(وتفادياً للخوف الموجود لدى من تحت سلطة وحكومة شخص من ذلك الحاكم وذلك السلطان، يأمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه الحاكم بخفض الجناح للرعيّة ولين الجانب لهم، حتى لا يكون أحد في حكومة ذلك الحاكم وتحت سلطانه وتحت قدرته من يخاف منه. وهذا شيء فريد في تاريخ الحكومات وفي تاريخ العالم إلاّ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وهو معلّم لأمير المؤمنين).
لهذا فإن الإسلام حدّد مهام الحاكم والحكومة، وسنّ القوانين التي في ضوئها يتم التعامل مع الرعية، فالحكومة ليست رمزا للسلطة، وليس مهمتها (التنمّر) على الناس، ولا يجوز أن تعلن القوة والقدرة على شعبها، بل السلطة يجب أن تكون في خدمة الناس، وأن تجعل من حياتهم أسهل وأفضل، وأن تحمي حقوقهم وتقضي حاجاتهم.
تذويب حواجز الخوف من السلطة
كذلك ينبغي على الحكومة أن تراعي قضية الرفاهية للناس، وأن تكون الحكومة صانعة لهذه الرفاهية، وأن يكون هذا الأمر من صلب مسؤولياتها، في جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأسرية وسواها.
كما يجب أن تسعى الحكومة باتجاه تذويب حواجز الخوف المزروعة بينها وبين الناس، وعليها أن تقضية على ظاهرة فوبيا الحكومات، حيث تتولد عند الناس حالات قاهرة من الرعب الحكومي، أو الخوف من كل ما ينتمي إلى الحكومة من قرارات أو شخصيات حكومية، تتعالى على الناس وتتغطرس في تصرفاتها معهم، لذا فإن المهمة الأولى للحكومة ليست إرعاب الشعب، وإنما الاهتمام برفاهية الناس وتقديم الخدمات لهم.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في قوله:
(الحكومة في منطق الإسلام ليست سيطرة وسلطنة وغطرسة وإعلان قوّة وقدرة بالنسبة للرعية، بل الحكومة في منطق الإسلام، التي مثّلها رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، ليست سوى تقديم الخدمة للرعيّة، وليست الحكومة سوى مسؤولية لرفاه الرعية في كل المجالات، في مجال الرفاه الاقتصادي، وفي مجال الرفاه السياسي، وفي مجال الرفاه الاجتماعي، والرفاه في المجال العائلي).
ولكي يتم تخفيف فوبيا الحكومة، أو يتم القضاء عليها، لابد على الحاكم أن يبادر ويتعامل مع الناس بأسلوب اللين والعفو (وخفض الجناح)، حتى يمتص شحنات الخوف التي تهيمن على مشاعر الناس من الحاكم وأفراد حكومته الذين غالبا ما نجدهم في حالة من التكبر والتعالي، ويتصرفون بغطرسة مقيتة مع الناس، مما يجعلهم ينفرون ويبتعدون عن كل ما يمتّ للحكومة بصلة، سواء مركز وظيفي أو مسؤولية حكومية من نوع معين.
وهذا ما فعله الإمام علي عليه السلام بالضبط، حين كتب إلى الولاة والعاملين في إدارة المدن كحكام، فطلب منهم بشكل واح وصريح، أن يتعاملون بأسلوب العفو واللطف واللين مع الرعية، وأن يقوموا بتذويب الحواجز الفاصلة بين الحاكم وشعبه أو رعيته، وعلى الحاكم أن يخفض جناحه لهم، وخفض الجناح يعني اللين، واللين هو الطريقة الناجعة لتحييد الفوبيا التي ترافق الحكومات والحكام المتغطرسين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
لذلك (جاء في رسالة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بأيّام حكومته المباركة، إلى بعض عمّاله وولاته، وهو مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه: (وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ). أي يأمر الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في الجملة المذكورة عامله والحاكم الذي بعثه لبعض البلاد بأن يخفض للرعيّة جناحه وأن يلين لهم جانبه).
وهكذا يقدم أمير المؤمنين عليه السلام، نموذجا متقنا لأسلوب التعامل الحكومي مع الناس، هذا الأسلوب الذي من شأنه القضاء على فوبيا الحكومات التي تصنعها الغطرسة والتعالي والتكبر على الناس، فتجعلهم يخافون من الحاكم أو من المسؤول، ويتحاشونه ويبتعدون عنه، بينما المطلوب هو يخفض المسؤول جناحه للناس حتى يقضي تماما على الحواجز الفاصلة بينهم، وينهي تماما حالة الفوبيا التي تحدث لهم بسبب سلوكيات الحاكم وحكومته.
اضف تعليق