دور الإعلامي في مجتمعه قد يكون أكبر من دور الطبيب، حيث أن الطبيب يعالج علل الجسد بينما الإعلامي يناجي الفكر في المجتمع، وخطأ الطبيب قد يعود بالضرر على جسد مريض واحد، لكن خطأ الإعلامي قد يطال سلامة الفكر في كل المجتمع! كي لا يغدو الإعلام مزادا علنيا لشراء الكلمة...

هل يمكن للإعلام أن يحافظ على استقلاليته وفي الوقت نفسه يؤدي دورا تكامليا مع السلطة لتحقيق المصلحة العامة؟

وكيف يمارس الإعلاميون دورهم المسؤول في الرقابة وتصحيح السياسات الحكومية، بعيدا عن تحكم السلطة وهيمنتها؟

الإعلام في يومنا هذا يعتبر سلطة رابعة من سلطات الدولة لما يتبوأ به من مسؤولية رفيعة ويتسم به من أهمية في التأثير على سلوكيات الناس ومفاهيمهم واعتقاداتهم. من خلال فعل الإعلام يتطلع المجتمع لرفع مستوى الوعي والإدراك لدى الناس، ومن خلاله أيضا نطمح أن نرى نور المعرفة الصحيحة والثقافة الناجزة والتطور والمصداقية والانعتاق.

 بتوجيهات الإعلام المفيدة نستطيع التخلي عن السلبيات المقيمة في واقعنا ونغنم الإيجابيات في الصحة والسلامة والاندماج والتعاون والتفاهم والرفاه والتصرف القويم. الإعلام لا يمكن أن يولد من رحم المجتمع نزيها عادلا حرا طليقا لوحده، إنما هو صنيعة أفراد وجماعات وإنعكاس لأفكارهم وأهدافهم ونواياهم.

 أصحاب الشأن والنفوذ والسلطة في المجتمع هم عادة ينتقون من يقوم بالواجب الإعلامي طبقا لمؤهلاته المعرفية والثقافية والتقنية لنقل الوقائع والأخبار وتحليلها وابداء الرأي فيها، اي بمفهوم آخر لابد من سلطة أخرى تساند وتتبنى سلطة الإعلام بغض النظر عن طبيعة هذه السلطة وهذه حقيقة لا مفر منها. 

وهكذا فالنزاهة والصدق والحياد في الإعلام لابد أن يكون رهينة عوامل وبواعث وإرادات تؤثر على نهج الإعلام وطبيعته ونوعه، ويمكن استبيان هذه الحقيقة من خلال تصنيف الإعلام إلى الصنوف التالية:

 أولا/ الإعلام الرسمي للدولة: هذا الإعلام بأنواعه المكتوبة والمسموعة والمرئية يكون عادة تحت وصاية الدولة وسيطرتها في الإرشادات والتعليمات والتوجيه. هو إعلام سياسي يتماشى مع سياسات الحكومة ونهجها. تتباين مساحة حرية الإعلام النسبية في هذا الصنف من الإعلام من دولة إلى أخرى وحسب نظامها السياسي. الإعلامي هنا يكون مقيدا بضوابط والتزامات بشكل عام يصعب عليه تجاوزها عادة ومساحة حريته في التصرف قد تكون محدودة.

 ثانياً/ الإعلام الموجه: وهو إعلام توجهه سلطات خاصة طبقا لأهدافها ومستلزماتها الذاتية ومنها: إعلام الأحزاب السياسية، الهيئات الإجتماعية والدينية، السلطات الصحية والعسكرية، الدوائر التجارية والاقتصادية والمالية وغيرها. هذا الصنف من صنوف الإعلام يتمتع عادة بحرية واسعة في نشر خصوصياته في الدول التي تنتهج المسلك الديمقراطي وتتباين درجة رقابة الدولة عليه بتباين تلك الدول.

 ثالثاً/ الإعلام الحر: يرفع هذا الصنف من الإعلام شعارات البحث عن الحقيقة ويدعي الحياد والصدق والنزاهة، وينفي وجود سلطة، ايا كانت، تصدر أوامرها عليه وتؤثر على مساراته وتحليلاته للوقائع والأحداث. رغم أن الحقائق تبين في كثير من الأحيان غياب الصفات المثالية المزعومة في شعارات هذا الإعلام، غير أنه يبقى مركز ثقة أغلبية الناس لعدم وجود سلطة علنية واضحة تقف وراء هذا الإعلام وسياساته. الكثيرون في الشعوب العربية يؤمنون بهذا الإعلام الحر أن كان صادرا من دول أجنبية كالدول الغربية مثلا، بينما يشككون بوجوده في بلدانهم!. رغم هذا وذاك فقد أثبتت التجارب والأحداث الأخيرة بأن الإعلام الحر في الدول الغربية يمضي أيضا على هوى ورغبة مجسات الدولة العميقة حينما تستدعي الحالة وتقتضي الضرورة!. 

مهما كانت طبيعة الإعلام وصنوفه فلابد للإعلامي النزيه أن يتصف بالاخلاق الإعلامية الصحيحة ولا يحيد عنها مهما كانت الأسباب والمسميات. عليه أن ينطلق في سلوكياته من الهدف السامي للإعلام في نقل الرسالة الإنسانية بكل صدق ونزاهة. الموضوعية والدقة المهنية، المعرفة الواسعة واليقين من صحة الخبر، نكران الذات وتجنب استغلال المهنة لأغراض شخصية أو مصالح فئوية أو مكاسب خاصة، إحترام كرامة الآخرين وآرائهم المتباينة وعدم تسفيه أفكارهم ومعتقداتهم، كلها أمور لا مناص منها في مهنة الإعلام النزيه. 

كما أن الإلتزام بمعايير سر المهنة أمر حساس وهام، حيث لا ينبغي كشف أسرار الدولة الخاصة والمتعلقة بالمصالح العامة ولا كشف أسرار الأفراد المطلع عليها أثناء البحث الإعلامي المنجز. الإعلامي المميز يجب أن يكون إيجابيا في توجهاته بخلق المحبة في قلوب الناس ونزع فتيل الفتنة والكراهية والحقد، كما عليه ألا يروج للأفكار الضالة المستوردة من الخارج تحت يافطات حقوق الانسان وحقوق المرأة التي لا تتناسب مع القيم الأخلاقية لدينا ومع التراث والدين والنهج.

 ضمن جهاد الإعلامي في التغيير والإصلاح عليه إتباع منهج علمي أخلاقي نفسي في سلوكه التغييري هذا كي لا يخلق ردود أفعال ضارة غير نافعة تفسد الهدف وتقلب النتائج، عليه أيضا التفريق بين حرية الصحافة والإعلام في كشف الحقيقة ومعالجة الأخطاء ونشر النصائح، وبين التجاوز على القيم والمعايير والأعراف في تحليل مواقف أو معالجة احداث أو مناقشة مستجدات. 

لاضير في إنتماءات الإعلاميين الحزبية أو القومية أو المذهبية أو غيرها، لكن عليهم أن يتجردوا عن تأثيرات ذلك العاطفية على حكمهم أمام الاحداث والمواقف، وألا يحيدوا عن مسار الحياد والنهج الذي تمليه شروط المهنة.

كم هو جميل ومحمود أن ينتقد وينقد الإعلامي نفسه عندما يبين مكامن الخلل ومواضع العلل في السلطة أو الحزب أو التيار الذي ينتمي إليه! فيكون الإعلامي كالحاكم العادل النزيه الذي يحكم بالقسط والانصاف. دور الإعلامي في مجتمعه قد يكون أكبر من دور الطبيب، حيث أن الطبيب يعالج علل الجسد بينما الإعلامي يناجي الفكر في المجتمع، وخطأ الطبيب قد يعود بالضرر على جسد مريض واحد، لكن خطأ الإعلامي قد يطال سلامة الفكر في كل المجتمع! كي لا يغدو الإعلام مزادا علنيا لشراء الكلمة ولا تصبح الصحافة تجارة، فعلى الإعلامي النزيه أن ينأى بنفسه عن تجارة خاسرة ويشرع في مقارعة أسباب الرذيلة.

 كم من إعلامي صادق نطق بلسان صدق وصراحة جرفته الأمواج وأبعدته إلى حيث لا يقدر أن يعود! لكن المساومة في الحق رحلة لا تطول وصولة لا تدوم ولابد للصواب من الظهور..... فعلى هذا الأساس أن من واجب الإعلامي النزيه أن يتحمل مسؤولية المهنة التي يمارسها في مراقبة الأخطاء المشهودة حتى وإن صدرت من أعلى نقطة في هرم السلطة استناداً للحديث النبوي الشريف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وللإعلامي وسيلة ناجعة للتغيير....! 

كما ينبغي على الإعلامي الرجوع في الأمور الشائكة والمعقدة والمختلف عليها إلى تحكيم الضمير والعقل، بل الاستناد أولا على أسس فلسفة "المنقول والمعقول"، فيضرب ما يخالف النص والسنة عرض الحائط من جهة، ويبقى على ما يكفله الإدراك والاخلاق والسليقة من جهة أخرى. 

بناءاً على هذه المستلزمات وعلى هذه الأسس، نستطيع القول بأن الإعلام سلاح ذو حدين، فقد يكون اعلاما بناءاً ناجزا مفيدا يرفع شأن المجتمع ويؤمن ديمومته، أو قد يكون إعلاما هداما ضالا مضرا، يبعثر المجتمع ومن فيه وما على الاعلامي إلا أن يختار من اي صنف يرضى أن يكون.......!؟.

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدتها مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان: (الاعلام والسلطة تكامل وتقاطع)

اضف تعليق