لماذا المجتمعات المتحضرة وغير المتحضرة تصنع لجان لإختيار الطبيب الناجح والحاكم المتمكن والضابط المقتدر من أجل سلامة المجتمع وتطوره وتدير ظهرها عن السياسي المتحمس لممارسة المهنة والذي إذا أخطأ فسيجر بلده إلى المهالك والمحن!؟. لماذا لا تفحص لجان خاصة متخصصة بالسلامة العقلية والنفسية والجسدية والإجتماعية والثقافية والعلمية، السياسي...

ماهي الأسباب التي أدت إلى تصاعد الصراعات الخطيرة وتجاهل الكوارث الكبرى التي انتجتها؟ وكيف يمكن أن يشكل العقلاء عالما بلا نزاعات يسوده التعايش والتفاهم والتعاون؟

ترتقي حضارات الأمم وتسمو بإرتقاء وسمو قادتها، وتتلاشى هذه الحضارات وتضمحل بتولي قادة يفشلون في إدارة زمام الأمور في بلدانهم ويرتكبون اخطاءا لا تغتفر. شواهد الأحداث في التاريخ القديم والحديث كثيرة في إبراز هذه الحقيقة فهي براهين دامغة على صحة هذا القول، فمن القادة من عمّر ومنهم من دمّر على مر العصور والأزمان. 

 على ضوء هذه الحقيقة الخطيرة لابد للمتابع أن يقف على حيثيات هذا الواقع وعلى كيفية تولي القائد المناسب للمسؤولية المناسبة لأن نجاحه هو نجاح المجتمع وفشله هو فشل المجتمع برمته. تزاحمت النظريات والأفكار في كيفية إختيار من بيدهم زمام الأمور والمسؤولية، فنشأت مجالس الشورى وبرزت الديمقراطيات بأشكالها وصنوفها وتأسست مجالس الأعيان والبرلمانات ولكل محاسنه وعيوبه! لم تمنع إجراءات الديمقراطيات الحديثة تسلق من لا يصلح للمراكز الحساسة في إدارة الدولة وفي صناعة القرار ورسم المصير ومن ثم منع حصول ما نخشاه ونتجنبه وهو الوقوع في مصائد الخطر!.

 تسلل بواعث العبث بين صفوف السياسيين ونجاح العابثين في تسنم زمام الأمور في المكانات الحساسة لصنع القرار أصبحت ظاهرة عامة في الدول الديمقراطية ولا يقتصر هذا الأمر على دولة دون سواها، بل تجلت هذه الظاهرة بوضوح في الدول المؤسسة للديمقراطيات الحديثة وبأبشع صورها! هذه الحقيقة تسترعي إنتباه الجميع وتستدعي تدخل أصحاب الرأي والفكر في الخوض بتفاصيلها وإيجاد الحلول المناسبة والناجعة للحد من تداعيات هذه الظاهرة التي بدأت تهدد مصير العالم برمته إن إستمر التمادى والإهمال.

المجتمع يصنعه الأفراد وكل فرد فيه يجب أن يتحلى بالقيم الإنسانية والأخلاق الحميدة والإخلاص في العمل والواجب. هذا الإعتبار لا يقتصر على فرد دون آخر ولا على مهنة دون سواها، لكن الإلحاح في التركيز على هذه القيم يكون مطلبا حديا ومتباينا بتباين المهن والمسؤوليات.

 فالطبابة "على سبيل المثال وليس الحصر" تعتبر من المهن الإنسانية الحساسة لأنها تتعامل مع حال الإنسان ومع سلامة أعضائه. هذا الأمر دعا المشرعين إلى وضع قيم وأصول في ممارسة الطبابة، على الطبيب الإلتزام بها وتتبعها ومن يخالف المبادئ والأخلاق الطبية يعاقب حد سحب إجازة ممارسة المهنة. كذلك الحال بالنسبة للحاكم والضابط وغيرهم. جميع هؤلاء يعرضون أمام لجان خاصة تستكشف صلاحية ممارستهم للمهنة الحساسة التي تنتظرهم. لجان القبول الفنية هذه ليس لها وجود على صعيد العمل السياسي رغم حساسية الموقف وأهمية الإجراء! 

فمهما كانت مهنة الطبيب والحاكم والضابط هامة في المجتمع غير إنها لا ترتقي لأهمية وحساسية مهنة السياسي، لأن الطبيب إن أخطأ في تشخيص مرض قد يضر بمريض واحد أو بعدد من المرضى جراء خطئه، لكن السياسي المتربع على كرسي الحكم إن أخطأ في قراره وتصرفه فقد يصيب بضرره المجتمع برمته.

 السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا المجتمعات المتحضرة وغير المتحضرة تصنع لجان لإختيار الطبيب الناجح والحاكم المتمكن والضابط المقتدر من أجل سلامة المجتمع وتطوره وتدير ظهرها عن السياسي المتحمس لممارسة المهنة والذي إذا أخطأ فسيجر بلده إلى المهالك والمحن!؟. لماذا لا تفحص لجان خاصة متخصصة بالسلامة العقلية والنفسية والجسدية والإجتماعية والثقافية والعلمية، السياسي المتأهب لتسنم المسؤولية، كي تجيز له ممارسة المهنة!؟. 

لماذا السياسيون يمارسون مهنة السياسة في الهواء الطلق دون مانع أو رادع ومن دون شروط وضوابط، فهي مهنة حرة يمتطي جوادها من هب ودب ويراودها الصالح والطالح بدون حساب!؟. لماذا ديمقراطياتنا الحديثة تمنح قرار الحكم لأبناء الشعب في إختيار مرشحيهم دون تزويدهم بتقارير تعريفية عنهم، عن صلاحيتهم العقلية والنفسية والإجتماعية والمعرفية كي ينتبه الناخب للتفاصيل ويحسن الخيار والإختيار!؟

 لماذا نتستر ونخفي ونتجاوز على سلامة المجتمع بإخفاء الحقائق أو على الأقل بعدم البحث عن التفاصيل، إلى الحد الذي قد تتسلل فيه شخصية "سايكوباثية" إلى سدة الحكم فتنجح بالسيطرة على زمام الأمور لما تملكه هذه الشخصية من "كاريزما" كافية وقدرة خاصة على الخديعة والمناورة وكسب ود الآخرين واستقطابهم، فتذيق الشعب الأمرين بعد فوات الأوان!!؟. 

أليس من واجبات العمل الديمقراطي أن ينجز فيه عملية فحص إجباري للمرشح السياسي من قبل لجان مختصة، كي لا يتسلل مرضى العقل أو مرضى النفس أو من لديهم علل إجتماعية وخيمة إلى السلطة فيعكسون مرضهم بسياساتهم المريضة التي تؤذي الشعب وتدمر مستقبل الأمة!؟. 

دون شك سيعترض الكثير من السياسيين على هذه الفكرة وعلى مبدأ إنشاء لجان فحص فنية متخصصة ومتكاملة تحكم بصلاحية السياسي في ممارسة مهنة السياسة، لأنها ستكشف وتكتشف العورات المخفية وهذا الأمر لا يروق لهم.

مهما يكن من أمر، فلابد أن يكون هذا الإقتراح مطلبا شعبيا عاماً يتم تطبيقه كي لا ينخدع الناخب بمرشحه لعدم إطلاعه على المعلومات الكافية عنه وعن خفايا الأمور التي قد تهم الناخب وتتعارض مع طموحاته. فكم لبس لص ثوب التقوى والنزاهة، وكم رفع مارق شعار الصلاح والإصلاح وكم تفوه إرهابي بلسان الرحمة والتسامح والسلامة، وكم حاضر حاقد بمحاضرة المحبة والمودة والإخاء!.

 مطلب البحث عن صلاح شخصية السياسي هو مطلب هام وضروري من أجل صد العبثيين من الولوج إلى ساحة السياسة ونجاحهم في تحقيق إجنداتهم المنحرفة التي تؤول إلى الخراب والفوضى. لابد من الفحص والتمحص في شخصية المرشح السياسي التي تصنعها العناصر الثلاثة وهي: المظهر والجوهر والاستجابة. مهما كان المظهر هاما ومؤثرا في شخصية السياسي، يبقى الجوهر هو الأساس في صنع الإستجابة. وأعني بجوهر الشخصية مركبا "الإدراك والإحساس". فمن يحمل إدراكا سليما وإحساسا صالحاً نأمل منه إستجابة سليمة وتصرفات صحيحة, ومن يعتل إدراكه ويرتبك إحساسه لا نأمل منه إستجابة سوية أو تصرفا ناجعا. 

علل الإدراك وعلل الإحساس هي الهاجس الأكبر أمام خلل التصرف. سلامة المرشح السياسي من علل الإدراك ومن خلل الإحساس أمر ضروري وناجز أمام ممارسة السياسة والنجاح في مسيرتها، حيث يبتعد المرء عن مجسات الوهم ويتجه صوب عين الحقيقة.

بناء جوهر الشخصية وتطورها يتم من خلال عوامل ومراتب عديدة سواء أكانت ذاتية أو مكتسبة. العوامل الذاتية وعلى رأسها عامل الوراثة والجينات لابد أن تنصقل وتتأثر بعوامل خارجية مكتسبة أخص منها: إيمان المرء ووعيه، التربية على أسس الأخلاق السامية والمثل العليا، ثقافة التوافق الإجتماعي والإحترام المتبادل ونبذ حب الأنا، الكسب العلمي والأدبي والمعرفي وتنشيط المواهب والكفاءة، كلها أمور مؤسسة للسيرة الحسنة وللتصرف السليم وللإخلاص والتفاني في عمل الواجب والحسنى من أجل المصلحة العامة ومصلحة المجتمع. 

من هذا المنطلق نستطيع أن نقول بأن صلاح الأمة يبدأ بصلاح رأس هرمها، وصلاح رأس الهرم ينبعث من لوازم وأصول وتشريعات مفكري الأمة وأصحاب الرأي والحكمة فيها، وبدعم ومطالبة وإصرار القاعدة الشعبية التي تشعر وتعي وتدرك المستلزمات الحقيقية التي يجب على قادة الأمة أن يستجيبوا لها ويلتزموا بها من أجل الصلاح والإصلاح ومن أجل تجنب الإنحراف وتوقي الزحف نحو الهاوية. فالحضارات تنبعث وتزدهر وتتسامى بقادتها، والقائد المتألق هو من يمتلك إدراكا سليما وشعورا سويا وإستجابة مناسبة وتصرفا حكيماً مبنياً على أصول الإيمان والحكمة والأخلاق والعقلانية.

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث تحت عنوان: (مصير النظام الدولي بين عالم العقلاء وعالم المجانين)

اضف تعليق