نتائج سياسة الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب قد تبينت على الساحة. فالتدهور المضطرد في شؤون البلد والدولة ومن كافة الاوجه والاصعدة، ما هو الا نتيجة من نتائج الخلل السياسي العراقي والذي حوى في اجندته، وبشكل مباشر او غير مباشر، ابعاد القادة الفنيين عن اماكنهم ومراكزهم...
العقول والكفاءات الفكرية والعلمية هي سر نشوء وتطور حضارات الشعوب والامم. والامم الخالية من عقول مفكريها تكون متخلفة عن مسيرة الحضارة وعن حركة الزمن.
ان علماء الامة ومفكريها هم القادة الفنيون لتلك الامة، وبهم تسير عجلة التقدم والتطور والمدنية والنهوض. هذه بديهيّة لا ينكرها احد ومن ينكرها فهو اما جاهل متخلف او حاقد لئيم او اناني شرس.
لقد صاحبت عملية التغيير الديمقراطي في العراق -ومع الاسف- ظاهرة غريبة وخطيرة وضحت للعيان ويتكلم فيها القاصي قبل الداني، الا وهي ظاهرة تصفية اهل الفكر والكفاءة في هذا البلد. وتوضحت هذه التصفية بوجهتين مترابطتين، الوجهة الاولى هي التصفية الجسدية الحاسمة وانهاء الكفاءة من الوجود جملة وتفصيلا، والثانية هي التصفية النفسية للكفاءة او الواد البطيء.
دون شك ان الارهابيين الذين لا يريدون للعراق ان ينهض ويتقدم هم وراء التصفية الجسدية للكادر العلمي في هذا البلد، وهذا امر مفهومة جوانبه ومقاصده ولا يحتاج الى بحوث واستنتاجات او الغور في اعماق الاسباب والمسببات. فهم يريدون تدمير كلّ شيء ان لم يبقى كلّ شيء بيدهم وعلى قاعدة -الكلّ والا فلا-، او- اذا متّ ضمانا فلا نزل القطر-!. ولكن الامر الذي يستحق التوقف والتمعن والتمحص عنده، هو من الذي يقف وراء وأد العقل العراقي معنويا!؟، وأعني وأد نفس وروح الكفاءة وذلك من خلال تهميشها وابعادها او عزلها واهمالها واسدال ستار النسيان عليها.
حينما بدأت عملية التغيير الديمقراطي في العراق، توسمنا خيرا للفكر العراقي ان ينهض، والذي كان مضطهدا ومحاصرا ومنبوذا من قبل النظام الصدامي البائد، وقلنا مع أنفسنا سيمنح العهد الجديد المكانة والقيمة المسلوبة لهذه الشريحة المظلومة والمهمشة في مجتمعها. وهكذا فقد توقعنا بان البلد سوف يتجه لاحتضان ابنائه وعقوله وان اول عمل سنراه وكخطوة اولى في بناء العراق هو الاتصال بهذا الكادر المهم من كوادر المجتمع والاطلاع على تفاصيل ما في جعبتهم من مشاريع وافكار بنّاءة لبناء وطنهم وتفعيله وتوجيهه نحو سلم التطور والحضارة.
حيث سمعنا كثيرا عن كلمة الاعمار حتى اهتزت طبلات اذاننا مئات المرات من سماع هذه الكلمة...!، ولا أدرى من هو الكادر الذي سيعمر ان كان أكثر من نصف العقول العراقية مشتتة في بقاع العالم ولم يستدعها ويسال عنها أحد!؟.
وهكذا تمضي السنون ولم اسمع من المحيط الذي انا فيه بان الدولة قد استدعت احدا من حملة الشهادات العليا او ذوي الكفاءات والخبرات الفنية او سالت عن احد او استأنست برأي احد، او عملت جردا او دراسة او بحثا عن هؤلاء المنسيين في غياهب الزمن!. وكأنما الكفاءة في واد ومصلحة البلد في واد آخر!.
وهذا امر اثار عندي التساؤل والاستغراب!، ولم اقدر ان اعثر على تبرير لذلك!. نعم لقد سمعنا بان بعض الافراد المتواجدين في جاليتنا من العراقيين قد استدعوا الى الوطن وهبوا مسرعين اليه وذلك في الايام الاولى من التغيير، ولكن لم يكن هؤلاء من ذوي الكفاءات العلمية!. انما كانوا كوادر حزبية...، اي افرادا ينتمون الى الاحزاب... وكان الاعمار الذي نتحدث عنه ونسمع به في كل زمان ومكان، هو اعمار مؤسسات الاحزاب ودوائرها!، وليس اعمار البلد ومؤسساته المدنية وقواعد نشوئه وصيرورته!. انا لا استخف بالأحزاب ومنتسبيها او اقلل من شانهم واهميتهم –معاذ الله-، فهم اناس ناضلوا وجاهدوا، ربما كما ناضل وجاهد ذوو الكفاءات. ولكنني استخف بالذي تسوّل له نفسه ان يستحوذ على الاماكن الفنيّة بالصفة الحزبية. اي يجعل الحزب فوق الكفاءة، معللا ذلك بان هؤلاء الحزبيين قد ناضلوا بحياتهم ويستحقون المركز والرتبة وان كانوا غير اختصاصيين في عملهم. ان ردّي على المتقولين بهذا المنطق هو ان اسال: هل المناضل حينما ناضل كان يناضل من اجل المركز ام من اجل مصلحة الوطن؟. فان كان الجواب هو من اجل مصلحة الوطن، فانا اقول بان مصلحة الوطن تقتضي ترك المكان المناسب للرجل المناسب.
وان من يريد مصلحة الوطن واعلاء شأنه ومقامه وتطوره وتقدمه وقد ناضل من اجل ذلك، فعليه ان يستمر في نضاله ويكمل المشوار الذي بدأه ويترك مصالحه الشخصية وينكر ذاته ويسلم المكان لأصحابه الفنيين، الذين سوف يجيدون فيه ويجتهدون في إدارته على أحسن حال. وهذا امر منطقي لا يتحمل الشك او التشكيك. واما اذا كان الجواب، هو ان نضال المناضلين كان من اجل المركز والمكانة والامارة حتى ولو على حجارة!، فان جوابي لهم ان لا خير فيكم ولا في نضالكم خذوا نضالكم معكم وعودوا من حيث كنتم قادمين... فبلدنا ليس بحاجة الى هكذا مناضلين...!.
ان من يشاهد المنظر التزاحمي على الاماكن والمراكز والرتب في هذا البلد الجريح، يبدو له وكأنما يرى لعبة سباق الخيل. فكل واحد يطمح ان يكون هو الاول وحسب سرعة وقوة الحصان الذي يمتطيه!. ان هذا التسابق الجسدي وليس الفكري سوف لاينفع مستقبل العراق ومصالحه الستراتيجية. وان نجاح المشاريع البنائية بكل اصنافها رهن بقوة وكفاءة وخبرة قادة تلك المشاريع الفنيين وليس الحزبيين. وان تمادينا وتماهلنا وغضضنا البصر عن هذه الحقيقة الدامغة، فإن هذا سيؤدي الى نتائج مأساوية خطيرة على مستقبل هذا البلد واسس حضارته وتطوره.
ان نتائج سياسة الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب قد تبينت على الساحة. فالتدهور المضطرد في شؤون البلد والدولة ومن كافة الاوجه والاصعدة، ما هو الا نتيجة من نتائج الخلل السياسي العراقي والذي حوى في اجندته، وبشكل مباشر او غير مباشر، ابعاد القادة الفنيين عن اماكنهم ومراكزهم التي يجب ان يتسنموها.
ان المتابع للأحداث على الساحة السياسية العراقية، قد رأى ومنذ بداية التغيير اعتلاء بعض الاشخاص والشخصيات، الذين يقولون عنها سياسية والتي لم نسمع بها من قبل، مراكز هامة وخطيرة في سلم الدولة. حيث لم يكن لهؤلاء معرفة او اختصاص او حتى إلمام بسيط في الحقائب الرسمية التي استلموها والتي وصلت الى درجة الوزارات!.
ولكن ما الذي حصل نتيجة لهذه التصرفات وتقاسم المراكز والمحاصصات التي لم تكن على اساس الكفاءة والقدرة!؟. الذي حصل، وكما يعلم الجميع، هو اخلال واختلال في شؤون البلد ومصالحه العامة واختلاس في اموال الدولة وضياعها وبعثرة المشاريع التي خصصت من اجلها تلك الاموال، وانقلب هؤلاء الحزبيين المناضلين النشامى الى لصوص ومختلسين تستدعيهم المحاكم العراقية وتبحث عنهم وتلاحقهم!!. وهكذا تتعطل عجلة التقدم في البلد وتتوقف عن الحركة، لا بل وقد ترجع الى الوراء ان اعتمدنا عناوين غير عناوين مصلحة الوطن واعتبارات غير اعتبارات الكفاءة والخبرة ومبدأ غير مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب.
ان دفاعي عن القادة الفنيين ليس تمجيدا لهم او تزلفا اليهم ولا استجداءا لكراسي السلطة والحكم لهم. ان سعادة الأكاديمي في كل بقاع العالم، تتركز في كتبه وابحاثه وجامعته وطلابه. فهو لا يبحث ولا يلهث ولا يركض وراء السلطة او المادة او المركز بشكل عام. ان هذه السيرة ليست سيرته وهذا اللباس ليس لباسه. وان اسندت اليه ادارة مركز او تسنم مسؤولية ادارية، فانه سيتفاعل معها من منطلق الواجب المفروض والمصلحة العامة وليس من منطلق الرغبة الشخصية او الطموح الذاتي. وسيكون ذلك تكليفا له وليس تفضلا عليه واخذا منه وليس عطاءا له!.
عسى ان يكون ندائي هذا مسموعا من قبل ذوي الشأن ومالكي القرار، خصوصا وهم في الطريق لتشكيل حكومة جديدة وفعّالة...!، وما على الرسول الا البلاغ والله من وراء القصد ومن الله التوفيق.
اضف تعليق