ربما يكون جوبلز وزير إعلام هتلر قد لامس الحقيقة، وجسد ماهية الثقافة ومدى تأثيرها في الحياة العامة، بل وفي مراكز صنع القرار السياسي عندما قال تلك العبارة الشهيرة « كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» وأهمية هذه المقولة، إنها تأتي من جوبلز دون غيره...
ربما يكون جوبلز وزير إعلام هتلر قد لامس الحقيقة، وجسد ماهية الثقافة ومدى تأثيرها في الحياة العامة، بل وفي مراكز صنع القرار السياسي عندما قال تلك العبارة الشهيرة « كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» وأهمية هذه المقولة، إنها تأتي من جوبلز دون غيره، ذلك أن ألمانيا في تلك الفترة كانت في أوج عظمتها على المستوى السياسي، والاقتصادي، والعسكري، بل وحتى الثقافي، وكان العالم يخشى سطوتها، والكثير يتودد إليها ويطلب رضاها.
ومن هنا تأتي أهمية الثقافة في مقولة جوبلز، فهو لم يتحسس مسدسه من خطر الصواريخ والدبابات والبوارج الحربية للدول المعادية التي كانت تحيط بألمانيا، بل كان يضع أصبعه على الزناد عندما يسمع مفهوم وديع ومسالم أسمه الثقافة أو المثقف، وهذا اعتراف صريح وواضح من شخصية غير اعتيادية، وهي قريبة من الأجواء الثقافية، وتعي ما تقوله بحق الثقافة وما تعنيه، ومن هنا جاءت أهمية هذا الاعتراف وحيويته.
ومن تلك الأهمية والمكانة المرموقة لمفهوم الثقافة، وما تعنيه في حياة الشعوب والأمم يأتي الحديث عن الثقافة الوطنية، لا سيما ونحن نمر في مخاض تاريخي يُراد له أن يكون حداً فاصلا ًبين حقبتين متناقضتين على جميع الأوجه والصعد .
وقد يبدو للبعض الحديث عن الثقافة وتجلياتها، وفي ظل التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمنعطف التاريخي الذي تجتازه البلاد الآن، نوعا من الترف الفكري حسب قاعدة ترتيب الأولويات، إلا أننا ننطلق من حقيقة تقول: إن الأزمات تـَجمع الخيرين، وإن الإبداعات الثقافية والفكرية المُخلدة، قد ولدت من رحم المُعاناة التي عاشها الإنسان العراق.فقد كانت الغرف الرطبة والمعتمة، والأكواخ المتهرئة الأجواء الروحية والحواضن الشرعية لمجمل الإبداعات الأدبية والثقافية، التي خرجت إلى النور، ولهذا لم يظهر مُنجز فكري للعيان ذو قيمة من أحد البلاطات الملكية أو القصور الفخمة إلا ما ندر، وهذا هو الحال مع جميع المبدعين عبر العصور.
ولم نعلم مفردة لغوية قد تشعبت مفاهيمها وتوسعت مضامينها كما هو الحال مع كلمة ثقافة، حتى باتت من أكبر الكلمات تداولاً، وحتى قيل إن التعريف لهذه المفردة قد تجاوز المئة تعريف، مما حدا بالبعض أن يعرّف الثقافة، بأنها ذلك الكل المُعقد الذي يشمل المعرفة والاعتقاد والفن والقانون والأخلاق والعُرف، وأي قدرات أخرى يكتسبها الإنسان من مجتمعه، بوصفه فرداً في المجتمع، ومنهم من يصفها بأنها صقل الذهن والذوق والسلوك وتنميته وتهذيبه، أو بأنها هي ما ينتجه العقل والخيال البشري لتحقيق هذا الهدف.
وبسبب هذه الشمولية لهذا المصطلح أضحت الثقافة البودقة، التي انصهرت في ثناياها كل المفاهيم والقيم والتقاطعات الإنسانية، وهي على اختلاف مناشئها، وتعدد تلاوينها تنهل من منبع واحد لتصب في تلك الحاضنة من القيم الوجدانية لصيرورة الأنسان.
وبعد هذه الخاصية لمفهوم الثقافة، ماذا بوسع الإنسان لا سيما الذي يعاني من أزمات حياتية واجتماعية حادة ومصيرية من أن يوظف هذه القيم الإنسانية لتخطي تلك العقبات التي تعترض طريقه.
وعلى الرغم مما لحق بالمشهد الثقافي من أضرار جسيمة وهزات عنيفة، إلا أنها لم تصل إلى درجة الانهيار، وذلك بفعل الأرث الحضاري الثقافي لهذه البلاد، مما سهل في عملية مداواة الجراحات، التي أصابت جسد الثقافة العراقية ولا سيما في العقود الأخيرة.
والسؤال المطروح الآن، هل بالإمكان المحافظة على متانة وتدعيم الأُسس الثقافية الوطنية المتجذرة في هذا المجتمع ومنع انهيارها؟.
الحقيقة إن الإجابة على هذا التساؤل سوف يكون بالإيجاب، ولذلك لوجود جملة من المعطيات التي تدعم هذا التوجه، وإذا أخذنا أكثر الطروحات تشاؤماً، والقائلة بان هذه البلاد فيها الكثير من التناقضات والتقاطعات العرقية والدينية والمجتمعية مما يحول دون حصول أي تواؤم بين المُكونات الأساسية لهذا المجتمع، واذا سلمنا جدلاً بهذه التوجه، رغم سوداوية وما يحويه من غلو، إلا أننا يجب الرجوع والبحث عن الآصرة الحقيقية، التي استطاعت ليس فقط التوفيق بين تلك التقاطعات، بل وتحويلها إلى حالة من التوافق والانسجام بين الأجيال المتعاقبة، من خلال بناء جسور المحبة والألفة، بعد أن تمكنت تلك الأواصر من ردم الهوة التي تحول دون إتمام عملية التلاقح بين مختلف أطياف المجتمع، ولا شك أن الفضل في ذلك يعود إلى الآصرة الثقافية في عملية التواصل والتلاقح، ليس هذا فقط، بل كان لها من المناعة مما حال دون انتقال بعض الأمراض المتفشية في الجوانب السياسية والاجتماعية والعرفية إلى كنف المشهد الثقافي.
وإذا كانت هذه القيم مُلحة في قابل الأيام فإنها اليوم أكثر ألحاحاً لما تتعرض له البُنى المجتمعية من تصدع، بفعل تلك الضغوطات والهزات العنيفة الموجة من كل حدبٍ وصوب.
والحقيقة أن البعض القليل من تلك الهزات لو تعرض لها أي كيان اجتماعي لأي شعب من شعوب الأرض لانهار بين ليلةٍ وضحاها.
أما الذي حافظ على استمرارية وتماسك القيم الاجتماعية لأهل العراق وحال دون انهيارها هي تلك الحصانة والمناعة، التي اكتسبها هذا المجتمع عبر تاريخه الطويل بفعل القيم الثقافية الوطنية المتجذرة، بين مختلف أطيافه.
وإذا أردنا ديمومة واستمرار هذه القيم فما علينا سوى التشبث بتلك المفاهيم الثقافية النقية ، فإن التمسك بها يعني الحفاظ واستمرار باقي النـُظم والمشتركات الوطنية الأخرى للمجتمع، وهذا يتطلب عدم الالتفات إلى الطروحات ذات المخالب السياسية والأنياب الطائفية، التي تحاول تمزق جسد الأمة.
وقد أظهر الواقع تفوق وغلبة الانسان العراقي البسيط على تلك الطروحات بفعل الفطرة السليمة غير لاملوثة التي يتصف بها، والتي انتقلت له عبر كروموزمات القيم الاجتماعية والثقافية السليمة من خلال ذلك التوارث الجيني، ما جعل هذا الإنسان أكثر حصانة، وبمنأى عن تلك المخالب والأنياب، ولكن علينا ألا نتجاهل ما تقوم به بعض الجهات من الترويج وإشاعة بعض المفاهيم الثقافية الغريبة على مجتمعنا، ولعل من أخطرها ما بات يروج له البعض بالقول، إن من يُريد إثبات الولاء والإخلاص، عليه أن يكون أكثر ولاءً وإخلاصاً لخلفيته العرقية أو الدينية أو الطائفية، ووصل الأمر إلى حد المزايدة والمـُتاجرة بهذه المفاهيم المقيتة، وهنا، نحن لا ندعو إلى التخلي أو التنصل عن تلك الولاءات والخلفيات الثقافية الفرعية، بل يجب التمسك بها، ولكن في الأُطر التي تجعل من هذا التنوع محل ثراء معرفي وثقافي وروحي، وعامل مساعد في زيادة لُحمة النسيج الاجتماعي، كما هو حاصل عبر التأريخ، ولم يكن يوماً عاملاً مُنفراً أو ثغرة في جدار الوحدة الوطنية، بالرغم من كل المحاولات اليائسة والبائسة التي حاول البعض النفاذ منها لخدش هذا الجدار، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، والفضل في ذلك يعود إلى الأم الرؤوم الثقافة الوطنية.
اضف تعليق