ما أحوجنا اليوم إلى اتقان هذه الثقافة، وتعلم أدب الحوار والاختلاف، واحترام الرأي الآخر، مهما كان درجة التباعد في وجات النظر، أو المعتقدات الدينية والعرقية والمجتمعية، فهذه الصفات تمثل أعلى درجات الوعي، الذي يجب أن يتصف به الإنسان السوي...
من خلال المشاهدات اليومية للحوارات السياسية وغير السياسية التي تبثها الفضائيات العراقية، لا سيما في ذروة المشاهدات المسائية بعد نشرات الأخبار الرئيسة، وحينما تختلف المواقف والآراء، وتعلو النبرات والأصوات، وتشتد المواقف، ثم يقاطع كل طرف الطرف الآخر بالانفعال والصراخ، ويتمسك كل طرف بموقفه حتى ولو جانب الحق، يتبين لنا مدى حاجة هؤلاء المتحاورين وعموم طبقات المجتمع إلى تعلم ثقافة الاختلاف والحوار.
وهذه الحالة كانت ولا تزال سبباً رئيساً للكثير من مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية منها، والسبب يكمن في أننا لم نضع مسألة الاختلاف في موضعها الصحيح وألبسناها ثوبا مشوها غير ثوبها، بحيث أصبحت نظرتنا لهذه الظاهرة نظرة المتهم لها بأنها وراء كل ما هو سلبي في حياتنا. لكن الحقيقة غير ذلك، فالاختلاف أمر فطري في الانسان، إذ لا يمكن أن نتصور أنموذجاً لبشر متشابهين ومتطابقين في كل شيء في تفكيرهم، وقناعاتهم، وطرق معيشتهم.
إن النقطة الجوهرية التي تجعل الاختلاف وسيلة للبناء والتطور وتلاقح الأفكار والتعارف، وأن تجعله ظاهرة إيجابية، هي عدم إلغاء الآخر الذي تختلف معه، وبالعكس تــّحول الاختلاف إلى أداة هدم وتخلف وتنازع وفشل في حالة إلغاء الآخر وعدم قبوله، والاعتقاد أني أمتلك الحقيقة المطلقة، التي يجانبها كل من يختلف معي. وهناك الكثير من الشواهد التاريخية، التي تعالج موضوع الاختلاف الدالة على ما نحن بصدده، فكل الكتب السماوية وحملت هذه الكتب من الأنبياء والرُسل تؤكد إشاعة ثقافة الاختلاف والحوار، فإذا كان من يمتلك العصمة يتعامل بهذا الانفتاح والأريحية، وبهذا القدر الهائل من الإنصاف، أليس الأحرى بمن رأيه معرض للخطأ والاشتباه أن يقبل الرأي الآخر ويحترمه، بل ويعترف بوجوده حتى لو كان رأيا يتناقض مع ما نتبناه، فكل المدارس المتنورة تعدَّ الاختلاف حقاً تقتضيه إنسانية الإنسان وليس أمراً طارئاً عليها.
ومن هنا تبرز أهمية تعزيز ثقافة الاختلاف في النفوس من خلال إدراك أن الاختلاف وارد في كل شؤون الحياة نتيجة الفروق الفردية بين الناس تكويناً، واختلاف طبائعهم، وأذواقهم، وظروف حياتهم، ونصيبهم من العلم، وأيضا من خلال إدراك حقيقة أنه لا يجوز اعتبار الاختلاف دليلا على موقف عدائي، وأن من يخالفنا في الرأي هو عدو لنا.
وكذلك الإيمان بأحقية كل طرف في التعبير عن رأيه وموقفه وما يؤمن به، يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، مهما كان الاختلاف، وأن يحاط كل طرف بالتقدير والاحترام من قبل الطرف الآخر ولا يجوز تسفيه رأيه أو إيذاؤه.
وهنا يأتي دور النخبة المثقفة وصناع الفكر، إذ تقع على عاتقهم مسؤوليَّة نشر ثقافة الاختلاف والحوار، على أن يتم كل ذلك في جو من التقدير والاحترام لكل صاحب رأي، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا. إننا بذلك نعمل على نشر ثقافة الاختلاف في مجتمعنا، التي هي اليوم بأمس الحاجة إلى أن تسود هذه المفاهيم بين أبنائه، وعلى القاعدة العريضة في المجتمع أن تنمي ثقافة الاختلاف في ما بينهما وعلينا جميعا ألا نصدر أحكام إعدام على الرؤى المختلفة، والآراء المبتكرة، بل نربي أنفسنا ومن حولنا على ثقافة الاختلاف والحوار في ما بيننا، وفى الوقت نفسه نربي مجتمعاتنا على أن كل إنسان مهما كان يؤخذ من كلامه ويـُــرد، وليكن شعارنا، نتفق فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا ً فيما اختلفنا فيه.
فما أحوجنا اليوم إلى اتقان هذه الثقافة، وتعلم أدب الحوار والاختلاف، واحترام الرأي الآخر، مهما كان درجة التباعد في وجات النظر، أو المعتقدات الدينية والعرقية والمجتمعية، فهذه الصفات تمثل أعلى درجات الوعي، الذي يجب أن يتصف به الإنسان السوي.
اضف تعليق