اليوم، وفي ذكرى رحيله السابعة، لم يزل حاضراً وأقرب من ذكرى، فما زال وجوده غضاً، وحضوره طرياً، وظله ندياً، وما زالت آثاره عبقة بالبركة، وكتبه تتقلبها الأبصار وتتأملها العقول، وتستقطب محاضراته ملايين المؤمنين والمؤمنات، في شرق الأرض وغربها، وله تلهج الألسن بالذكر الطيب والعرفان الجميل والكلم العذب، وفي القلوب له دعاء، وود يغمر الوجدان.
تميز الفقيه السعيد، آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) بسعة في العلم، واطلاعه على الأديان وثقافات الأمم وتاريخ الحضارات، وكان مواكباً لمستحدثات المسائل ومستجدات الأحداث، وتحت منبره في بحثي الفقه والأصول يحضر علماء وفضلاء وباحثون ومثقفون، وألف سماحته العديد من المؤلفات المتينة، وصدرت له آلاف المحاضرات القيمة، فكان(قده) باحثاً متبحراً، ومصلحاً باسلاً، ومثقفاً ناقداً، وتميزت محاضراته بالعمق والإحاطة، فيغور في التفاصيل ويشير الى ما يحيط بها، دون اختلال بملازمة موضوعه، ودون أن يربك إنشداد المستمع وشوقه للارتواء من علمه.
كان (قده) آية في الورع، وعلَماً في الفقه، وقمة في مكارم الأخلاق، وسيداً جليلاً، ومربياً بارعاً، ومثالاً مبهراً في جميل الصفات النفسية والمعنوية، فكان - بجدارة - أستاذ علم وأخلاق ودين ودنيا، لذا مازال لحضوره وهجه وبريقه ونسيمه.
في زمن ظلم مضى، أبعد السيد الشاب عن مدينته كربلاء، وفرَّق الطغيان بينه وبين محبيه، وبعد أن انحسر ذلك الظلم، وتوسعت آفاق الحرية، وأخذ الناس يعيشون ربيعهم مع علوم السيد الفقيه، ودفئه الإنساني، وسماحته الغامرة، ومشاعره النبيلة، وحيث أخذت نفوسهم المهمومة والمغمومة تستبشر خيراً وأملاً برؤيته الناصعة ومواقفه الواضحة، وتطمئن بدعائه قلوبهم المتوجسة، وتهدأ بإرشاداته أفئدتهم المضطربة، خطفه الموت بغتة، ولم يبق للمحبين إلا الحزن على فقده، واقتفاء آثاره، والاسترشاد بمَنْ بقي مِنْ علماء الأسرة الشيرازية الكريمة، هذه الأسرة التي قدمت للأمة الكثير، وكان لها في كل حقبة مرجع وعالم وشهيد، وإن بقية السيف أنمى. وإِنّ اللّه بالغُ أمره، وهو ولي المؤمنين، وكفَى به ولِياً ونصيراً وهو يتولى الصالحين.
طالما دعا (قده) الى أن ننفض عن أنفسنا غبار الماضي، وأن نبدأ التغيير انطلاقاً من بناء علاقة وعي وعمل مع كتاب الله، حتى يغير الله ما بنا، ويأخذ بأيدينا إلى الصلاح والرفاه في الدنيا والسعادة في الآخرة، فيقول (قده): "القراءة الميتة للقرآن لا تعني أكثر من كلمات يرددها اللسان دون أن تؤثر في واقع الفرد التأثير المطلوب، أما التلاوة الواعية فهي تتجاوز اللسان لكي تنفذ إلى القلب، فتهزه، وتؤثر في اتجاهه"، ويقول: "إن هنالك خيارات صعبة وعديدة تطرح أمام الفرد، وأمام الأمة في كل يوم، ولاختيار الطريق السليم بين هذه الخيارات، لابد من الرجوع إلى القرآن، والتدبر في آياته ومن هنا، يقول الله سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، ومن هنا أيضاً أطلق القرآن على نفسه اسم (الفرقان)، ذلك لأنه يفصل ويفرّق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ولكن، لمن؟! والجواب: لمن يفهم آياته، ويتدبر فيها".
كان (قده) يحث على أفضل الأعمال (التفقه في الدين)، "وخاصة في مجال (العقائد) فإنها أصل كل شيء، وعليها يبنى كل شيء، كما أن التفقه بـ(الأحكام الشرعية) يضمن للإنسان استقامة العمل"، ويؤكد (قده) ضرورة تفقه المؤمنين والمؤمنات: "يمكن للإنسان أن يخصص كل يوم مقداراً من وقته لهذه الغاية حتى ولو كان مقداراً قليلاً جداً". وأيضاً، يرى أن من أفضل الأعمال "الاهتمام بتشكيل لجان لخدمة المجتمع، دينياً وثقافياً وإنسانياً، فإن في ذلك أجراً عظيماً"، مذكراً بـ"قضاء حوائج الإخوان"، مبيناً أن "نجاح اللجان العاملة يستند معظمه إلى تطبيق قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم).
كان يوصي فيقول: "في يوم من الأيام سينقضي عمر الإنسان ويصبح عاجزاً عن العمل، فإن (اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)، وعلى الإنسان أن يتزود من العلم والعمل الصالح قبل فوات الأوان، حيث يقول: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت)، فيأتيه الجواب (كلا) والإنسان مهما عمل فهو قليل في جنب الله تعالى، فعليه ألا يستشعر الاكتفاء، بل يستشعر التقصير الدائم".
الفقيد العزيز، والفقيه الكبير، والراحل الحاضر، لم يدخر جهداً للذود عن الإسلام وأهل البيت (عليهم السلام)، ودفاعاً عن قيم الإيمان والعدل والخير والفضيلة، ودأب على تنوير العقول وتحفيز الهمم، لما فيه سلامة الدين وخير الإنسان، واليوم، جدير بالصالحين الأكفاء، الاقتداء بسيرة المصلحين الأفذاذ، من مضى منهم ومن بقي، فكل واحد منهم، آية ومنهج.
اضف تعليق