زيارة الأربعين واحدة من أكبر التجمعات الدينية في العالم، حيث يتوافد ملايين الزائرين من داخل العراق وخارجه مشياً على الأقدام إلى مدينة كربلاء المقدسة لإحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين، هذا الحدث لا يحمل بُعدًا دينيًا فحسب، بل يعكس أبعادًا ثقافية واجتماعية وسياسية تؤثر في تشكيل وعي المواطنة وتعزيز الهوية الوطنية...
عقد مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية ملتقاه الفكري في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان "زيارة الاربعين وتحولات الوعي في المواطنة"، بمشاركة عدد من مدراء مراكز دراسات بحثية، وأكاديميين، وإعلاميين، قدّم الورقة البحثية الدكتور اسعد كاظم شبيب- باحث أكاديمي في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية، الذي سلط الضوء في ورقته البحثية على الابعاد الرمزية لزيارة الاربعين وتجليات المواطنة كقوة رافعة للقيم الانسانية، وابتدأ حديثه قائلا:
"تُعد زيارة الأربعين للإمام الحسين بن علي (عليهم السلام) واحدة من أكبر التجمعات الدينية في العالم، حيث يتوافد ملايين الزائرين من داخل العراق وخارجه مشياً على الأقدام إلى مدينة كربلاء المقدسة لإحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين (ع)، هذا الحدث لا يحمل بُعدًا دينيًا فحسب، بل يعكس أبعادًا ثقافية واجتماعية وسياسية تؤثر في تشكيل وعي المواطنة وتعزيز الهوية الوطنية.
أولًا: الأبعاد الرمزية لزيارة الأربعين
1. الإمام الحسين (عليه السلام) كرمز عالمي للعدل والحرية
- يُعد الإمام الحسين رمزًا إنسانيًا تتجاوز رسالته الحدود المذهبية والطائفية.
- تسهم زيارته في ترسيخ قيم النضال ضد الظلم، وهي قيم جوهرية في بناء المواطن الواعي.
2. السير الجماعي كممارسة رمزية
- المشي إلى كربلاء يمثل فعلًا جمعيًا يوحد مختلف الطبقات والمكونات المجتمعية في مسار واحد ورؤية واحدة.
ثانيًا: تجليات المواطنة في الزيارة
1. خدمة الزائرين: المشاركة التطوعية الواسعة
- مئات الآلاف من العراقيين يشاركون في إعداد الطعام وتقديم الخدمات، مما يعزز الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخر، وهي من أسس المواطنة.
2. تجاوز الانتماءات الفرعية
- خلال الزيارة تُذوّب الفوارق القومية والطائفية والاجتماعية لصالح هوية أوسع: (الهوية الحسينية) أو الهوية العراقية الجامعة.
3. التنظيم الذاتي والانضباط المجتمعي
- رغم الأعداد الهائلة، تتسم الزيارة بدرجة عالية من التنظيم والانضباط، مما يكشف عن وعي جماهيري متقدم يمكن استثماره في العمل الوطني.
ثالثًا: زيارة الأربعين كرافعة للقيم الوطنية
1. تجديد الذاكرة الجماعية حول القيم
- تُحيي الزيارة ذاكرة التضحية والعدالة، وهي قيم ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمفهوم المواطنة النشطة.
2. تعزيز الشعور بالانتماء إلى الوطن
- وجود مشاركات من مختلف محافظات العراق يعكس وحدة الجغرافيا العراقية ويقوّي الإحساس بالانتماء الوطني.
3. مواجهة خطاب الكراهية والانقسام
- يمكن للزيارة أن تكون فضاءً لمواجهة الطائفية عبر استدعاء النموذج الحسيني بوصفه نموذجًا للكرامة الإنسانية لا الحصرية الطائفية.
رابعًا: التحديات والفرص
التحديات:
- تسييس الزيارة، وتحوّلها من فضاء تعبّدي إلى منصّة خطابية.
- ضعف استثمار الدولة للزيارة في برامج التربية المدنية.
الفرص:
- إدماج قيم الزيارة في المناهج التربوية والثقافية.
- بناء خطاب وطني جامع مستلهم من مبادئ كربلاء.
إن زيارة الأربعين ليست مجرد ممارسة شعائرية، بل هي فضاء ثري لتشكيل الوعي بالمواطنة وترسيخ القيم الوطنية الجامعة. من هنا، فإن استثمار هذا الحدث في بناء مجتمع أكثر وعيًا وتماسكًا يجب أن يكون من أولويات الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات التربوية والثقافية.
وفي ضوء هذه الورقة البحثية، تجلت الأسئلة الجوهرية التي تشكلت محورا للنقاش الثقافي امام السادة الحضور بالآتي:
السؤال الأول: ما الخصوصيات الدينية والثقافية لزيارة الأربعين، وكيف تسهم في تعزيز وعي المواطنة بين مكونات المجتمع العراقي؟.
السؤال الثاني: كيف يمكن للسياسات الفاعلة تحويل زيارة الأربعين إلى نموذج قيمي يعزز المواطنة والتماسك المجتمعي؟.
المداخلات
قضية إنسانية وأخلاقية ذات بعد عالمي
- الأستاذ محمد علي جواد تقي، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
تُعدّ زيارة الأربعين من حيث الأهمية حدثاً يتجاوز في أبعاده الكثير من الجوانب الاجتماعية والثقافية، لما تحمله من فعالية وحيوية متجددة، ولما تتيحه من فرص لرؤى واقتراحات يمكن نقلها إلى العالم، بوصفها قضية إنسانية وأخلاقية ذات بعد عالمي، وليست حدثاً محلياً أو طائفياً.
تسهم زيارة الأربعين في تعزيز وعي المواطنة من خلال:
1- تعزيز قيم التسامح والعفو والأخلاق في المجتمع، مما يسهم في بناء بيئة إنسانية أكثر انسجاماً وتعاوناً.
2- تحمّل المسؤولية الوطنية تجاه هذا الحدث، باعتباره يُقام على أرض العراق، حيث يكون العراقي هو المضيف لجميع الزوار، دون اقتصار على طائفة أو مذهب، إذ يستقبل العراق زواراً من مختلف أنحاء العالم تحت إطار "السياحة الدينية"، وهو ما يعكس تحسّن الأمن والاستقرار الاقتصادي في البلاد.
3- نشر مبادئ الإمام الحسين (ع) بين أفراد المجتمع، وهي مبادئ دينية وأخلاقية وإنسانية تجتمع في شخصيته المباركة، بما يمثّل نموذجاً للإصلاح ومواجهة الفساد والانحراف.
علينا العمل على ضرورة أن تكون قضية الإمام الحسين (ع) فوق السياسة والمصالح الضيقة، باعتبارها قضية إصلاح شامل تحمل رسالة عالمية يمكن أن تسهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً ووعياً.
محطة تاريخية وتحولات في وعي المواطنة
- الاستاذ عدنان الصالحي/ مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتجية:
أصبحت زيارة الأربعين محطة راسخة ومؤشراً تاريخياً ثابتاً لدى الشعب العراقي بكل طوائفه، فبمجرد انتهاء الزيارة، تبدأ الاستعدادات للموعد القادم، وكأنها مفصل زمني في التقويم العراقي، تحمل عنواناً واضحاً ومكانة خاصة، ليس فقط عند الشيعة في العراق، بل شيئاً فشيئاً تمتد أهميتها إلى العالم الخارجي، وهو ما سنلمسه بشكل أوضح في السنوات المقبلة.
أما على صعيد المواطنة، فإن العراق ورث إرثاً ثقيلاً من الانقسامات الطائفية التي لم تُبنَ في يوم أو سنة، بل كانت نتيجة عقود من التهميش والإقصاء وزرع الكراهية والبغضاء، ومن خلال العمل الميداني والخدمات الحكومية في موسم الأربعين، يمكن ملاحظة حالة من ذوبان الحواجز بين أبناء المحافظات، إذ تأتي فرق خدمية وظيفية من مختلف مناطق العراق، من الجنوب والوسط إلى الغربية، وتقدم خدماتها في كربلاء بروح عالية من الانضباط والتفاني، ويشاركون بدافع وطني وإنساني.
في بعض الأحيان، وعند حصول ازدحامات أو حالات استغاثة خلال الزيارة، تأتي الاستجابة السريعة من المحافظات القريبة مثل ديالى أو الأنبار أو بغداد، وهو ما يؤكد أن الخدمة في الأربعين لم تعد مرتبطة بانتماء مذهبي بقدر ما أصبحت قيمة وطنية وإنسانية، وهذه الروحية كما يقول بعض المراجع الكبار، تُبنى من خلال إظهار القيم الأخلاقية للدين الذي نؤمن به، لا عبر الإساءة أو النيل من معتقدات الآخرين، بل عبر التعامل الحسن الذي يجذب القلوب قبل العقول.
ومن المهم الإشارة إلى أن مشاريع الزيارات المليونية لم تعد مقتصرة على كربلاء وحدها، فهناك توجه حكومي لفتح أبواب دعم وتطوير للبنية التحتية في محافظات أخرى تحت إطار الزيارات الدينية، بما يشمل مختلف الطوائف، وهو ما ينعكس على تنمية الاقتصاد الوطني وتعزيز البنية التحتية على مستوى العراق كله، من سامراء إلى الموصل، مروراً بجميع المدن التي تحتضن مناسبات دينية كبرى.
وبذلك، فإن زيارة الأربعين لم تعد حدثاً دينياً فحسب، بل تحولت إلى فرصة لبناء جسور المواطنة، وتحقيق التنمية، وتعزيز اللحمة الوطنية، وهو ما يتطلب المزيد من الدراسات والبحوث التي تجمع بين الرؤية الميدانية والنظرية لضمان استثمار هذه الفرصة في مستقبل العراق.
سفينتا النجاة والمواطنة في الوعي الإسلامي
- الاستاذ خليفة التميمي، كاتب واعلامي:
يعتقد المسلمون في مختلف بقاع العالم أن الإمام الحسين (عليه السلام) هو سفينة النجاة، كما وصفه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) في حديثه الشريف، وأنه سيد الشهداء إلى جانب حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله، وبالمثل يرون أن المواطنة الحقة هي سفينة نوح في زمن الطوفان، تحفظ الكرامة وتصون الحقوق.
وقد تجلى هذا المعنى في الأدب المصري، خاصة في أعمال نجيب محفوظ، الذي أظهر تأثر المصريين بالسفينتين، فما ذُكر الحسين إلا وسبقته كلمة "سيدنا"، وما ذُكرت السيدة زينب إلا وسبقها لقب "السيدة". وكانت منائر مقام الحسين تثير في النفوس شعوراً بالفرح والفخر والنصر، وكانوا يؤمنون أن الحسين حامي لهم، وأن مصائب الدنيا لا تنالهم ما داموا في جواره الروحي.
لقد جسد الإمام الحسين (عليه السلام) مفهوم المواطنة بأربع لاءات: لا ظلم، لا فساد، لا طغيان، لا أشر، وجسد المساواة في الحقوق والواجبات، والعمل بقوة القانون لا بقانون القوة، قائلاً بمبدئية واضحة: أن الجميع متساوون أمام العدالة، وأن الكرامة الإنسانية وحفظ النفس والمال والأرض واجب على الدولة والمجتمع.
لكن هذه المبادئ انتهكت من قبل السلطة الحاكمة آنذاك، إذ حورب الحسين، وسُبّ أبوه على المنابر، وأُجبر على إضفاء الشرعية على نظام فاسد، وكانت النتيجة اغتياله واستباحة المدينة المنورة، وضرب مكة بالمنجنيق حتى أكل أهلها القطط والكلاب من شدة الحصار.
رست سفينة الحسين في العراق، حاملة نداءً بسيطاً: "كونوا عرباً في دنياكم"، فخاف الطغاة من أن يتحول الحلم الحسيني إلى فكر، ثم إلى فعل ميداني، فسعوا إلى نشر التعصب، وهدم قيمة الإنسان، وسحق كرامته، وإبقاء الشعوب في دائرة التخلف عبر نظرية المؤامرة.
إن الخلل اليوم –برأيي– يكمن في النخبة، وإذا أردنا أن نطوّر ثقافة المواطنة، فعلينا أن نستفيد من منهج النبي (صلى الله عليه وآله)، الذي دخل مكة فاتحاً، بعد أن اتهموه بالسحر والكذب والجنون، وقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
إن سياسة المواطنة الحقة يجب أن تقوم على التسامح وبناء المجتمع، لأن العدو يتربص بنا، وإذا لم نبنِ الإنسان على أساس القانون واحترام الآخر، فلن تقوم لنا قائمة، ولن نتمكن من مواجهة التحديات.
نعمة إلهية وتجسيد للمواطنة والإنسانية
- الاستاذ احمد جويد، مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:
عن الإمام الرضا عليه السلام: "أحسن مجاورة النعم، فإنها وحشية"، ونحن في هذا الجيل عشنا هذه النعمة وعايشناها منذ عقود، فقد كانت أيام الزيارة الأربعينية في السابق مختلفة تماماً، حيث كان يصل إلى كربلاء رتل عسكري من بغداد يستعرض بين الحرمين، وينصب أسلحته، وكان أبعد زائر عن الإمام الحسين (عليه السلام) يبعد بعض الامتار ليشتري عشاءه ثم يعود.
إنني أرى هذه التحولات نعمة عظيمة، لأننا اليوم نحيي ذكرى أهل البيت (عليهم السلام) في أجواء آمنة وحرة، ونحافظ بفضل وجودهم المبارك في هذه الأرض على كثير من القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية، إضافةً إلى ما تتيحه هذه المناسبة من أرزاق تدور بين الناس، ولو كان العراق خالياً من هذه النعمة، لكان وضعه مشابهاً لكثير من البلدان التي فقدت هذه الروح.
أما زيارة الأربعين، فهي عند الأغلبية الساحقة من الناس عمل تطوعي خالص، بعيد عن الأهداف السياسية، رغم أن بعض الأطراف قد تحاول استغلالها لمشاريع معينة، ومع ذلك تبقى الغلبة لروح الخدمة الصادقة التي يقدمها الناس للزائرين من دون انتظار مقابل أو مراقبة من أحد، مدركين أن هذه هي "التجارة الحقيقية" مع الله ورسوله وآل بيته.
لقد شهدنا توسعاً كبيراً في هذه الزيارة بعد التغيير السياسي، إذ لم تعد مقتصرة على المشي من النجف إلى كربلاء، بل باتت تشمل العراقيين من جميع المحافظات، وامتدت إلى دول أخرى مثل إيران والكويت، بل وحتى اليمن ونيجيريا وغيرها، حيث أصبح المشي إلى كربلاء عُرفاً لدى الكثيرين.
واللافت أن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) لم تعد قضية دينية بحتة، بل تحولت إلى قضية إنسانية عالمية، يتفاعل معها أي إنسان يملك ذرة من الضمير، بغض النظر عن انتمائه الديني أو المذهبي، ففي العراق مثلاً نرى المسيحيين يشاركون في الخدمة والمواساة، لا فقط لأنهم أبناء وطن واحد، بل لأنهم يجدون في قضية الحسين قضية إنسانية سامية.
ورغم أن العراقيين يختلفون في كثير من القضايا، فإنهم يجتمعون على الحسين (عليه السلام)، مما يجعل هذه المناسبة جسراً لتعزيز روح المواطنة، ومصدراً لترسيخ القيم المشتركة بين الناس، وهكذا فإن موضوع الحسين اليوم هو موضوع المواطنة بامتياز، وهو أيضاً موضوع الإنسانية بكل معانيها.
مدرسة إصلاحية لتعزيز روح المواطنة
- الاستاذ علاء الكاظمي، باحث اكاديمي:
ان شعيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، خصوصاً في زيارة الأربعين، يجب أن تُدرس ضمن سياقها الخاص وفي إطار السياق الأوسع للشعائر الدينية الأخرى، التي تهدف جميعها إلى بناء الإنسان وصناعته، ورغم تعدد هذه الشعائر، فإن زيارة الأربعين أخذت بروزاً أكبر لما لها من تأثير عميق ودور محوري في حياة الناس.
الإمام الحسين (عليه السلام)، في مسيره إلى كربلاء، أطلق عبارته الخالدة: "ما خرجت أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي". هذه العبارة تختصر جوهر المواطنة الحقة، فالإصلاح الذي قصده الإمام كان موجهاً إلى أمة جده بكل تنوعها، بمذاهبها المختلفة وتوجهاتها المتباينة، لقد ضحى عليه السلام بكل ما يملك، لا من أجل فئة أو طائفة، بل من أجل إصلاح المجتمع بأسره.
ومن يتتبع سيرة الإمام الحسين وأهل بيته، يجد أن عطاءهم كان ممتداً للجميع، حتى لأولئك الذين اختلفوا معهم في المذهب أو الدين أو الاعتقاد، فالإمام الصادق عليه السلام على سبيل المثال، قال: "عودوا مرضاهم، واحضروا جنائزهم" في إشارة إلى ضرورة التفاعل الإنساني مع الآخر، حتى لو كان من طرف مختلف، هذه القيم في جوهرها تعزز روح المواطنة والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع ككل.
وعلى أرض الواقع، نلمس آثار هذه الثقافة المستمدة من مدرسة الحسين عليه السلام، خصوصاً من ثقافة الأربعين. لقد تجلت بصورة عملية وواضحة في عام 2014، حين لبّى أبناء العراق نداء الواجب، وتوجهوا إلى مناطق ليست مناطقهم، وضحوا بأرواحهم وأموالهم وكل ما يملكون دفاعاً عن الوطن ووحدته، هذه الروح التضامنية هي قمة المواطنة.
واليوم، نراها تتكرر في مواقف حياتية يومية، فعندما يزور أبناء المذاهب أو التوجهات الأخرى مناطقنا، نجد الترحاب والتفاعل الصادق معهم، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية أو الفكرية، إن قضية الحسين عليه السلام تتجاوز الانتماءات الضيقة لتشمل جميع الإنسانية، بمختلف طبقاتها ومستوياتها، وهذا ما يجعلها أسمى نموذج لتجسيد المواطنة في أبهى صورها.
زيارة الأربعين إحياء روح السلام والمواطنة والهوية الجامعة
- الشيخ مرتضى معاش:
إن زيارة الأربعين تمثل مشروع سلام حقيقي في مواجهة مشاريع الحرب والصراع، فالحروب تنشأ غالباً عندما تغيب مشاريع السلام الفاعلة، إن المشي إلى كربلاء خلال الأربعين ليس مجرد فعل عبادي أو طقس ديني، بل هو ثقافة لتعزيز اللاعنف، وترسيخ قيم السلام، وبث روح التسامح بين الناس.
ولعلنا إذا تأملنا في سيرة الإمام الحسن (عليه السلام)، نجد أن المشي كان جزءاً من ممارساته المعنوية، فقد حج ماشياً خمساً وعشرين مرة، وهذا ليس فعلاً عادياً بل يحمل رمزية كبيرة في البناء المعنوي للإنسان، إذ يساعده على التحرر من قسوة القلب والانغلاق، وينقله إلى مستويات عالية من الصفاء الروحي.
وفي التاريخ الحديث، نجد مثالاً قريباً في مسيرة المهاتما غاندي، الذي قاد مسيرة مشياً على الأقدام لمسافة تقارب 300 كيلومتر لتحرير شعبه من احتكار الملح البريطاني، فكان المشي وسيلة تربوية سلمية لتوحيد الشعب وتوعيته بحقوقه.
من هنا، يصبح المشي في الأربعين مشروعاً تعليمياً إصلاحياً، يمكّن الإنسان من تصريف طاقاته الكامنة في قنوات سلمية، بدلاً من أن تتحول إلى عنف وحروب.
أما عن المواطنة، فهي ليست مفهوماً شكلياً أو مقتصراً على المشاركة في الانتخابات وأداء بعض الواجبات، بل هي مجموعة قيم إنسانية أساسية، مثل: العطاء، التكافل، نبذ الأنانية، التضامن، التعاون، احترام النظام. هذه القيم لا تُكتسب من خلال المحاضرات النظرية وحدها، بل من خلال الممارسات العملية، وزيارة الأربعين نموذج حيّ لهذه الممارسات، إذ تزرع في المشاركين روح العطاء ونكران الذات، وتحوّلهم من أفراد أنانيين إلى مواطنين فاعلين يسعون لحماية وطنهم والتمسك به.
المشكلة الكبرى في بعض الدول هي الاكتفاء بتقديم الامتيازات الشكلية للمواطن –من ترفيه وحدائق وخدمات– على حساب البناء المعنوي والقيمي للإنسان، وهذا فرق جوهري بين الملوك والأنبياء، فالملوك يبنون القصور، أما الأنبياء فيبنون الإنسان.
كما أن زيارة الأربعين تمثل رد فعل حضاري على العصر المادي الاستهلاكي الذي يطغى فيه الجفاء الروحي، ففي زمن أصبحت فيه المادية هي المحرك الأكبر، يبحث الإنسان عن المعنويات ليجد التوازن النفسي والروحي، وإن غابت هذه المعنويات، ظهرت الانحرافات النفسية والفكرية.
وهنا تأتي الحاجة لدعم المشاريع المعنوية الجماعية التي تمنح الإنسان شعور الانتماء والاستقرار، على عكس الكرنفالات والمهرجانات ذات الطابع الترفيهي البحت، والتي لا تترك أثراً روحياً عميقاً، كما أن تعزيز المواطنة يتطلب شراكة حقيقية بين المواطن والدولة، تقوم على تغذية ثقافية مستمرة توضح معاني الانتماء والقيم الإنسانية، لكن مع الأسف، كثير من السياسيين ينشغلون ببناء سلطتهم بدلاً من بناء الإنسان، فيسعون إلى إبقاء المواطن في حالة احتقان طائفي أو عرقي ليستغلوه كـ"صوت انتخابي" في مشاريعهم السلطوية.
إن الطائفية التي نعاني منها اليوم ليست دينية، بل هي في جوهرها سياسية، جُرّب مثلها عبر التاريخ، وكان السياسيون دوماً هم من يثيرونها لتحقيق أهدافهم الخاصة، وبالمقابل تشكل زيارة الأربعين مساحة رحبة لتجاوز هذه الانقسامات، وإحياء روح السلام والمواطنة والهوية الجامعة.
الإصلاح الحسيني كمدخل لبناء دولة قوية
- الدكتور عقيل الحسناوي، باحث أكاديمي:
عند الحديث عن الخصوصية الدينية، تبرز مشكلة التناقض بين القيم والمعايير، فأنا –على المستوى الشخصي– وجدت نفسي في حالة ارتباك بعد أن تعرفت على المعيار القرآني، إذ وجدت أن المعايير التي يتبناها بعض الخطباء أو الروايات الشعبية لا تتطابق معه.
فالقرآن الكريم يحدد المعيار بوضوح: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، أي أن الكرامة عند الله قائمة على التقوى، لا على الانتماء الطائفي أو الممارسات الظاهرية وحدها، لكن في المقابل، نجد في الخطاب الديني الشعبي –من خلال بعض الخطباء أو القصائد أو ما يُتداول على وسائل التواصل الاجتماعي– رسائل تقول: "من زار الحسين أو قدّم الطعام لزواره دخل الجنة"، وأحياناً تُطرح فكرة أن الجنة حكر على طائفة معينة.
هذا الطرح في جوهره يتناقض مع المعيار القرآني ويضع الإنسان أمام سؤال: أي معيار أتّبع؟ المعيار الإلهي القرآني أم المعيار الروائي الشعبي؟، إن الإشكال الأكبر ليس في الدعوة إلى زيارة الإمام الحسين، بل في الاكتفاء بالطقس دون تبني أفكاره ومنهجه الإصلاحي، فالإمام الحسين عليه السلام خرج من أجل إصلاح الخلل في القيم، وكان يقول: "كونوا لنا دعاة صامتين"، الإصلاح يعني بناء مجتمع يحترم الإنسان وحقوقه وآراءه ومعتقداته، لا أن يكتفي بالشعارات أو المظاهر.
إذا أردنا أن نكون حقاً أتباع الإمام الحسين، فعلينا أن نبني دولة جاذبة للإنسان، دولة يشعر فيها المواطن بالأمان، وتحفظ حقوقه، وتمنحه كرامته، بعيداً عن الطائفية والتمييز، لكن حين تفتقر الدولة إلى القوة الحقيقية المبنية على العدالة وبناء الإنسان، يصبح الإنفاق على الزائرين أو إقامة الشعائر عملاً خيرياً جميلاً لكنه غير كافٍ، بل قد يُنظر إليه أحياناً كدليل على ضعف البنية المؤسسية.
لقد رأينا في أزمات كثيرة –سواء تاريخية أو معاصرة– كيف يمكن استغلال الشعائر أو الخطاب الديني في تعبئة طائفية أو صراعات سياسية، دون أن ينتج ذلك احتراماً حقيقياً للدولة أو للمجتمع.
إن عنصر الإصلاح الذي دعا إليه الإمام الحسين يبدأ من بناء الإنسان القوي القادر على بناء دولة قوية، فالدولة لا تُحترم إلا بقوتها وعدالتها، والإنسان لا يُحترم إلا إذا امتلك قيمه وأخلاقه الراسخة، ومن هنا، ينبغي أن تتحول الدعوة الحسينية إلى مشروع عملي للإصلاح والقوة، لا مجرد شعارات أو ممارسات موسمية.
قيمة العدل في موقف بسيط من زيارة الأربعين
- الاستاذ علي حسين، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
ينقل أحد الزائرين في زيارة الأربعين تجربة شخصية بسيطة لكنها عميقة في معناها. يقول: "كنتُ أمشي داخل وخارج المدينة، حتى شعرت بالجوع، رأيت أقرب طابور توزيع طعام، وكان المنظر مغرياً: مشويات وأطعمة شهية، لكن الطابور كان طويلاً، وقفت خلف الناس أنتظر دوري، وبينما أنا واقف، إذا بأحد الأشخاص يزاحمني ويقف أمامي متجاوزاً الطابور، شعرت أن هذا التصرف لا ينسجم مع روح الزيارة، ورغم أنني تضايقت، فضّلت الصمت، لكن الشخص الذي كان خلفي بدأ بالتعليق بصوت مسموع على هذا السلوك، محاولاً لفت الانتباه، ومع استمرار تقدم الطابور، جاء أحد أصدقاء المتجاوز، فأدخله معه أمامنا، هنا اعترض الشخص خلفي بشدة، وحدثت مشادة كلامية، قبل أن يطلب أحد المنظمين منهما العودة إلى أماكنهم الأصلية، المتجاوز عاد إلى مكانه، واستمر الطابور في التحرك.
وحين وصلنا إلى نهاية الصف، كان الطعام على وشك النفاد، ولم يتبقَّ إلا وجبة واحدة، عندها فاجأني ذلك الشخص الذي حاول تجاوزي منذ البداية، حيث قال بصدق وإصرار: "هذه من حقك أنت، أنت من كنت تنتظر دورك منذ البداية، ومن غير العدل أن آخذها أنا"، وفعلاً ترك لي الوجبة.
هذه الحادثة الصغيرة، كما يرويها صاحبها، تعكس أن حتى في المواقف البسيطة يمكن لقيمة العدل أن تظهر، وأن المراجعة الذاتية قد تدفع الإنسان إلى تصحيح سلوكه، مثل هذه المواقف تساهم في تعزيز القيم الأخلاقية، وتذكّرنا أن المواطنة والالتزام الديني لا يُقاسان بالكلام فقط، بل بالممارسة اليومية، حتى في تفاصيل الحياة العادية".
تعظيم الشعائر وتعميق الوعي
- دكتور منتصر العوادي، باحث اكاديمي:
هناك قضيتان أساسيتان تستحقان التوقف عندهما في سياق الحديث عن زيارة الأربعين ودورها في تعزيز قيم المواطنة.
القضية الأولى: إن أي تجمع ديني يهدف إلى إعلاء كلمة الله عز وجل وتطبيق قيم السماء، هو تجمع مبارك ومؤيد من قبل الله سبحانه وتعالى، بدءاً من صلاة الجمعة والجماعة، مروراً بمواسم الحج، وصولاً إلى زيارة الأربعين المباركة. ففي هذه الزيارة، تتجلى مظاهر تعظيم شعائر الله، التي قال عنها سبحانه: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، الجميل في زيارة الأربعين أن المسميات والألقاب والاعتبارات الشخصية كلها تختفي، فلا يُنظر إلى الإنسان بحسب مكانته أو منصبه أو وضعه الاجتماعي، بل يلتقي الجميع تحت مسمى واحد: "زائر الحسين"، هذا الشعور بالمساواة يعزز من قيم المواطنة، إذ يشعر الإنسان بالآخرين على قدم المساواة، دون إحساس بالتفوق أو التمايز.
هذه القيم تتجلى حتى مع الزائرين من خارج المذهب أو الدولة أو حتى الملة، حيث يذوب الانتماء الضيق في انتماء أوسع لقضية الإمام الحسين عليه السلام، وهي قضية إنسانية شاملة، وهذا ما دعت إليه النصوص القرآنية، كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، فالتجمعات التي تحقق منافع للناس وتُعلي القيم السماوية، كما في الحج أو زيارة الأربعين، هي تجمعات مباركة ومطلوبة في الإسلام لما تحمله من مضامين إنسانية راقية.
القضية الثانية: أن لا يتحول التجمع إلى مجرد حدث عددي، هدفه إحصاء عدد الزائرين، بل يجب أن يقترن بالوعي، فنحن لا نريد مواطنين فقط بل مواطنين واعين، وهذا جوهر موضوعنا: أن يأتي الزائر إلى الإمام الحسين عارفاً بحقه، أي مُطبّقاً لمبادئه وأهدافه والقيم التي جاء من أجلها ودافع عنها.
إن الهدف الأسمى من هذه المسيرة هو ترسيخ الوعي وتجسيد المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي نادى بها الحسين (عليه السلام)، حين يتحقق ذلك، تتحول زيارة الأربعين من مجرد مناسبة دينية إلى مشروع إصلاحي ضخم يسهم في بناء الوعي الجمعي وصناعة مواطن أكثر التزاماً ومسؤولية.
بين البعد الأممي والهوية الوطنية
- دكتور لطيف القصاب، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:
هناك مقولة شائعة في الوسط السياسي يرددها كثير من المفكرين وهي أن "الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها"، وأنا أستعير روح هذه العبارة لأقول إن الظاهرة الحسينية تصحح نفسها بنفسها، بصرف النظر عن وجود بعض الهفوات هنا أو هناك، فهي في النهاية تتجه نحو التصويب والتقويم، مع توفر بعض الاشتراطات التي تساعد على ذلك.
ونحن أبناء هذه البيئة نعرف تفاصيل المشهد عن قرب، وندرك أن الإيجابيات تفوق السلبيات بكثير، خصوصاً إذا نظرنا إلى الروح التطوعية التي تشكل السمة العامة لزيارة الأربعين، فهذه الزيارة ليست مجرد حدث ديني ذي بعد روحي وأممي، بل يمكن أن تكون أيضاً أداة لتعزيز المواطنة إذا أُحسن توظيفها.
هنا، أود أن أشير إلى أن الدين والمواطنة، وإن كانا مجالين مختلفين في طبيعتهما، إلا أن الجمع بينهما في ظاهرة كزيارة الأربعين هو طموح كبير ومشروع، لكن لتحقيق هذا الهدف يجب النظر إلى الظاهرة بكل أبعادها لا الاقتصار على زاوية واحدة، وإذا أردنا ربط الظاهرة بالحس الوطني، علينا أن نتساءل: كيف يمكن تحقيق لحمة وطنية حقيقية في ظل وجود مواطنين من محافظات مختلفة، بعضهم قد يتحفظ أو يختلف في رؤيته لهذه الزيارة؟ كيف يمكن تجاوز الصراعات والإثارات التي قد تبرز في مثل هذه المناسبات؟.
الجواب يكمن في أن المجال الإيجابي لهذه الظاهرة أوسع بكثير من سلبياتها، لكن ذلك يتطلب مراجعة مستمرة لخطابها ومظاهرها، فعلى سبيل المثال في مجتمعنا الخطيب المنبري قد يؤثر في الناس أكثر، وهذه حقيقة اجتماعية قائمة، فإذا جاء خطيب وقال عبارة خارجة عن السياق الوطني، وهو يقف على منبر رسول الله أو منبر الإمام الحسين، فما الرسالة التي سيوصلها للآخرين؟ وكيف يمكن لنا أن ندافع عن فكرة "عقل الشراكة" الجميلة التي نطمح لها، بين ما هو أممي في هذه الظاهرة وما هو وطني في رسالتها؟. إن التحدي الأكبر هنا هو في ضبط الخطاب والممارسة، بحيث تبقى زيارة الأربعين نموذجاً يجمع ولا يفرق، ويُعلي من القيم المشتركة التي يمكن أن تشكل أرضية صلبة للتلاقي بين مختلف مكونات المجتمع.
دور العراق في مقصدية ائمة اهل البيت
- دكتور خالد الاسدي، باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
زيارة الأربعين تكشف لنا بوضوح مقصدية ائمة اهل البيت (عليهم السلام) في اختيار العراق دون غيره من البلدان ليكون محوراً ومركزاً لحركتهم، فالإمام علي (عليه السلام) على سبيل المثال شيّع أهل اليمن قبل أن يشيّع أهل العراق، ومع ذلك لم يتجه إلى اليمن ليجعلها عاصمته، بل اختار الكوفة، كذلك الإمام الحسين (عليه السلام) ورغم نصائح عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير له بالتوجه إلى اليمن، لكنه توجه إلى العراق.
هذه الاختيارات لم تكن عفوية أو اعتباطية، بل كانت نابعة من رؤية استراتيجية بعيدة المدى، العراق كما نراه اليوم، هو مركز التشيّع ومحبي أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الأرض التي ستنطلق منها الدولة المهدوية، ولعلنا لو نظرنا إلى الأمر بعين الواقع، نجد أن مشهداً مثل صلاة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه في الكوفة، وخلفه أكثر من عشرين مليون مصلي، لا يمكن أن تحتضنه أو توفر له الخدمات أي دولة أخرى سوى العراق، الذي اعتاد على استضافة هذه الحشود المليونية.
لقد جاء اختيار العراق من قبل الأئمة (عليهم السلام) عن مقصدية واضحة، وهو ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) حين قال: "العراق أرض تحبنا ونحبها"، فهذه الأرض كانت وما تزال مهداً لانطلاق مشروعهم.
ومن هنا، يمكننا القول إن الزيارة الأربعينية تمثل أكبر دورة عملية للأخلاق في العالم، إذا ما استُغلت استغلالاً صحيحاً، فهي ليست مجرد تجمع ديني، بل نموذج قيمي متكامل، حيث يعيش ملايين الزوار حالة من الانضباط الذاتي، دون الحاجة إلى رقابة أمنية مشددة، ويتعاونون فيما بينهم لخدمة بعضهم بعضاً، إن أي دولة في العالم لن تستطيع استضافة هذا الكم الهائل من البشر بلا نظام قسري، إلا العراق، الذي يحتضنهم بحب ويُدار هذا الحشد بروح الإيثار والكرم.
بناء النموذج السلوكي لترسيخ وعي المواطنة
- الاستاذ حسين علي حسين، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:
أول خطوة لرفع وعي المواطن العراقي تجاه المواطنة في سياق زيارة الأربعين هي بناء النموذج، وهذا النموذج يمكن أن يكون أي شخص من الحاضرين في هذه الجلسة أو أي مواطن عراقي، بشرط أن يمتلك السلوك الذي يساهم في ترسيخ قيم المواطنة.
لكن السؤال الجوهري هو: متى يصبح هذا الشخص نموذجاً يُحتذى به؟، الإجابة تكمن في اللحظة التي نستطيع فيها تغيير سلوكه نحو الأفضل، وهنا تبرز ضرورة فهم ما هو السلوك وكيف يتكوّن.
في علم النفس، السلوك يُعرّف بأنه نشاط أو رد فعل يقوم به الإنسان استجابةً لحادثة أو مثير في البيئة التي يعيش فيها، ولتبسيط الفكرة يمكن أن نأخذ مثالاً من الحياة اليومية: إذا طلبت والدةٌ من ابنها، قبل خروجه، أن يرمي القمامة في طريقه، فالأغلب أن يرفض –خصوصاً في هذا الجيل الحديث-، لكن إذا وُضع نفس هذا الشاب في أجواء موكب حسيني، وطُلب منه الفعل نفسه، فإنه سيقبل فوراً.
هذا التناقض في الاستجابة يفتح أمامنا سؤالاً أعمق: كيف تكوّن هذا السلوك المختلف؟، الإجابة أن السلوك يتكون من ثلاثة عوامل رئيسية: العوامل البيولوجية: وتشمل الدماغ والجهاز العصبي، وهما المسؤولان عن إرسال الإيعازات الحركية والانفعالية التي تحدد رد فعل الشخص. العوامل النفسية: وهي الدوافع والحوافز الداخلية التي تدفع الفرد للسلوك، بالإضافة إلى سمات الشخصية، فالشخصية الانطوائية قد تعبر عن سلوكها بشكل مختلف تماماً عن الشخصية الاجتماعية. العوامل البيئية: وتتعلق بالأسرة، أسلوب التنشئة الاجتماعية، والثقافة المحيطة، وحتى تأثير الأقران والأصدقاء. إن فهم هذه العوامل يساعدنا على تصميم برامج توعوية وتربوية تُحدث تغييرات حقيقية في سلوك الفرد، ليصبح أي مواطن –في زيارة الأربعين أو خارجها– نموذجاً فعّالاً لترسيخ قيم المواطنة.
بين التأسيس الروحي والتحول الشامل في الوعي
- الاستاذ باسم الزيدي، مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
كما نفهمها، فإن زيارة الأربعين ليست مجرد مناسبة دينية أو تجمع بشري ضخم، بل هي فعل تأسيسي أو شعيرة تأسيسية تشبه في عمقها وامتدادها شعائر الحج والصيام، هذه الشعيرة تعمل على جانبين أساسيين في تكوين الإنسان:
الجانب الروحي: إذ تغذي النفس بالإيمان، الصبر، القيم الإنسانية، والتواصل مع المثل العليا التي يمثلها الإمام الحسين عليه السلام.
الجانب المادي أو الجسدي: حيث يختبر الزائر قدرة بدنه على التحمل، العطاء، الخدمة، والانخراط في فعل جماعي منظم.
القوة الحقيقية لزيارة الأربعين تكمن في أنها تدمج هذين الجانبين، فلا يكون أحدهما بديلاً عن الآخر، بل يكمل كل منهما الآخر في صورة متكاملة، إذا أدركنا أن هذه الزيارة مرتبطة بشخصية الإمام الحسين (عليه السلام)، فإننا نتحدث عن منظومة قيمية متكاملة تمتد جذورها إلى الأنبياء والأوصياء منذ آدم عليه السلام وحتى السماء، كما وصفها القرآن الكريم بـ "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ".
هذا الارتباط العميق لا يمنح الزيارة قدرة على تعزيز المواطنة فقط، بل على إحداث تحولات شاملة في وعي الإنسان، ومعالجة النقص أو الضمور في أي جانب فكري أو أخلاقي يعاني منه المجتمع، كما انها ليست مجرد فرصة لتعزيز وعي المواطنة، بل هي قادرة على خلق مواطنة واعية، وتوليد قيم جديدة في كل جانب من جوانب الحياة، لأنها تستمد قوتها من ارتباطها بالإمام الحسين، والإمام الحسين بدوره يمثل مرجعية أخلاقية وفكرية عالمية.
من الظلم أن نختزل هذه الزيارة في إطار محلي ضيق؛ فهي منذ تأسيسها ذات نظرة عالمية، تجمع بين القيم المحلية المتجذرة في بيئة المجتمع، والرؤية الإنسانية الشاملة التي تستقطب كل من يستوحي الإلهام من قضية الإمام الحسين، سواء أعجبه شخص الحسين، أو أحداث الطف، أو القيم التي تلت الواقعة.
الجوانب المادية مثل إطعام الطعام وسقي الماء ليست سوى أجزاء من صورة أكبر، حيث تسهم الزيارة في: ذوبان الهويات الفرعية في هوية واحدة جامعة، تتجاوز الانتماءات الضيقة نحو الانتماء الإنساني العام، ورفع مستوى الانضباط الجماعي؛ فالملايين تمشي بنظام عالٍ كما لو أن هناك قوة داخلية أو "غريزة فطرية" توجههم نحو الطريق الصحيح، وتعزيز العمل التطوعي والجانب الإنساني، حيث يُخدم الزائر كأنه ضيف كريم، بغض النظر عن قوميته أو مذهبه أو جنسيته.
هذه العناصر، إذا خضعت لدراسة علمية دقيقة، ستكشف أن الزيارة ليست مجرد حدث ديني، بل تعبير عن الفطرة الإنسانية في أبهى صورها، ومختبر حي للقيم التي يمكن أن تبني أوطاناً مزدهرة ومجتمعات أكثر تماسكاً.
الفرصة الذهبية التي لم يستثمرها العراق كما يجب
- الاستاذ محمد علاء الصافي، باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
زيارة الأربعين بالنسبة للعراق تمثل أحد أعظم الأحداث الإيجابية التي انعكست على صورته الخارجية خلال العقود الأخيرة، فبعد سنوات طويلة من العزلة والتهميش بسبب الحروب، والأنظمة القمعية، والسياسات العدائية مع دول الجوار، تشكلت لدى الإعلام العالمي صورة نمطية قاتمة عن العراق: بلد صراعات وحروب، وديكتاتورية، وانعدام الأمن.
لكن هذه الصورة بدأت بالتغير تدريجياً مع تسليط الضوء على زيارة الأربعين، حيث أظهرت للعالم وجهاً مختلفاً تماماً: بلدا مضيافاً، منفتحاً، آمناً، وقادراً على استقبال ملايين الزوار سنوياً، من الداخل والخارج، في أجواء روحانية وتنظيمية فريدة.
خلافاً لبقية الفعاليات الدينية مثل الشعائر الحسينية في محرم أو المجالس الدينية التي تتكرر في عدة دول، فإن زيارة الأربعين أصبحت ميزة استثنائية يختص بها العراق، ما جعله يتفوق من حيث حجم المشاركة والتنظيم والطابع العالمي للحدث، لقد أعادت هذه الزيارة العراق إلى الخريطة الإعلامية الدولية بشكل إيجابي، وقدمت فرصة لتغيير الانطباعات القديمة، وفتح المجال أمام فرص استثمارية وسياحة دينية واقتصادية، إذا ما تم استغلالها بالشكل الصحيح.
رغم هذه الإمكانيات، فإن الفاعلين السياسيين والدينيين في العراق لم يستثمروا زيارة الأربعين بالشكل المطلوب: فالمؤسسات الدينية مثلا لم تصنع خطاباً مستمراً وفاعلاً لتعزيز القيم والسلوكيات الإيجابية لدى المشاركين، ولا سيما في مجال المواطنة، الزائرون وهم بالملايين من العراقيين بحاجة إلى رسائل عملية واضحة تحوّل التجربة إلى وعي مستدام، اما المؤسسات السياسية بقي خطابها أسير الاصطفاف الطائفي، سواء في البرلمان أو الحكومة أو التعامل اليومي مع المواطنين، مما عمّق الشرخ الاجتماعي بدل رأبه، كما ان الإعلام العراقي سواء الرسمي أو الخاص، لم يقدم تغطية احترافية تعكس للعالم البعد الإنساني والتنظيمي والروحي للزيارة، بل ظلّت الجهود متفرقة وضعيفة، مقارنة بحجم الحدث وتأثيره العالمي.
من المفترض أن تكون زيارة الأربعين فرصة لفتح أبواب العراق أمام العالم، عبر تسهيل دخول الزوار، خصوصاً في هذه المناسبة، بإلغاء التأشيرات أو الرسوم على القادمين من أي دولة، لكن الواقع أن السياسات الحكومية ما زالت متأخرة، بل أحياناً متناقضة، فهي تفرض القيود بدلاً من استثمار المناسبة في بناء علاقات دولية إيجابية وإظهار الوجه المشرق للبلد، فزيارة الأربعين هي فرصة ذهبية لتحويل صورة العراق من بلد حروب وأزمات، إلى بلد أمن، وضيافة، وقيم إنسانية عالية، فإن أثر زيارة الأربعين لن يكون دينياً أو روحياً فحسب، بل سيكون رافعة استراتيجية لنهضة العراق داخلياً وخارجياً.
مدرسة المواطنة العابرة للطوائف والطبقات
- الاستاذ حيدر الاجودي، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:
زيارة الأربعين تحمل خصوصية فريدة تجعلها قادرة على تشكيل وعي إنساني عالمي، لا يقتصر على شعب أو مذهب أو طبقة اجتماعية بعينها، فهي حدث عابر للطائفية والطبقية، حيث تجد الغني والفقير، الصغير والكبير، يسيرون في طريق واحد وهدف واحد، هو التعبير عن حبهم للإمام الحسين (عليه السلام) والالتزام بقيمه.
أحد أبرز سمات الزيارة هو التنوع والابتكار في الخدمات، فالخدمة ليست مقتصرة على مواكب الطعام والشراب، بل تمتد إلى مجالات متعددة منها الخدمات الفنية، على سبيل المثال، في إحدى السنوات برز موكب يقدم خدمة تصليح السيارات مجاناً على طريق كربلاء، مزوداً بكافة الأدوات والمعدات اللازمة، ليعكس روح التكافل والتضامن التي تميّز هذه المسيرة.
إذا أردنا أن تتحول زيارة الأربعين إلى مشروع قيمي مؤسَّس، فعلينا دعم المؤسسات المجتمعية لتطوير مواكب تقدم خدمات نوعية مثل: نشر الوعي البيئي والعناية بالموارد الطبيعية، مكافحة الفساد والتوعية بمخاطره، الدعوة إلى الإصلاح ونشر العدالة الاجتماعية، هذه المواكب يمكن أن تصبح منابر توعية ميدانية، تزرع في المشاركين قيم المواطنة والالتزام المجتمعي.
ومن الضروري أن لا تبقى قيم زيارة الأربعين حبيسة الشعارات الموسمية، بل أن تُدمج في المناهج التربوية منذ المراحل الابتدائية وحتى المتوسطة، مثل ترسيخ قيم العمل الجماعي والتكافل الاجتماعي والعدالة ومحاربة الفساد، إذا تم ترسيخها في التعليم، ستثمر على المدى الطويل في صناعة مواطن صالح يحمل وعيًا جماعيًا ومسؤولية مجتمعية راسخة.
ليست زيارة الأربعين مجرد مسيرة حب للإمام الحسين (عليه السلام)، بل هي مدرسة مواطنة متكاملة، تعلّم الناس التعاون والانضباط، وتحفّزهم على تجاوز انقساماتهم، وتعيدهم إلى إنسانيتهم في زمن تغلب عليه الأنانية والانقسام.
حدث ديني وثقافي يعيد تشكيل الوعي بالمواطنة
- الاستاذ أوس ستار الغانمي، صحفي في شبكة النبأ المعلوماتية:
زيارة الأربعين تحمل خصوصيات دينية وثقافية فريدة، فهي لا تقتصر على كونها شعيرة دينية تُخلّد ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بل تمثّل أيضًا مظهرًا للتكافل والتعاون الاجتماعي، إذ يشارك فيها الملايين من مختلف القوميات والطوائف والمذاهب، هذه المشاركة الجماعية تُعزز الشعور بالانتماء للوطن، وتُعيد تشكيل الوعي بالمواطنة كقيمة قائمة على التعايش والاحترام المتبادل، حيث يتقاسم الجميع الطريق والخدمة والرؤية.
يمكن للسياسات الفاعلة أن تُحوّل زيارة الأربعين إلى نموذج قيمي من خلال تبني برامج تعليمية وإعلامية تُسلّط الضوء على القيم التي تجسدها الزيارة، مثل التضحية، والعدالة، وخدمة الآخر، كما يمكن تعزيز هذا النموذج بإشراك المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني في تنظيم الفعاليات الثقافية المصاحبة للزيارة، وربطها بمفاهيم المواطنة والتنوع والهوية الوطنية، ليصبح الحدث السنوي فرصة حقيقية لتقوية اللحمة الوطنية والتماسك المجتمعي.
أكبر تجمع بشري رسالة حضارية عابرة للحدود
- جواد العطار، عضو برلمان سابق:
زيارة اربعينية الامام الحسين ليست مناسبة عادية في العراق وحسب؛ بل هي أكبر تجمع بشري على مستوى العالم وفق اخر الاحصائيات، وبما تحمله من قيم ومعاني تكون بالمرتبة الاولى للمناسبات الدينية في العالم الإسلامي، حيث يتجه المسلمون من كل بقاع الأرض لإحياء هذه المناسبة الحزينة التي توثق تأريخيا الحزن والالم والحسرة على مصيبة آل بيت النبوة في كربلاء المقدسة اثر واقعة الطف الاليمة.
هذا التجمع البشري هو ساحة عفوية لتلاقي الحضارات وبوتقة لصهر التقارب بين مختلف التوجهات والاراء ومساحة حرة للنقاش في قضايا الدين والاوطان، لكن ما نحتاجه فعلا هو مأسسة هذه المناسبة، فالدعوات يجب ان توجه الى ممثلي كل المذاهب والاديان وبرعاية الدولة العراقية حتى يشاهدوا عظمة المشهد المهيب في زيارة الاربعين وحتى تكون مناسبة للتقارب والنقاش على أسس وضعها الامام الحسين عليه السلام قبل أكثر من ١٤٠٠ عام وما زالت راسخة ثابتة يتناقلها الناس جيلا بعد جيل.
ان الأداء المؤسسي الجامع الشامل هو الذي يمكنه ان يترك اثرا ايجابيا في المجتمع والناس، وهو الذي يمكنه ان يرسخ في ذاكرة الاجيال القادمة مشهد جموع الملايين وهي تحف المرقدين الطاهرين قادمة من كل حدب وصوب اغلبها سيرا على الاقدام، وتجعل من المناسبة مؤتمرا للشعوب ووقعا ايجابيا على كافة الصعد والنواحي للإسلام والمسلمين.
علامة مميزة للمواطنة والتماسك المجتمعي
- الاستاذ حسن كاظم السباعي، باحث اكاديمي:
تحوّلت زيارة الأربعين إلى سمة متفردة تخص العراق دون سواه، بل أصبحت، إن صح التعبير، "ماركة" وعلامة مسجّلة تقترن تلقائيا باسم العراق، وتُعرَف بها البلاد في المحافل الدولية والشعوب البعيدة قبل القريبة. هذه الظاهرة الكبرى أصبحت واقعا لا يمكن لأي جهة سياسية أو اقتصادية أو دينية تتعامل مع العراق، أن تتجاهله أو تمر عليه مرور الكرام، إذ لا بد من التكيّف مع ما تفرضه هذه المناسبة من تحوّلات كبرى على الأرض، تبدأ من الأرياف وتنتهي في قلب المدن الكبرى.
هذه الظاهرة تعطي فرصة للمواطنين ولمختلف مكونات الشعب العراقي أن يعرِّف نفسه من خلال ما يستطيع فعله تجاه هذه الظاهرة، كل حسب موقعه وحجمه وقدراته، من المسؤول الأعلى في الدولة إلى أفقر مواطن على قارعة الطريق، والجميع يهدف تنفيذ أمر الإمام الحسن العسكري عليه السلام التشريعي والتكويني الذي رسم أهم خمسة علائم للمؤمن الملتزم ليبرزها في زمن غيبة ولده الإمام صاحب العصر عليه السلام وجعل إحداها وأهمها زيارة الأربعين.
وحينما نعرف أن لهذا المَعلَم البارز جانباه الفردي والجماعي مما يميزه عن سائر العلائم الأربعة التي تحمل الجانب الفردي فقط، فإنه من الممكن أن تتحول إلى نموذج قيمي يعزز المواطنة والتماسك المجتمعي، حيث بالتكاتف والتعاون يستخرج الجانب الجماعي وفي نفس الوقت يخدم الجانب الفردي.
إن زيارة الأربعين تختزل جميع المفاهيم الدينية والثقافية والإنسانية التي تؤدي إلى ارتقاء المجتمع وتعزز وعي المواطنة؛ حينما تتجلى عظمة الله والحسين (عليه السلام) كيف أعزه ونصره بعد مرور أربعين يوما فقط من أفجع حادثة شهدها التاريخ بأكمله! فيحذو السائرين حذوه على أن لا يفقدوا أملهم مهما كانت أو تكون الظروف حالكة وشديدة.
وفي ختام الملتقى الفكري أجمع المشاركون على استثمار القيم الانسانية التي تظهر بقوة خلال زيارة الاربعين من تعاون وتكاتف واحترام للتنوع وتقدير الانسانية، في صياغة سياسات وطنية شاملة، لتحويل هذا الحدث العظيم من مناسبة طقسية الى محرك دائم لتعزيز الهوية الوطنية والمواطنة الفاعلة، كما تقدم الباحث الدكتور اسعد كاظم شبيب بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك برأيه حول الموضوع سواء بالحضور او من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجه بالشكر الى الدعم الفني الخاص بالملتقى الفكري الاسبوعي.
اضف تعليق