ما يثير الانتباه أيضًا، هو كيف يساهم هذا الاقتصاد في تحريك الدورة الاقتصادية للبلد بشكل غير مباشر. خلال الزيارة، ترتفع معدلات الطلب على المواد الغذائية، معدات الطهي، أدوات البناء، الخيم، المستلزمات الطبية. لكن معظم هذه المشتريات لا تدخل في سجلات الحكومة كجزء من الناتج المحلي...

في كل عام، وعلى مدى أربعين يوماً بعد عاشوراء، تتحول كربلاء إلى مسرح هائل لحدث ديني وروحي واجتماعي واقتصادي فريد: زيارة الأربعين. ملايين الزائرين يتدفقون سيراً على الأقدام من كل المدن العراقية، ومن بلدان أخرى أيضاً، باتجاه ضريح الإمام الحسين (عليه السلام). لكن ما يثير التأمل هنا ليس فقط حجم الحشود أو الطابع الديني للحدث، بل ما يمكن تسميته بـ"الاقتصاد غير المرئي"، أو "اقتصاد العطاء"، الذي يرافق هذه الزيارة ويعيد تعريف مفاهيم التبادل والقيمة.

في لغة الاقتصاد التقليدي، تُقاس الحركة الاقتصادية بعدد المعاملات، حجم البيع والشراء، الإيرادات والمصروفات، وحركة السوق. أما في زيارة الأربعين، فنحن أمام نموذج معاكس تمامًا: ملايين من الناس تُقدّم وتستهلك من دون أن يدفع أحد فلسًا واحدًا. الطعام، الشراب، الإيواء، وحتى العلاج والنقل، تُقدم بالمجان. لا بضاعة تُشترى، ولا مال يُتداول كما في الأسواق، ومع ذلك فهناك اقتصاد ضخم يعمل بكل دقة وتنظيم.

هذا الاقتصاد يُدار من قبل الناس، لا الحكومات. من قبل القرى الصغيرة، لا المؤسسات الكبرى. مواطن بسيط يفتح موكبه أمام الزائرين ويخدمهم لوجه الله. آخر يتكفل بعلاج المجروحين. شباب ينظفون الطرقات. نساء يطبخن آلاف الوجبات يومياً. الكل يعمل بلا مقابل. في اقتصاد السوق، هذا أمر غير مفهوم. لكنه في اقتصاد الأربعين، هو القاعدة.

في هذا النموذج، الكرم هو العملة المتداولة. الخدمة هي رأس المال. والنية الصادقة هي المحرك الأساسي. العطاء لا يُنتظر عليه مردود، بل إن الخدمة نفسها هي المكافأة. وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في مفاهيم كثيرة. هل الاقتصاد بالضرورة قائم على الربح؟ وهل القيمة مرتبطة دائمًا بالنقود؟ زيارة الأربعين تجيب: لا.

لكن هذا لا يعني غياب التنظيم أو غياب الحسابات. بل على العكس، هناك دقة لوجستية عالية، رغم العفوية. كل موكب يعرف موقعه، عدد وجباته، نوع الخدمات التي يقدّمها. هناك شبكات توزيع وتنظيم محلية، غير رسمية، لكنها فعالة. هناك تخطيط مسبق للتموين، وهناك سلاسل توريد، لكن من نوع مختلف: بدوافع روحية، لا ربحية.

ما يثير الانتباه أيضًا، هو كيف يساهم هذا الاقتصاد في تحريك الدورة الاقتصادية للبلد بشكل غير مباشر. خلال الزيارة، ترتفع معدلات الطلب على المواد الغذائية، معدات الطهي، أدوات البناء، الخيم، المستلزمات الطبية. لكن معظم هذه المشتريات لا تدخل في سجلات الحكومة كجزء من الناتج المحلي، لأنها غير محصورة بإيصالات أو ضرائب. ومع ذلك، فهي تخلق فرص عمل، وتحرّك الأسواق، وتدفع بعجلة التجارة. هذا هو "الاقتصاد غير المرئي" الذي لا تتحدث عنه التقارير الرسمية.

وهنا تبرز مفارقة: الحكومات تخطط لموازناتها بناءً على مؤشرات السوق، لكنها تغفل عن هذه الطاقة الشعبية الهائلة التي يمكن أن تتحول إلى نموذج اقتصادي بديل، أكثر إنسانية. اقتصاد لا يُبنى على المنافسة، بل على التعاون. لا على البيع، بل على الإيثار.

والأهم من ذلك، أن هذا النموذج يولّد شعوراً عميقًا بالكرامة، لدى من يعطي ومن يتلقى. الزائر لا يشعر بأنه مستهلك، بل ضيف مكرّم. والمضيف لا يشعر أنه "صاحب مصلحة"، بل خادم في مشروع حسيني أوسع من ذاته. هذه العلاقة تعيد بناء الثقة بين الناس، وهي ثروة اجتماعية لا تقدّر بثمن.

فهل يمكن أن نستلهم من اقتصاد الأربعين نموذجًا للحياة؟

أن نتعلم كيف يُبنى المجتمع على العطاء لا على الاستغلال؟

أن نعيد النظر في الاقتصاد لا كأرقام، بل كعلاقات بشرية تقوم على القيم والمعنى؟

قد يكون من الصعب أن نعمم تجربة الأربعين على كل تفاصيل الحياة، لكن من المؤكد أن فيها درساً عميقاً للعالم: ليس كل اقتصاد يُقاس بالنقود، وليس كل قيمة تُسجّل في دفاتر البنوك.

اضف تعليق