حريٌ بالحوزة الدينية التأهل من مؤسسة تعليمية محدودة إلى مؤسسة شاملة جديرة بمهمة بناء مجتمع متدين وحضاري يجمع بين الأصالة والمعاصرة. من خلال التعليم، والتربية، والإصلاح، والتكافل، والاستقلالية، يقدم الإمام الشيرازي نموذجاً متكاملاً لمسؤولية الحوزات الدينية في مواجهة التحديات الراهنة بمختلف أشكالها. تجربته العملية في تأسيس الحوزات تؤكد...

الحوزات الدينية تُعدّ من المؤسسات التعليمية والاجتماعية العريقة في التاريخ الإسلامي، حيث شكلت مراكز لتعليم العلوم الشرعية، وأدت دوراً محورياً في صياغة الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية. في فكر المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347-1422هـ)، تتخطى الحوزات وظيفتها التقليدية لتصبح أداة شاملة لبناء مجتمع حضاري متكامل يجمع بين التراث الديني والتطلعات المعاصرة. يرى الإمام الشيرازي (قدس سره) أن الحوزات الدينية ليست مجرد أماكن لتدريس الفقه والعقائد، بل هي مؤسسات متعددة الأبعاد تهدف إلى إصلاح المجتمع، وتعزيز قيمه الأخلاقية، ومواجهة التحديات المعاصرة.

الإطار التاريخي والفكري

وُلد الإمام الشيرازي الراحل في مدينة النجف الأشرف، وفي بيئة غنية بالتراث العلمي والديني، حيث تنتمي أسرته إلى سلسلة نجيبة وعريقة من المراجع والفقهاء والعلماء. تلقى تعليمه الأولي في حوزة النجف، ثم انتقل إلى كربلاء المقدسة حيث بدأ تدريس بحث الخارج، وهو في سن الثلاثين. لاحقاً، هاجر إلى الكويت ثم إلى قم المقدسة في إيران، بعيداً عن اضطهاد نظام البعث في العراق، حيث واصل نشاطه المرجعي والفكري والاجتماعي حتى رحيله عام 2001.

اشتهر الإمام الشيرازي بمؤلفاته الغزيرة التي غطت مجالات متنوعة مثل الفقه، الأصول، والتاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع. يتمحور فكره وبحثه المتواصل (قدس سره) حول مفهوم النهضة الحضارية الإسلامية، التي يراها مشروعاً شاملاً يعتمد على الجمع بين التراث الإسلامي والمعطيات الحديثة، ويعتبر الحوزات الدينية العمود الفقري لهذا المشروع.

الأسس الفكرية للحوزات مجتمعياً

يرى الإمام الشيرازي أن "الحوزة هي عصب الدين، وهي التي تقود المسلمين إلى شاطئ الأمن والسلام" (نظام الحوزات العلمية – ص 11). كما يصرّح بأن الحوزات الدينية ينبغي أن تكون مراكز إشعاع إيماني وفكري واجتماعي وأخلاقي وحضاري، لذلك يشدد (قدس سره) على الجوهر الإيماني والأخلاقي للحوزويين؛ أساتذة وطلبة، فيقول: "تقوم الحوزات العلمية على ركنين مهمين هما التدين والأخلاق، فبدون هذين الركنين لا تقوم للحوزة العلمية أية قائمة" (نظام الحوزات العلمية – ص 16). وعليه، يؤسس رؤيته على عدة مبادئ أساسية:

التعليم الشامل

وفي الوقت الذي يرى أنه يجدر بأساتذة الحوزات مميزات فريدة وعالية، فيقول: "يلتف الناس حول الأساتذة الذين يمتازون عن غيرهم بالمزيد من التقوى ومعالي الأخلاق" (نظام الحوزات العلمية – ص 18)، يؤكد (قدس سره) أن الحوزات ينبغي أن تتجاوز التعليم الفقهي التقليدي لتشمل العلوم الإنسانية والطبيعية، مما يُمكِّن الحوزويين من فهم الواقع المعاصر وتقديم حلول عملية لمشكلاته. كما يدعو الى تطوير التعليم الفقهي نفسه، ويوضح بالقول: "تطوير الفقه يشتمل على المضمون والأسلوب معاً، فالمضمون يأخذ بالتقدم العلمي والتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الاعتبار مع الحفاظ على الأطر الشرعية الثابتة، والأسلوب يعمل على تدوين المسائل الفقهية كما تدون القوانين" (المرجعية الإسلامية – ص 95).

يدعو في كتابه "فقه المستقبل" إلى تطوير المناهج الحوزوية لتتضمن دراسة الاقتصاد، والسياسة، والتكنولوجيا، مع الحفاظ على الأصول الشرعية. أيضاً، يحذر في كتابه "المرجعية الدينية" من عدم تغيير وتطوير البنية العلمية للحوزات الدينية، فيقول: "الإبقاء على القديم وعدم تطوير المناهج، سيتسبب في انغلاق طلبة العلوم الدينية، وانكفائهم على أنفسهم، وعدم قدرتهم على التجاوب مع الأحداث المعاصرة، الأمر الذي يجعلهم في عزلة عن الناس فلا يستطيعون حل مشكلاتهم من الوجهة الدينية" (ص 92).

التربية الأخلاقية

يعتبر الإمام الشيرازي أن الهدف الأسمى للحوزات الدينية هو تربية الإنسان المسلم تربيةً أخلاقية تجمع بين العلم والورع والعمل الصالح. يرى أن الحوزة يجب أن تكون "مصنعاً للرجال"، أي مكاناً ينتج أفراداً يتمتعون بالوعي الديني والمسؤولية الاجتماعية، فيقول (قدس سره): "طلبة العلوم الدينية هم القاعدة التي تقوم عليها المرجعية الدينية، فمن هؤلاء الطلبة سيتخرج وكلاء المرجع، ومنهم سينتشر العلم والفضيلة بين أبناء المجتمع، ومن وسطهم سيبرز الخطباء والكتاب والعلماء، لذا لابد من الاهتمام بهم، لأن الاهتمام بهم سيؤدي إلى ظهور مرجعية قوية مؤثرة في المجتمع الإسلامي" (المرجعية الإسلامية – ص 87).

الإصلاح الاجتماعي

يدعو (قدس سره) الحوزات إلى القيام بدور فعّال في مكافحة الجهل، والفقر، والظلم، من خلال نشر الوعي الديني وتعزيز العدالة الاجتماعية. يرى أن المنبر الحسيني، كجزء من النشاط الحوزوي، يمثل منصة قوية لتوعية الجماهير وتحفيزهم على التغيير.

التكافل والتنمية

يؤمن الإمام الشيرازي بأن الحوزات يجب أن تكون مراكز دعم اقتصادي واجتماعي للمجتمع. يشجع على إنشاء مؤسسات خيرية تابعة للحوزات تقدم الدعم المادي والمعنوي للفقراء، مثل بناء المساكن، المستشفيات، والمدارس.

الاستقلالية

يشدد (قدس سره) على ضرورة استقلال الحوزات عن السلطات السياسية، معتبراً أن خضوعها للحكومات يحد من قدرتها على أداء دورها الإصلاحي. يرى أن الحوزة يجب أن تظل صوت الشعب ومدافعة عن حقوقه، وناصرة لمظلوميه، وداعمة لمحروميه، بعيداً عن التأثيرات الخارجية، وهو استلهام لوصيّة الإمام أمير المؤمنين لولديه الإمامين الحسن والحسين (سلام الله عليهم): "قولا بالحق، واعملا للآخرة، وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا" (بحار الأنوار. ج 42 – ص 256). مؤكدًا ضرورة مقاومة الظلم ودعم الضعفاء، وهو مبدأ جوهري في قيادة ناصر المظلومين وسيد العادلين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

الأبعاد العملية لدور الحوزات الدينية

يرى الإمام الشيرازي أنه "ينبغي للحوزة الدينية أن تقود الناس إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم" (نظام الحوزات العلمية – ص 11). وهكذا، لم يكتفِ (قدس سره) بالطرح النظري، بل ترجم رؤيته للحوزة إلى واقع عملي من خلال مجموعة من المبادرات التي تعكس شمولية فكره:

تأسيس المؤسسات التعليمية

أسس (قدس سره) عدداً من الحوزات في مدن مثل كربلاء، وقم، والكويت، ورعى الحوزة العلمية في مدينة السيدة زينب في سوريا التي شيدها أخوه آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي. هذه الحوزات لم تقتصر على التعليم الديني فحسب، بل شملت نشاطات ثقافية واجتماعية، مما جعلها مركز جذب للطلاب من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

النشاط الثقافي والإعلامي

أسس الإمام الشيرازي دور نشر، ومكتبات، وإصدارات تهدف إلى نشر الفكر الإسلامي المستنير. كما دعم إقامة المؤتمرات والندوات العلمية التي تناقش قضايا المجتمع المعاصرة من منظور ديني.

المشاريع الاجتماعية

شجع (قدس سره) على بناء المستشفيات، ودور الأيتام تحت إشراف الحوزات، معتبراً أن هذه المشاريع تعزز التكافل وتساهم في رفع مستوى المجتمع.

مواجهة التحديات السياسية

عانى الإمام الشيرازي من اضطهاد الأنظمة الديكتاتورية، لكنه استمر في الثبات على مواقفه، فكان وما زال في ذاكرة المجد الحوزوي، أيضاً، رغم القمع وتكبيل حركته بفرض الإقامة الجبرية عليه، واصل دعمه للحوزات كمراكز فكرية وأخلاقية إصلاحية نهضوية ضد الظلم، مع الحفاظ على خطاب واضح وراسخ يدعو إلى اللاعنف والإصلاح السلمي.

الحوزات كمحرك للنهضة الحضارية

في رؤية الإمام الشيرازي، الحوزات هي العمود الفقري للنهضة الحضارية الإسلامية. يرى أن الحضارة لا تقوم على العلم المادي وحده، بل تحتاج إلى أساس أخلاقي وروحي يمكن أن تقدمه الحوزات الدينية. يشير في كتابه "الطريق إلى نهضة إسلامية" إلى أن الحوزات يمكن أن تقود عملية التغيير من خلال:

- نشر التعليم ومحو الأمية.

- تعزيز الوحدة الإسلامية بين المذاهب.

- تقديم نموذج للحكم الرشيد يعتمد على الشورى والعدالة.

تأثير رؤيته

أثْرَت رؤية الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) على الحركة الحوزوية المعاصرة بطرق متعددة:

ساهمت في توسيع دائرة اهتمام الحوزات لتشمل قضايا اجتماعية واقتصادية، وألهمت جيلاً من العلماء للتفكير خارج الإطار التقليدي. في المقابل، واجهت رؤيته مقاومة من "أوساط تقليدية" رأت في دعوته للتطوير تهديداً للتراث. كما أن استقلالية الحوزات التي يؤكدها الإمام الشيرازي قد تجعل الحوزات عرضة لضغوط مالية وسياسية.

التحديات المستقبلية

تواجه رؤية الإمام الشيرازي تحديات معاصرة، منها:

- التكيف مع العولمة والتكنولوجيا الحديثة.

- التوازن بين الاستقلالية والحاجة إلى دعم مؤسسي.

- مواجهة الانقسامات السياسية والمذهبية التي تهدد دور الحوزات كعامل وحدة.

خاتمة

في فكر المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1928-2001)، حريٌ بالحوزة الدينية التأهل من مؤسسة تعليمية محدودة إلى مؤسسة شاملة جديرة بمهمة بناء مجتمع متدين وحضاري يجمع بين الأصالة والمعاصرة. من خلال التعليم، والتربية، والإصلاح، والتكافل، والاستقلالية، يقدم الإمام الشيرازي نموذجاً متكاملاً لمسؤولية الحوزات الدينية في مواجهة التحديات الراهنة بمختلف أشكالها. 

تجربته العملية في تأسيس الحوزات تؤكد أن هذه الرؤية ليست مجرد نظرية، بل مشروع طموح قابل للتطبيق. مع ذلك، يبقى نجاح هذا المشروع مرهوناً بقدرة الحوزات على التكيف مع المتغيرات الراهنة، مما يجعل أفكار الإمام الشيرازي مرجعاً حيوياً لتأهيل بنية الحوزات الدينية وتنمية وتطوير قدراتها وصولاً لإنجاز مسؤوليات الدور الذي يجدر بها في الحاضر والمستقبل.

اضف تعليق