صراع محتدم بين السلطة والفكر، يقتنصه التاريخ ويثبته الواقع، وكلما زاغت السلطة بعيدا عن الشرعية، كان الفكر من أشرس المتصدين لها، فتجري في الخفاء مساجلة محتدمة بين القطبين، تدوّن ذلك مدوّنات التاريخ بأبعاده الزمنية المنظورة والبعيدة، لتمنح الباحث فرصاً كفيلة بتسليط الضوء على المخفي من هذا الاحتدام.
فيزداد أوار المعركة ولا ينحصر بالأساليب المادية كالتصفية أو السجن أو النفي، لأن منهج السياسة يقوم على احتواء الآخر وهدفها ترويضه وتدجين كل ما يتصل بعملية الاحتواء لو صحّ هذا التوصيف، والفكر قد يكون الضحية الأولى للسياسة، وفي نفس الوقت هو المقابل اللدود لها، ولن تخاف السياسة أحداً أو شيئا أو مقابلا بقدر ما تخشى سطوة الفكر، وتسييره للعقل كما يشاء، بما يؤثث إرعابا للسلطة الخارجة على الشرعية.
كثير من الساسة عندما يكونون خارج السلطة، يراودهم سؤال حثيث مفاده، لماذا تخشى السياسة الفكر، ولماذا يؤرقها الهدف الأهم بوضع الفكر تحت جنحها أو مظلتها أو بالأحرى تحت هيمنتها وأوامرها وبما يحمي سلطاتها، ثم ما الذي سيحدث عندما يُصبح الفكر تحت جنح السياسة، إن خشية السياسة من الفكر تعود إلى كونه السلاح الأمضى والأقدر من سواه على شل ألاعيب الساسة وكشفها على الملأ ما يؤدي بهم إلى السقوط في الهاوية بعيدا عن أحلامهم في الاستحواذ على فوائد السلطة غير القانونية.
توجد أمثلة فكرية يعجّ بها التاريخ، وحتى الواقع القريب أو الحالي، فهناك عقول وشخصيات لقّنت السلطة دروساً لا تزال البشرية تحفل بصنائعها، ومن الأمثلة القريبة أن الفكر الذي تمنطق به زعيم الأمة الهندية غاندي، كان يقوم على رفض الاستعمال السيّئ للقوة، فكافح من أجل نشر أفكاره في مواجهة ظلم الاستعمار البريطاني، ولم يطلق في سبيل هدفه الرجولي هذا طلقة واحدة، ولا تتضمن جميع خطاباته مفردة عنيفة واحدة، فكان فكره القائم على مواجهة الاحتلال بالفكر والعقل والصبر والمطاولة هو المنهج الصامد الذي أزعج فيه قيادات الانكليز وجيوشها الجرارة، لينتهي الصراع بهزيمتها الساحقة، وهكذا تفوق الفكر على السلطة، ليس فكر الفرد، لأن غاندي صار يمثل الأمة الهندية كلها في صراع ضد السلطة الاستعمارية.
وما زعزع ركائز السلطة في مقابل الفكر، ابتعاده عن العنف، فكانت ثورة الملح هي الصورة الأدق وضوحا لثورة الفكر الزعيم الهندي ذي الإرادة الراسخة، وهي التي أشعلت فتيل المواجهة مع الساسة الانكليز وجعلت كل مساعيهم تذهب سدى، لقد هزم الفكر السياسة في عقر دارها، وطرحها أرضا وهي في أشد درجاتها فتكا وشراسة، فكانت سياسة الحديد والنار في مواجهة خاسرة أمام الفكر الذي تمكن من غلق كل مسالك العنف أمام جحافل الجيوش البريطانية، فألحق بها هزيمة فكرية قبل أن تكون عسكرية، وقد تكون هزيمة الفكر أشدّ فتكاً من هزيمة الجيوش لأنها تمهد لزعزعة ثقة القادة السياسيين بأنفسهم.
وفي مفاصل وحقب عديدة من التاريخ، لجأت السياسة إلى ابتزاز الفكر بطرق أقل ما يُقال عنها أنها وضيعة، وقد لا نخطئ حين نرصد هذه المساعي في كثير من الإجراءات السياسية المحمومة الهادفة إلى إخضاع الفكر ووضعه تحت سطوتها، وكما نعرف يوجد بين الفكر والعلم ترابط وثيق، وعندما نبحث عن مثال فعلي، فإن سياسة الاستعمار هي المثال الأوفر حظاً هنا.
ففي منتصف القرن الماضي قامت السياسة الأمريكية بأبشع حملة استغلال للعلم والفكر معا، عندما أجبرت الأخير بالتفكير لإيجاد وسيلة تكسر شوكة العدو الياباني اللدود، وبعد سجال وصراع مرير في ساحات الوغى، أثبت فيه اليابانيون أنهم من المحال أن تنكسر إرادتهم أمام القوة الأمريكية الضاربة، عند ذاك قام العلم السلبي بتصنيع القنبلة الذرية وألقيَت أول قنبلة نووية على مدينة هيروشيما في الهجوم النووي وعلى ناغازاكي وهو هجوم نووي شنته الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945، هذا مثال منظور عما لجأت إليه السلطة باستغلالها الفكر العلمي بشكل خاطئ أو إجرامي.
وفي تجارب أخرى كثيرة كان الفكر تابعا للسياسة، وصار سبيلا لها حتى تستطيع أن تنفذ أجنداتها وألاعيبها، ولكن من جهة أخرى، كان للفكر صولاته العظيمة لتلقين السياسة ورجالاتها دروسا لا تُنسى، فالفكر الذي أنتجه المفكرون والكتاب الفرنسيون المحدثون، هو الذي مهّد الطريق واسعا أمام الثورة الفرنسية التي رسمت في وجه التاريخ الإنساني بصمة عظيمة وراقية فتحت آفاق الحرية بأوسع أبوابها، وكان للفكر صولاته في مواجهة السياسة والإفلات من قبضتها، ومن هذا القبيل يستمر صراع الفكر مع قادة السياسة وطغاتها في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وقد كان للمفكرين والكتاب من أصحاب العقول النافرة وقفة عظيمة للفكر ضد السلطة بكل أنواعها.
من هؤلاء المفكرين الذين تصدّوا للسلطة وبطشها، المفكر والكاتب العظيم صاحب روية (السيد الرئيس) وهي رواية شهيرة كتبها (ميغل أنخل أستورياس) عام 1946 وحصل بفضلها على جائزة نوبل في الأدب عام 1967، وتعد هذه الرواية علامة بارزة في أدب أمريكا اللاتينية، ومع ذلك فقد بقيت محجوبة عن الوطن العربي حتى عام 1985 ربما لتشابه ظروف الرواية مع أحوال معظم الدول العربية، وقدر استمد أستورياس مادة روايته من سنوات حكم "كابريرا" الذي حكم بلده غواتيمالا لعشرين سنة حكما دكتاتوريا غاشما، بيد أن المؤلف يعمد إلى الصور البلاغية الجديدة في تصوير شخصياته ويغلف روايته بستار شفاف من السخرية والواقعية السحرية وفولكلور السكان الأصليين للقارة مما جعل من هذه الرواية درة أعماله التي توجت بفوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1967، وقد حملت فكرا ساخرا ثوريا عجّل بسقوط الدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية وغيرها.
فالسلطة تنظر بتوجس نحو الفكر، وتعدّه بمثابة رأس الأفعى، إذا تمّ قطعه ستكون بأمان، وستحصل على كل ما تريده بقوة البطش السلطوي، لكن يبقى الفكر من ألد أعداء السياسة القمعية والساسة المستبدون، وتُعلن الحرب السجال بين الفكر من جهة، وبين السياسة وطغاتها من جهة أخرى، وفي الأغلب الأعم تطول الهزيمة السياسة والطغاة، ولم يسجل التاريخ (ولو في حالة واحدة) فوزا للسياسة على الفكر، إلا في حالات الابتزاز والاستبداد الذي لن يبقى أبديا، حيث تنتهي دورة الصراع دائما بهزيمة السلطة، وتفوق الفكر عليها في آخر المشوار.
لكن علينا أن نتبنى الموضوعية في رسم أبعاد هذا الصراع، فنقول لابد في النهاية أن نعترف بأن الفكر حين يكون تحت مظلة السياسة، تتراجع الشعوب وتضمحل الأمم، وإن حدث العكس، حين يأخذ الفكر مداه الكامل، وحريته في العمل والتأثير والانتشار، فلن يكون هناك أحد قادر على مواجهة هذا التأثير والامتداد، حتى أبشع السلطات وأقواها وأكثرها دموية، لن تكون قادرة على إدارة دفة الصراع مع الفكر المتوقّد إلى ما لا نهاية، فحتما سيلوح في الأفق خط النهاية التي سوف تسقط فيه السلطة لصالح الفكر.
اضف تعليق