لقد بيّنت لنا الصفحات الناصعة للتاريخ، الشخصية الفذة للإمام علي عليه السلام، وكيف تعامل مع بن ملجم، وكيف أمر بإطعامه نفس طعام أولاده وبيته، ومعاملته المعاملة التي تليق بالإنسان، كما أوصى بذلك الإسلام، ثم كانت تلك الوصية التي عبّرت عن شخصية الإمام علي عليه السلام المتفردة...
نكهةٌ خاصة في نفوس وقلوب المسلمين لهذه الأيام الرمضانية، وحزنها الأثير الذي يخيّم على الجميع، ففي مثل هذه الأيام تتكرر ذكرى المصاب الجلل، المتمثل باستشهاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في فعلة غادرة قلما شهد التاريخ مثيلاً ها، اقترفها جاحد ناكر للجميل مخادع لئيم حلّت به لعنة لا تزول أبد الدهر، إنه الملعون بن ملجم الذي جازى اليد التي أطعمته وآمنته من جوع، والقلب الذي أسكنه وآمنه من اليتم والتشرد، فامتدت يده الرعناء بسيف الغدر وهوت بحقد اليائسين المهزومين، على رأس الإمام علي عليه السلام، وهو في محراب الصلاة يؤم المسلمين فجرا، لتدوّي في الأرجاء تلك الكلمات العظيمة التي ردّدت صداها السماء: لقد فزتُ ورب الكعبة.
فماذا حدث بعد هذه الجريمة النكراء؟
لقد بيّنت لنا الصفحات الناصعة للتاريخ، الشخصية الفذة للإمام علي عليه السلام، وكيف تعامل مع بن ملجم، وكيف أمر بإطعامه نفس طعام أولاده وبيته، ومعاملته المعاملة التي تليق بالإنسان، كما أوصى بذلك الإسلام، ثم كانت تلك الوصية التي عبّرت عن شخصية الإمام علي عليه السلام المتفردة، وأظهرت إنسانيته العظيمة، وكل هذه لم يكن إلا حصيلة للتربية النبوية التي أغدقت بعلمها على الإمام عليه السلام، فقد كان الأقرب لرسول الله (ص)، وكان التلميذ النجيب له، فاغترف من عظيم علمه وواسع حلمه، حتى صار الباب الأعظم للعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حق علي بن أبي طالب عليه السلام: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب.
ومما هو لافت في شخصية الإمام علي عليه السلام، أنه شخصية جامعة للمكارم، تمور في أعماقها الأضداد، فهو (ع) أبو الأيتام ومنبع الرقّة والشفقة، وهو كنز الإنسانية الذي لا ينضب، وفي نفس الوقت هو السيف البتّار والقلب المغوار، إذا تعلّق الأمر بالمعادين لرسالة النبي (ص) من الكفار، فهو حامل ذو الفقار، وحامل القلب الذي يسع الكون حلما ورحمة، حتى أنشد الشعراء في شخصيته قصائد لا تُنسى، لما حملته من بديع البيان، وفرائد التورية والطباق والجناس.
الإمام الشيرازي تكلّم عن ذلك فقال في أحد مؤلَّفاته عنوانه (المعصومون الأربعة عشر): (جُمعت في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام صفات لم تُجمع في أحد قبله ولا بعده، وقد جمعت فيه الأضداد من المكارم، وإلى ذلك يشير صفي الدين الحلّي بقصيدة له في الإمام علي عليه السلام:
جُمعت في صفاتك الأضداد فــلهذا عزت لك الأنـداد
زاهد حاكم حليم شـــــــــــــــــــــجاع نـــــاسك فاتك فقير جـواد
شيمٌ ما جمعن في بشر قط ولا حـــــــــاز مثلهن العبـاد
خلق يخجل النسيم من اللطف وبأس يذوب منه الجماد
جلَّ معناك أن يحيط به الشعر وتحصي صفاته النقاد).
كُتِبَت عن الإمام عليه السلام، قصائد عصماء تغنت بخصاله وتفرّد شخصيته، ليس تزلّفا ولا تقرّبا لمصلحة أو فائدة، بل إحقاقاً للحق، وإنصافا للعمق، وإعجابا بما يستحق الإعجاب، وفي المجال البلاغي بحث النقاد في أعظم كتب اللغة واستكشفوا جمالياتها وأسرارها، ونعني به كتاب (نهج البلاغة) لسيد البلغاء، وموئل العلم والعلماء، العالِم وأمير الفقهاء الذي تتلمذ على يد أستاذه وابن عمه، الرسول الأكرم (ص)، فنهل من العلم حتى أقصاه، ومن الكلام أبلغهُ، ومن الإنسانية أروعها، ومن الشجاعة أثبتها، ومن الشفقة أعظمها، فجمع في شخصيته الأشباه والأضداد، وصار الأعلم، حتى قال فيه أستاذه الرسول الأكرم: أنا مدينة العلم وعلي بابها.
(كان أمير المؤمنين عليه السلام أعلم الناس وأفقههم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، والشواهد على ذلك كثيرة تفوق الإحصاء، منها: تصريح النبي صلى الله عليه وآله بأعلميته على الأمة حيث قال :(أعلمكم علي)، وقوله: علي أعلمكم علماً وأقدمكم سلماً. وقوله صلى الله عليه وآله: أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب) (المصدر: كتاب المعصومون الأربعة عشر للإمام الشيرازي).
ومما تساوق في شخصيته من ميزات، حُسن البيان، وفصاحة اللسان، ورهافة الحسّ، يقابلها ثبات القلب في حومة الوغى واشتداد الأوار، فاندمج الثبات والإيمان مع العلم والجمال من بليغ الكلام والتدوين، في خطَبٍ ورسائل وأشعار قمة في المعنى والعمق وتأثير البديع، وما كتاب (نهج البلاغة) إلا علامة فارقة في عالم اللغة والفقه اللغوي وأبجدياته، يُضاف إليها حكمته، وقدراته المائزة في القضاء، حتى قال فيه الأصدقاء والأعداء، بأنه الأكثر حنكة في فض العُقَد، والأعظم مقدرة على العفو، هذا الجمع للأضداد في شخصيته عليه السلام، منحهُ التميّز من بين الجميع، علماً وحلما وعفوا وبلاغة، ما بلغها أيّ من المسلمين أو الصحابة:
حتى قال الإمام الشيرازي عن ذلك:
(ما جاء في خُطَبِ الإمام علي عليه السلام ورواياته ورسائله الشريفة، الدالة على مدى علمه، والذي لم يرد مثله أصلاً من بقية المسلمين، ولا أحد من الصحابة، وهذا (نهج البلاغة) خير دليل على ما نقول).
هذا غيض من فيض، كتبناه بحروف خجولة، في شخصية بلغت المراتب العليا، علماً وفصاحةً، أصالة، وحلماً، رحمة، وعفوا، وحسماً في الملمات والمحن، وهذه الأضداد التي جُمعت في شخصية الإمام علي عليه السلام، ما هي إلا دليل حاسم على تفرّده وتميزه من بين الجميع، مسلمون أو صحابة، وكل ما قيل أو يُقال عن الإمام علي عليه السلام، يبقى دائما بحاجة إلى المواصلة والإتمام في القادم من الأيام والأزمنة.
اضف تعليق